تَذْكِرةُ الشِّتاء 24/3/1438هـ
عبدالرحمن العليان
1438/03/30 - 2016/12/29 22:07PM
تذكِرَةُ الشتاء
الحمدُ للهِ العزيز الحكيم، ذي الفضلِ العظيم، وواهبِ الخير العميم، وأشهد ألا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، شهادةً نتمسك بها برحمته ما أبقانا، وندِّخرُها لشدائدِ ما يلقانا، نرجو بها بلوغَ رحمته، والوقايةَ من عذابِ الجحيم، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، الذي أرسله ربُّه بالنورِ الساطع، والضياءِ اللامع، والدينِ القويم، يهدي به من شاء إلى صراطٍ مستقيم، صلى الله وسلَّمَ وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.. أما بعد:
فأوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله سبحانه، ففيها النجاةُ من الخسار، والأمنُ والفوزُ في دارِ القرار، رَحِمَ اللهُ منِ اشتغلَ بما يعنيه، وأَمْسَكَ عما لا يعنيه، وما أَرْبَحَ من قال خيرا فغنم، وسكت عن شرٍّ فسلِم، واتبع رضوان ربه وله استسلم، والمعاصي عن التوفيق حجاب، ما لم يلازمِ المرءُ المتاب، ويكثرْ قرعَ الباب.
يقلِّبُ اللهُ الليلَ والنهار، ويداول بين فصول العام، حتى يجدُ الناس في عامهم نَفَسَيْن من جهنم - أعاذنا الله منها -، فأشدُّ ما يجدون من الحر، وأشدُّ ما يجدون من الزمهرير، فلقد خرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ).
ذلكم حالُها فكيف بحالِ أهلِهَا المـُقَاسِينَ عَذَابَهَا؟ جعلَ اللهُ فيها نوعين من العذاب متضادَّيْن: أشدَّ الحر، وأشدَّ البرد، إذا أحرقهم حرُّها وقطع أمعاءَهم حميمُها؛ نادوا بِبَرْدِهَا وغسَّاقِها، فيجدون من زمهريرها أشدَّ العذاب، وهم بين ذلك يتقلبون، فاللهم رحماك رحماك، ولذا كان من نعيم أهل الجنة السلامةُ من هذين الأذَيَيْن: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13].
وقد جعل اللهُ تعالى البردَ جندا من جنده، يسلِّطُه على من يشاء ممن عصَوْا رُسُلَه واتبعوا أمرَ كلِّ جبارٍ عنيد، كقومِ عادٍ الذين قال الله عنهم: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] أي ريحٍ مهلكةٍ باردة.
أما الحرُّ فمؤذٍ، وقد امتن الله على عباده بما يقيهم منهما فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] أي والبرد أيضا.
ولله تعالى الحكمةُ البالغة في تقليب الليل والنهار، وفي تنويع فصول العام، ولذا حرم على العبد أن يسب الريح أو الحرَّ أو البرد وإن تأذى منها؛ لأنَّ كلَّ ألئك تجري بأمرِ خالقها، بل يسأل الله تعالى خيرَها ويعوذُ به من شرِّها، قال الإمامُ ابنُ القيم رحمه الله: ((ثمَّ تَأمل بعد ذَلِك أحوال هَذِه الشَّمْسِ فِي انخفاضها وارتفاعِها لإقامة هَذِه الأزمنةِ والفصول، وَمَا فِيهَا من الْمصَالح وَالْحكم؛ إِذْ لَو كَانَ الزَّمَانُ كُلُّه فصلا وَاحِدًا لفاتت مصَالحُ الْفُصُولِ الْبَاقِيَة فِيهِ؛ فَلَو كَانَ صيفا كُلُّه لفاتت مَنَافِعُ مصَالحِ الشتَاء، وَلَو كَانَ شتاءً لفاتت مصَالح الصَّيف وَكَذَلِكَ لَو كَانَ ربيعا كُلُّه أو خَرِيفًا كُلُّه؛ فَفِي الشتَاءِ تغور الْحَرَارَة فِي الأجواف وبطونِ الأرض وَالْجِبَال، فتتولد موادُّ الثِّمَارِ وَغَيرُهَا، وتبرُدُ الظَّوَاهِرُ، ويستكثِفُ فِيهِ الْهَوَاء؛ فَيحصل السَّحَابُ والمطرُ والثلجُ وَالْبَرَدُ الَّذِي بِهِ حَيَاة الأرض وَأَهْلِهَا، واشتدادُ أبدان الْحَيَوَان وقوتُها وتَزَايُدُ القوى الطبيعيةِ واستخلافُ مَا حَلَّلَتْه حرارةُ الصَّيفِ من الأبدان...)).
أيها المؤمنون: لم يكنْ شدةُ البرد أيامَ العزة والتمكين مانعا للمسلمين عن القيام بما أوجب الله سبحانه من نصرة دينه، وإقامةِ شرعه، والجهادِ في سبيله لإعلاءِ كلمته، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فهذا ابن عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم- حُبسوا نحوا من ستة أشهر في أذربيجان وقد بلغت فتوحاتهم إلى هناك، حبسوا عن الرجوع بالثلج، حتى ذاب عنهم.
ولم تكن أجواءُ الشتاء ولا أمطارها صارفةً لأولي العزم من ذوي الهمم العلية عن طلب العلم، وابتغاء الفضائل، وبذل المعروف، بل إنَّ الشتاء عند المؤمن الفَطِن هو ربيعُ عامه، كما نطق بذلك كثير من السلف الصالح - عليهم رحمة الله -، وما ذلكم إلا لقصر نهاره مع برودة الجو للصيام، وطول ليله للقيام، ولذلك كان حقيقا أن يدعى الصيامُ والقيامُ فيه الغنيمةَ الباردة؛ إذ يكون بلا مشقةٍ ولا كبيرِ مجاهدة.
وإن بكى الصالحون إذا حضرهم الموتُ فإنما يبكون على فواتِ ليل الشتاء الذي يطول فيه قيامهم بين يدي الله قانتين، وبتلاوة آي الذكر الحكيم مطمئنين، بكى معاذُ بن جبل رضي الله عنه عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذِّكْر، وقال يحيى بن معاذٍ رحمه الله: الليل طويل فلا تقصره بمنامك. وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنه كان يقول إذا جاء الشتاء: يا أهل القرآن، طال ليلُكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصُرَ النهارُ لصيامكم فصوموا.
أيها المسلمون: وكما أن الشتاءَ غنيمة للصلاة، ففيه غنيمة في وسيلتها وشرطها الذي لا تصح إلا به، ألا وهو الوضوء؛ إذْ في شدة البرد تكون المشقة باستعمال الماء إذا كان باردا، فيرفع الله المؤمنَ بهذا درجات، ويحط عنه به الخطايا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) خرجه مسلم في صحيحه.
وخرج في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضا قولَه رضي الله عنه: سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوء).
فلشدة البرد أو لكثرة الملابس ربما لم يتنبهِ المتوضِّئُ لوصول الماء إلى سائر محل الفرض، فكان هذا الترغيبُ، وجاء الترهيبُ في حق من أَخَلَّ بالوضوء في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ويلٌ للأعقاب من النار) قالها ثلاثا، وأمر صلى الله عليه وسلم رجلا رأى عليه محل ظفر لم يغسل بأن يعيد صلاته.
وهذا كله فيما إذا كانت كلفة محتملة معتادةً، أما إذا خيف الضرر باستخدام الماء البارد وليس ثَمَّ ما يسخِّنه به فيتمم حينئذ؛ فما جعل الله لعباده في دينهم من حرج، ويجوز له تسخين الماء حتى لو كان لا يتضرر باستخدامه، ولا يُكرَهُ له ذلك.
ومن تيسير الله تعالى على عباده وخاصة في فصل الشتاء: المسحُ على الخفاف والجوارب إذا كانت ساترةً محل الفرض، ولو كان بها ثقوب أو كانت شفافة ما دام يصدق عليها اسم الجوارب أو الخفاف، فيمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، إذا لبسها بعد الوضوء، والأحوط ألا يلبس الجوربَ للقدم الأولى حتى يغسلَ القدم الثانية، وتبدأ مدة المسح من أول مسح بعد حدث.
ويكون المسح على أعلى الخف وهو ظاهر القدم، أما باطن القدم وجانبها فلا مسح عليه.
وإذا توضأ ثم لبس جوربيه ثم خلعهما لم ينتقض وضوءه، وإذا أحدث وهو لابسٌ جوربيه، ثم خلعهما فإنه لا يجوز له أن يمسح عليهما إلا أن يتوضأ وضوءا جديدا كاملا بغسل القدمين، ثم يلبسَ جوربيه للمسح، ولا يشترط النية عند اللبس للمسح، فإذا لبسهما على طهارة ثم أراد أن يمسح ولم يكن نوى ذلك عند اللبس فلا بأس به.
وانتهاء مدة المسح لا تبطل الوضوء إلا بناقض، وليس انتهاء مدة المسح بناقض، ولو لبس جوربا فوق جورب فإن الحكم لما بدأ المسحُ عليه.
ومن مسح بعد المدة ناسيا ثم تذكر أثناء الصلاة قطع صلاته لأنه تذكر أنه يصلي بغير طهارة فلا تصح صلاته.
هذا، وربي تعالى أعلم، نفعنا سبحانه بكتابه المحكم، وهدي نبيه الأقوم، عليه من ربه أفضل صلاة وتسليمٍ وأتمّ.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ الأرباب، وصلى الله وسلم على المبعوثِ بالحكمةِ والكتاب، أما بعد:
فإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اشتد الحر أبرد بالصلاة أي أخرها إلى زوال الحر، وإذا اشتد البرد عجل بالصلاة، ونهى عن أن يغطيَ الرجل فاه في الصلاة، إلا من ريح باردة ونحوها، فلا ينهى عن ذلك.
وفي شدة البرد يكثر استخدام وسائل التدفئة من إيقاد النار ونحوها؛ فعلى المسلم في ذلك الحذر الذي أشار اليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن هذه النار عدو لكم..) متفق عليه.
أيها المؤمنون: هذا البرد خلق من خلق الله، يجري بأمره؛ لكنه عدو للإنسان، وقد أُمِرَ المسلم أن يدافع هذا القدر بقدر التوقي منه، فلقد كان الفاروق رضي الله عنه يبعث إلى الأمصار إذا أقبل الشتاء ويقول: إن الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب؛ فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه.
ألا فلا يعَرِّضِّنَّ مسلمٌ نفسَه ومن تحت يده لتهلكة البرد، وليتق الله في ذلك، وعليكم - أيها المؤمنون- أن تذكروا وأنتم في بيوتكم وأنتم في أنواع ألبستكم، ومتدثرون في متين أغطيتكم إخوانا لكم قد مسهم الضر، ونالهم البلاء، وتتابعت عليهم الشدة، وحاصرهم شبح التهجير من ديارهم، وألم الجوع والضر، وقسوة البرد القارص، ومرارةُ الظلم والخذلان، ولا ناصر لهم إلا الله ثم إخوانهم المؤمنون، وإن الله مبتليكم بأمثال هؤلاء، فقدموا من أموالكم ما تجود به أنفسكم، وحرضوا أهليكم وذويكم على الإنفاق والبذل مواساة لإخوانكم ومعذرة إلى ربكم.. فاللهم أعطِ منفقًا خلفا.
اللهم صلِّ وسلِّم على أكرمِ رسلك: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب...
المشاهدات 1741 | التعليقات 2
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية;34372 wrote:
عوداً حميداً شيخنا عبدالرحمن وشكر الله لكم هذا الطرح وهذا البيان وجعله في ميزان حسناتكم ونفع بكم دينه وعباده
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
عوداً حميداً شيخنا عبدالرحمن وشكر الله لكم هذا الطرح وهذا البيان وجعله في ميزان حسناتكم ونفع بكم دينه وعباده
تعديل التعليق