تحصين القلوب من المنكر

الحِسْبَةُ وَالمُحْتَسِبُونَ (8)
تَحْصِينُ القُلُوبِ مِنَ المُنْكَرِ
14/4/1435
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، الوَلِيِّ الحَمِيدِ، الكَرِيمِ المَجِيدِ؛ بَاسِطِ الخَيْرَاتِ، وَكَاشِفِ الكُرُبَاتِ، وَدَافِعِ النِّقَمِ وَالعُقُوبَاتِ، يُطَاعُ فَيُثِيبُ وَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَحْلمُ وَيَغْفِرُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ التَّدَافُعَ بَيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ سُنَّةً دَائِمَةً، وَقَضَى لِأَهْلِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَاليَقِينِ بِالعَاقِبَةِ، فَغَايَةُ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ العَاجِلَةُ، وَلِأَحْبَابِهِ سُبْحَانَهُ رِضَاهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ أَمْضَى حَيَاتَهُ كُلَّهَا فِي الاحْتِسَابِ عَلَى النَّاسِ؛ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَيَأْخُذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَيُقِيمُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، فَمَا فَارَقَهُمْ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ رَسَّخَ فِيهِمْ شَعِيرَةَ الحِسْبَةِ، وَرَبَّاهُمْ عَلَى التَّوَاصِي بِالحَقِّ وَالصَّبْرِ طَاعَةً وَقُرْبَةً، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي الدُّنْيَا كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، أَوْ كَعَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا، وَاعْتَبِرُوا بِمَا مَضَى مِنْ أَعْمَارِكُمْ، كَمْ تَقِيسُونَهُ بِالزَّمَنِ؟ وَهَلْ تَشْعُرُونَ بِطُولِهِ الآنَ؟ وَهَلْ تَحِسُّونَ بِمَا مَضَى مِنْ أَفْرَاحِكُمْ وَأَحْزَانِكُمْ؟ مَرَّتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، فَاعْتِبِرُوا بِمَا مَضَى مِنْ أَعْمَارِكُمْ لِمَا بَقِيَ مِنْهَا لَكُمْ، وَجِدُّوا فِي بِنَاءِ آخِرَتِكُمْ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَلَكِنَّهَا مَتَاعُ الغُرُورِ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قُطْبَ الدِّينِ وَرَحَاهُ، وَبِبَقَائِهِ مَيَّزَ هَذِهِ الأُمَّةَ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ، فَلاَ يَنْدَثِرُ فِيهَا الاحْتِسَابُ عَلَى النَّاسِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِبَقَاءِ طَائِفَةٍ مِنْهَا عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَأُمَّةُ الإِسْلَامِ نَالَتِ الخَيْرِيَّةَ بِالاحْتِسَابِ بِنَصِّ القُرْآنِ؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وَتَبْقَى خَيْرِيَّتُهَا مَا بَقِيَ الاحْتِسَابُ فِيهَا، وَتُنْزَعُ الخَيْرِيَّةُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَمُجْتَمَعَاتِهَا بِقَدْرِ مَا عَطَّلُوا مِنْ شَعِيرَةِ الاحْتِسَابِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ شَعِيرَةُ الاحْتِسَابِ قَوِيَّةً فِيهَا كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ لِخَيْرِيَّتِهَا، وَأَقْوَى لِرُكْنِهَا، وَأَظْهَرَ لِعِزِّهَا؛ لِأَنَّ تَعْطِيلَ الحِسْبَةِ سَبَبُ الذِّلَّةِ.
وَالمُنْكَرُ إِذَا دَهَمَ النَّاسَ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ رَدُّهُ وَرَفْضُهُ، وَتَعْطِيلُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَوَعْظُ مَنْ يَفْرِضُهُ وَيَشِيعُهُ وَيَنْشُرُهُ، فَإِنْ كَانَ وَاقِعًا لاَ بُدَّ سَعَى أَهْلُ الإِيمَانِ فِي تَخْفِيفِهِ وَتَقْلِيلِ آثَارِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَتَحْذِيرِ النَّاسِ مِنْ رُكُوبِهِ وَشُهُودِهِ، فَأَمْحَضُوا لَهُمُ النُّصْحَ، وَاجْتَهَدُوا فِي الوَعْظِ؛ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ، وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ؛ وَلِيَعْلَمَ أَهْلُ المُنْكَرِ أَنَّهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَلَأَنْ يَأْتِيَ العَبْدُ مُنْكَرًا وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُقَارِفَهُ وَهُوَ مُسْتَحِلٌّ لَهُ، وَلَنْ يَقَعَ الاسْتِحْلاَلُ لِلْمُنْكَرَاتِ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ إِلاَّ إِذَا غَلَبَ الجَهْلُ عَلَى النَّاسِ، وَمَا عَادُوا يَعْرِفُونَ المَعْرُوفَ مِنَ المُنْكَرِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِاليَأْسِ، وَتَعْطِيلِ الحِسْبَةِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي الوَعْظِ وَالتَّذْكِّيرِ وَالنَّصِيحَةِ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَنْصَحَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَأَوْفَاهُمْ لَهُمْ، وَأَصْدَقَهُمْ مَعَهُمْ. وَالنُّصْحُ وَالصِّدْقُ وَالوَفَاءُ يَقْتَضِي تَحْذِيرَ النَّاسِ مِمَّا يَضُرُّهُمْ؛ وَلِذَا وَصَفَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ النَّذِيرُ العُرْيَانُ، الَّذِي يُنْذِرُ النَّاسَ عَدُوَّهُمْ.
وَلاَ عَدُوَّ أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلاَ سِلاَحَ لَهُ أَقْوَى مِنْ تَرْوِيضِ القُلُوبِ عَلَى المُنْكَرَاتِ، حَتَّى تَأْلَفَهَا القُلُوبُ، وَيَنْشَأَ عَلَيْهَا النَّشْءُ، وَيَعْتَادَهَا النَّاسُ، فَلاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفَا، وَلاَ يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، وَقِصَّةُ أَوَّلِ شِرْكٍ وَقَعَ فِي الأَرْضِ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حِينَ صُوِّرَتْ صُوَرُ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، حَتَّى نَشَأَتْ أَجْيَالٌ عَلَى الشِّرْكِ، فَلَمَّا بُعِثَ فِيهَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنِفُوا مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفَضُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا الشِّرْكَ وَاعْتَادُوهُ، وَكُلُّ المُنْكَرَاتِ إِذَا وُطِّنَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ أَلِفُوهَا وَاعْتَادُوهَا.
إِنَّ تَحْصِينَ القُلُوبِ ضِدَّ المُنْكَرَاتِ مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ بِهِ صَلاَحَ القُلُوبِ وَحَيَاتَهَا، وَتَمْيِيزَهَا بَيْنَ مَا يَضُرُّهَا وَمَا يَنْفَعُهَا، وَإِذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الحَصَانَةُ صَارَ المَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَنِ.
وَالقَلْبُ الَّذِي لاَ يُنْكِرُ المُنْكَرَ قَلْبٌ خَالٍ مِنَ الإِيمَانِ بِقَوْلِ النِّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَبَقَاءُ الإِيمَانِ مَعَ ضَعْفِهِ خَيْرٌ مِنْ زَوَالِ الإِيمَانِ كُلِّهِ، وَلاَ مُقَارَنَةَ، وَإِنْكَارُ القَلْبِ لَيْسَ لَهُ مَؤُونَةٌ، وَلاَ مِنْ وَرَائِهِ أَيُّ تَبِعَاتٍ؛ لِأَنَّ القُلُوبَ لاَ يَمْلِكُهَا وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا إِلاَّ اللهُ تَعَالَى.
قِيلَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ما مَيِّتُ الأَحْيَاءِ؟ قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ المَعْرُوفَ بِقَلْبِهِ، وَيُنْكِرْ المُنْكَرَ بِقَلْبِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لاَ يُنْكِرُ المُنْكَرَ بِيَدِهِ وَلاَ بِلِسَانِهِ وَلاَ بِقَلْبِهِ».
وَسَاقَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً مِنَ الأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ المُنْكَرِ بِحَسَبِ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْكَارُهُ بِالقَلْبِ فَلاَ بُدَّ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ المُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ. اهـ.
وقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ المَعْرُوفَ وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ المُنْكَرَ نُكِسَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ".
وَسَمِعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ:" هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ المُنْكَرِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ المَعْرُوفَ وَالمُنْكَرَ"، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ المَعْرُوفِ وَالمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لاَ يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ، وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
وَيُحَدِّثُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ زَمَنٍ تَغْلِبُ فِيهِ المُنْكَرَاتُ، وَيَقْوَى أَهْلُ البَاطِلِ فَيَقُولُ: "يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا لاَ يَسْتَطِيعُ فِيهِ غَيْرَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ".
وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ وَالآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ تَحْصِينِ القُلُوبِ مِنْ قَبُولِ المُنْكَرَاتِ وَإِلْفِهَا وَاعْتِيَادِهَا، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلاَّ بِوَعْظِ النَّاسِ وَنُصْحِهِمْ، وَبَيَانِ الحَقِّ لَهُمْ، والاحْتِسَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرِ الخَيْرِ فِيهِمْ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «إِذَا أَمَرْتَ بالمَعْرُوفِ شَدَدْتَ ظَهْرَ المُؤْمِنِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ أَرْغَمْتَ أَنْفَ المُنَافِقِ».
بَلْ إِنَّ تَرْكَ الاحْتِسَابِ عَلَى النَّاسِ يُغَيِّرُ قَلْبَ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي المُنْكَرِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَفِي هَذَا المَعْنَى قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَدْخُلُ الْمَدْخَلَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ لِلَّهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ، فَلَا يَعُودُ قَلْبُهُ إِلَى مَا كَانَ أَبَدًا».
وَتَوْطِينُ المُنْكَرَاتِ وَفَرْضُهَا سَبَبٌ لِإِلْفِهَا إِذَا لَمْ تُنْكِرْهَا القُلُوبُ، وَلَمْ يَتَوَاصَّ النَّاسُ بِإْنَكَارِهَا، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ البَيْتِ الوَاحِدِ يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ المُنْكَرُ فَلاَ يُنْكِرُهُ بَقِيَّتُهُمْ فَيَسْرِي فِيهِمْ جَمِيعًا.
وَمَعَ عِظَمِ حَقِّ الوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ الاحْتِسَابَ عَلَيْهِمْا إِنْ وَقَعَ المُنْكَرُ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ لَيْسَ الإِنْكَارُ عَلَيْهِمْا كَالإِنْكَارِ عَلَى غَيْرِهِمَا، قَالَ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، " الرَّجُلُ يَأْمُرُ وَالِدَيْهِ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: يَأْمُرُهُمَا إِنْ قَبِلَا، وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا".
وَقَالَ الِإمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنِ المُنْكَرِ"، وَقَالَ أَيْضًا:" إِذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعْلِمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ"، وَقَالَ أَيْضًا: "إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمَا وَخَرَجَ عَنْهُمَا".
وَفِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِالمَقَامِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مَنَاكِيرُ، قَالَ المَرْوَذِيُّ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ كَانَ يَرَى المُنْكَرَ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُهَا، فَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ خَرَجَ.
تَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ: يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ وَيَنْهَاهُمَا بِرِفْقٍ، فَإِنْ رَفَضَا احْتِسَابَهُ عَلَيْهِمْا لَمْ يَحْضُرْهُمَا فِي مُنْكَرِهِمَا، وَإِنْ بَقِيَ وُجُوبُ بِرِّهِ بِهِمَا.. لِمَاذَا؟ حَتَّى لاَ يَسْتَوْطِنَ المُنْكَرُ قَلْبَهُ، وَلَا تَتَطَبَّعَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ، فَيَأْلَفُهُ فَيَهْلِكُ.
هَذَا هُوَ تَحْصِينُ القُلُوبِ مِنْ إِلْفِ المُنْكَرَاتِ وَاعْتِيَادِهَا، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلَكُوا بِإِلْفِ المُنْكَرَاتِ وَاعْتِيَادِهَا، وَعَدَمِ تَحَرُّكِ قُلُوبِهِمْ لَهَا؛ [لُعَنِ الْذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانَوا يَعْتَدُونَ * كَانَوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانَوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:78-79}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالَوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20، 21]
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ القُرْآنَ الكَرِيمَ يَجِدُ أَنَّ مُفَارَقَةَ مَوَاقِعِ المُنْكَرَاتِ سَبَبٌ لِحَصَانَةِ القُلُوبِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى حِينَ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِمُفَارَقَتِهِا إِنَّمَا هُوَ لِحِمَايَةِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الزَّيْغِ؛ وَلِئَلاَّ يَحِّلَّ العَذَابُ بِهِمْ وَهُوَ مَعَهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:68}، ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الأَمْرَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذَا مِثْلُهُمْ] {النساء:140}، وهَذَا أَصْلٌ فِي مُفَارَقَةِ المُنْكَرِ وَمَكَانِهِ.
وَلو دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْوَلِيمَةِ مُنْكَرًا، لاَ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ، لِكَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ، أَوْ يُخْفُونَهُ وَقْتَ حُضُورِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْضُرَ وَلَهُ أَنْ يَغِيبَ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَلاَّ يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ آثِمًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "فَأَسْقُطَ الْوُجُوبَ؛ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ المُنْكَر، وَلَمْ يَمْنَعِ الْإِجَابَةَ؛ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لاَ يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ".
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانَوا إِذَا رَأَوُا المُنْكَرَ أَنْكَرُوا عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ بَقِيَ المُنْكَرُ فَارَقُوا مَحَلَّهُ، أَنْكَرَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى فَتًى لَمْ يُحْسِنِ الصَّلاَةَ، وَأَلْزَمَهُ بِإِعَادَتِهَا ثُمَّ قَالَ: "وَاللهِ لاَ تَعْصُونَ اللهَ وَنَحْنُ نَنْظُرُ مَا اسْتَطَعْنَاهُ»، وَحَضَرَ أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلِيمَةً فَرَأَى مَا يَكْرَهُ فَأَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِهَا قَائِلاً: "وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا وَلَا أَدْخُلُ لَكُمْ بَيْتًا، ثُمَّ خَرَجَ".
وَمِيزَانُ القَلْبِ الحَيِّ الَّذِي يَغَارُ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَنْ يَضِيقُ صَدْرُهُ لِمُنْكَرٍ رَآهُ، وَيَعْلُوهُ هَمٌّ وَكَرْبٌ، وَيَكُونُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ سُفْيَانُ الثوَّرْيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:" إِنِّي لأَرَى الشَّيْءَ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِيهِ فَلاَ أَفْعَلُ فَأَبُولُ دَمًا".
أَلاَّ فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ، وَامْلَؤُوهَا بِالغَيْرَةِ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ النِّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مَا كَانَ يَغْضَبُ لِشَيْءٍ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ لِحُرْمَةِ للهِ تَعَالَى تُنْتَهَكُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

404.doc

الحسبة والمحتسبون 8.doc

الحسبة والمحتسبون 8.doc

الحِسْبَةُ وَالمُحْتَسِبُونَ 8.doc

الحِسْبَةُ وَالمُحْتَسِبُونَ 8.doc

المشاهدات 3353 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


وإياك شيخ شبيب
وأشكرك على مرورك