تحصين القلوب في المحن باليقين

تَحْصِينُ القُلُوبِ فِي المِحَنِ بِاليَقِينِ
25/5/1432

الحَمْدُ لِلَّهِ العَلِيْمِ القَدِيْرِ [رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ] {الرعد:2} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ صِفَاتُهُ وَآيَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، فَلَا إِلَهَ لَنَا غَيرُهُ، وَلَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِّهِ.. بَعَثَهُ الَلهُ تَعَالَى بِالإِيْمَانِ وَاليَقِينِ؛ لِيُطَهِّرَ بِهِ الْقُلُوبَ مِنْ رِجْسِهَا، وَيُزِيلَ شَكَّهَا وَجَحْدَهَا، وَيَمْلَأَهَا سَكِينَةً وَطُمَأْنِينَةً وَيَقِينَاً، صَلَّى اللَهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَسَلِّمُوا لَهُ أُمُورَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ دِيْنَكُمْ؛ فَإِنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعَاً، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَسْقَطَ بِقُدْرَتِهِ عُرُوشَاً مَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهَا تَسْقُطُ، وَنَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ جَبَابِرَةٍ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي سُلْطَانِهِمْ، فَأَتَاهُمُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَكَسَاهُمْ ذُلَّاً وَعَارَاً لَا يُنْسَى، فَصَارُوا مِنَ القُصُورِ إِلَى السُّجُونِ، وَبَعْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ يُسْأَلُونَ وَيُهَانُونَ، فَلَا مُلْكَ يَدُومُ إِلَّا لِلَهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23} [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الملك:1}.
أَيُّهَا النَّاسُ: تَمُوجُ الْأَرْضُ بِأَحْدَاثٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ آخِرَهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ أَبْعَادَهَا وَنَتَائِجَهَا، وتَفْجَأُهُمْ أَخْبَارٌ لَا يَتَصَوَّرُونَهَا وَلَا يَتَوقَعُونَهَا.. وَمَنْ يُعْنَونَ بِدِرَاسَةِ طَبِيعَةِ الأَرْضِ وَتَغَيُّرَاتِهَا، وَيَرْصُدُونَ كَوَارِثَهَا وَتَحوُلَاتِهَا يُنْذِرُونَ بِأَخْطَارٍ مُحْدِقَةٍ بِالبِشَرِ تَتَغَيَّرُ فِيهَا تَرْكِيبَةُ الأَرْضِ وَأَجْوَاؤُهَا وَمُدُنُهَا وَسَوَاحِلُهَا..لَكِنَّهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَا يَدْرُونَ مَتَى يَكُونُ؟ وَلَا كَيفَ يَكُونُ، وَلَا سُبُلَ النَّجَاةِ مِنهُ، إِنْ يَظُنُّونَ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا هُمْ بِمُسْتَيقِنِينَ..
وَعُلَمَاءُ الاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقْتِصَادِ يُحَاوِلُونَ قِرَاءَةَ الوَاقِعِ قِرَاءَةً صَحِيحَةً لاسْتِشْرَافِ المسْتَقْبَلِ، وَتَوَقِّي الْمَخَاطِرِ، وَتَقْلِيلِ الْخَسَائِرِ، لَكِنَّهُمْ أَيْضَاً لَا يَصِلُونَ إِلَى يَقِينٍ، وَلَا يَعْلَمُونَ الغَيبَ القَرِيبُ فَضْلَاً عَنِ البَعِيدِ.. وَكَثِيرٌ مِنَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَسْعَى سَاسَتُهَا فِي زَوَالِهَا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْحِفَاظَ عَلَيهَا، كَمَا نَزَعَ اللَهُ تَعَالَى قَومَاً مِنْ عُرُوشِهِمْ بِكَسْبِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَلِلرَّبِ سُبْحَانَهُ تَدَابِيرُ لَا يُدْرِكُهَا الْنَّاسِ، فَمَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى! وَمَا أَوْسَعَ عِلْمَهُ! وَمَا أَعْجَزَ البَشَرَ وَأَشَدَّ جَهْلَهُمْ! وَلَوْ عَلِمُوا مَا عَلِمُوا، وَمَلَكُوا مِنَ القُوَّةِ مَا مَلَكُوا..
إِرْهَاصَاتٌ وَتَوَقَّعَاتٌ تُنْذِرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كُبْرَى.. قَدْ تَمْتَدُّ لِتَشْمَلَ البَسِيطَةَ كُلَّهَا.. مَخَاوِفُ وَهَوَاجِسُ تُقْلِقُ كُبْرَيَاتِ الْدُّوَلِ.. وَتَقُضُّ مَضَاجِعَ أَقْوَيَاءِ الْبَشَرِ، يُخْفُونَهَا وَلَا يُبْدُونَهَا، وَيَتَجَلَّدُونَ أَمَامَ الْمَلَأِ إِزَاءَهَا وَهِيَ تَأْكُلُ قُلُوبَهُم..
إِجْرَاءَاتٌ وَاحْتِرَازَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَوَقُعَّاتٍ يَسْعَى لَهَا الْأَقْوِيَاءُ مِنَ الْدُّوَلِ وَالْأَفْرَادِ لِتَأْمِينِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَوْلادِهِمْ، وَلِتَحْصِينِ دُوَلِهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ظَنٍّ، وَقَدْ يَأْتِيهِمْ خَطَرُهُمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ. فَلَا أَحَدَ غَيْرُ اللَهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيَكُوْنُ، وَلَا كَيْفَ يَكُوْنُ، وَلَا مَتَى يَكُوْنُ.. وَقَدْ يَحْتَرِزُ الْعَبْدُ بِمَا يَكُوْنُ وَبَالَاً عَلَيْهِ، وَقَدْ يَفِرُّ مِنْ مَأْمَنِهِ إِلَى مَحَلِّ خَوْفِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي.. [وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2}.
وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْدَاثُ وَنَتَائِجُهَا بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ تَدْبِيرِ اللَه تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حِرْزٍ يَحْتَرِزُ بِهِ الْعَبْدُ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ: الْيَقِيْنُ بِاللَهِ تَعَالَى.. الْيَقِيْنُ بِعِلْمِهِ لِلْغَيبِ، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا] {طه:98} [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {البقرة:29} [عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ] {الرعد:9}.
وَالْيَقِيْنُ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِيْ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:106} [وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:189}
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ [إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] {النحل:70} [وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] {الرُّوم:54} [لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] {الطَّلاق:12}
وَفِي الْدُّعَاءِ الْمَأْثُوْرِ فَي الاسْتِخَارَةِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ»رواه البخاري.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُ فِي بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ لِلَهِ تَعَالَى بِصِفَتَي العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيَقُوْلُ:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ»رواه النسائي.
وَاليَقِيْنُ بِحِكْمَةِ اللَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ وَفِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، فَلَا يَخْلُقُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَأْمُرُ أَمْرَاً كَوْنِيَّاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يُقَدِّرُ قَدَرَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَشْرَعُ شَرْعَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ [وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {النساء:26} [إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] {الأنعام:83}
واليَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] {الأنعام:12} [إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ] {الطُّور:28} [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] {غافر:7} [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.
إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ نُحَاذِرُهُ، وَكُلَّ حَدَثٍ نَتَوَقَّعُهُ، لَا يَخْرُجُ عَن عِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ؛ فَالْيَقِيْنُ بِذَلِكَ يُقَوِّي قَلْبَ الْمُؤْمِنِ الْمُوْقِنِ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ أَلَمَ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ، فَهِيَ مَعَ ضَخَامَتِهَا وَقُوَّةِ تَدْمِيرِهَا وَفَدَاحَةِ آثَارِهَا تَصْغُرُ وَتَضْمَحِلُّ فِيْ قُلُوْبِ الْمُوْقِنِينَ بِعِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَكَأَنَّهَا شَيْءٌ صَغِيرٌ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، فَيَزُوْلُ بِيَقِيْنِهِمْ أَثَرُهَا مِنْ قُلُوْبِهِمْ، وَبِيَقِينِهِمْ يَخِفُّ وَقْعُهَا وَأَلَمُهَا عَلَى نُفُوسِهِمْ.. فَبَرْدُ الْيَقِيْنِ يَأْتِي عَلَى حَرَارَةِ الْكَارِثَةِ فَيُزِيلُهُ، فَيَطْمَئِنُ الْقَلْبُ وَيُمْلَأُ بِالسَّكِينَةِ.
وَيَقِينَهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يَمْلَأُ قُلُوْبَهُمْ ثِقَةً بِالَلهِ تَعَالَى فِي أَنَّ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَقْدَارٍ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِيهِ مِنَ الحِكَمِ مَا يَعْلَمُونَ بَعْضَهَا أَوْ يَجْهَلُونَهَا كُلَّهَا، فِيَقِينُهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يُزِيلُ مَا يَقْذِفُهُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوْبِهِمْ مِنْ زَعْمِ عَبَثِيَّةِ الأَحْدَاثِ، وَصُدَفِ الأَقْدَارِ..تِلْكَ الْأَفْكَارُ الْشَّيطَانِيَّةُ الَّتِي تَفْتِكُ بِقُلُوبِ العَدَمِيِّينَ وَالعَبَثِيِّينَ وَالَوجْودِيِّينَ.
وَمَنْ أَيْقَنَ بِرَبٍ حَكِيْمٍ عَلِمَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَفْعَالِهِ حِكَمَاً فَاسْتَرَاحَ مِنْ التَّفْكِيْرِ وَالْهَوَاجِيسِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِوَسَاوِسِ إِبْلِيسَ، وَأَمَّنَ نَفْسَهُ فِيْ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَنْظُورِ، وَلَمْ يَخَفِ الغَيبَ الْمَجْهُولَ.. وَالْيَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى فِيْهِ أَمَانٌ وَتَسْلِيَةٌ لَا يَجِدُهَا مَنْ فَقَدُوا الْيَقِيْنَ، وَسَاءَتْ ظُنُوْنُهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ.
إِنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّ الَلهَ تَعَالَى أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَتِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، بَلْ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيهِ كَيْفَ يَخْشَى قَدَرَاً مَخْبُوءَاً؟ وَكَيْفَ يَخَافُ غَيْبَاً مَجْهُولَاً؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ الْقَدَرَ، وَيَكْتُبُ الْغَيْبَ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؟! رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَسْبِيَّةً إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِّ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قَالُوا: لاَ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»متفق عليه.
بِالْيَقِيْنِ وَاجَهَ مُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ أَعْتَى الْبَشَرِ، وَأَشَدَّهُمْ قَسْوَةً، وَأَكْثَرَهُمْ طُغْيَانَاً، وَقَالَ فِي وَجْهِهِ بِثَبَاتٍ وَيَقِينٍ [وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا] {الإسراء:102} وَكَانَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ يُرِيْدُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِمُ الْيَقِيْنَ بِذِكْرِ آَيَاتِ الَلهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ وَالْشَرْعِيَّةِ، فَنَازَعَهُ فِرْعَونُ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ لَكِنَّ مُوْسَى رَدَّ عَلَيهِ بِمَا يُفِيدُ اليَقِيْنَ لِمَنْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُكَابِرْ [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:23-24}.
وَبِالصَّبْرِ وَاليَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ فَالَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِوَعْدِ الَلهِ تَعَالَى، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى ابْتِلَائِهِ، وَلَا يَثْبُتُونَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي ارتَضَاهُ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِالْتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَلَا إِمَامَةِ النَاسِ فِي الهُدَى، وَقَدْ أَخْبَرَ الَلهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَزِمُوا الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيْهِمْ [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24}، وَفِي أَحْوَالِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْهُدَى، وَلَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا أَهْلُ الْيَقِينِ، يُثَبِّتُهُمُ الَلهُ تَعَالَى بِيَقِينِهِم بِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَحَذَّرَ الَلهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى أَهْلِ الشَّكِّ وَالرَّيبِ، أَوِ الاغْتِرَارِ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوِ الِانْخِدَاعِ بِبَلَاغَةِ أَقْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُغْرُونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ، وَيَسْتَفِزُّونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَهَدَفُهُم فِيْ ذَلِكَ كُلِّهِ نَزْعُ الْيَقِينُ مِنْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَحْوِيلُهُمْ إِلَى مُرْتَابَيْنَ.. وَحَقِيْقٌ بِمَنْ مَلَكَ الْإِيْمَانَ أَنْ يَسْعَى إِلَى اليَقِينِ، وَأَنْ لَا يَتَنَازَلَ عَنْهُ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْأَذَى فِيْ سَبِيلِهِ [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الَلهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] {الرُّوم:60}.
إِنَّ أَعْظَمَ أَمَانٍ يُؤَمِّنُ بِهِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ حَالَ الْمِحَنِ: اليَقِيْنُ بِالَلهِ تَعَالَى، فَمَا أَحْوَجَ قُلُوْبَنَا إِلَيهِ فِي زَمَنٍ اشْتَدَّتْ فِيْهِ الفِتَنُ، وَتَتَابَعَتِ الْمِحَنُ، وَاخْتَلَطَ الأَمْرُ، وَتَسَارَعَتِ الْأَحْدَاثُ.. وَمَا أَسْعَدَنَا إِنْ مَلَأْنَا بِهِ قُلُوْبَنَا وَقُلُوْبَ أَهْلِيْنَا وَأَولَادِنَا؛ ذَلِكَ أَنَّ اليَقِيْنَ عِلْمٌ يَحْصُلُ بِهِ ثَلَجُ الصَّدْرِ وَيُسَمَّى بَرْدَ اليَقِينِ. فَهُوَ العِلْمُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ، وَيَزُولُ ارْتِيَابُهَا وَاضْطِرَابُهَا، وَلَوْ مَاجَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الَلهُ عَنْهُ«لَمَّا حَضَرَ الْبَأْسُ يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، مَا كَانَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ»رواه أحمد.
اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوْبَنَا بِالإِيْمَانِ وَالْيَقِينِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مَضَلَّاتِ الفِتَنِ وَالأَهْوَاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ اليَقِينَ وَالعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الَلهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى الَلهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الَلهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُوْنَ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيهِمْ رَحْمَةُ الَلهِ تَعَالَى يَتَحَصَّنُونَ مِنَ الْبَلَاءِ بِاليَقِيْنِ، وَيَتَسَلَّحُونَ فِي مُوَاجَهَتِهِ بِالصَّبْرِ وَالْرِّضَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ غَزِيْرَةٌ، وَأَحْوَالٌ عَجِيْبَةٌ..
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: مَعْرِفَةَ مَقَامَهِ مِنَ الدِّيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيْثِ «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْتَوْا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى:«بِالْيَقِينِ طُلِبَتِ الْجَنَّةُ, وَبِالْيَقِينِ هُرِبَ مِنَ النَّارِ, وَبِالْيَقِينِ أُتِيَتِ الْفَرَائِضُ, وَبِالْيَقْيِنِ صُبِرَ عَلَى الْحَقِّ, وَفِي مُعَافَاةِ اللَّهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَاهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْعَافِيَةِ فَلَمَّا نَزَلَ الْبَلَاءُ تَفَارَقُوا»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: الدُّعَاءُ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ الَلهَ تَعَالَى أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنَ اليَقِيْنِ مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَلَيهِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، ومِنْ دُعَاءِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:«اللَّهُمَّ هَبْ لِي إِيمَانًا وَيَقِينًا وَمُعَافَاةً وَنِيَّةً» وكَانَ عَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى لَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَقُولَ:«اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينًا بِكَ حَتَّى تَهُونَ عَلَيْنَا مُصِيبَاتُ الدُّنْيَا, وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَنَا عَلَيْنَا, وَلَا يَأْتِينَا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ إِلَّا مَا قَسَمْتَ بِهِ»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: التَّفَكُّرُ فِي أَحْوَالِ السَّابِقِيْنَ، وَقِرَاءَةُ أَخْبَارِهِمْ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَتَعَلُّمُ الْيَقِينِ مِنْ آيَاتِهِ العَظِيْمَةِ، كَمَا قَالَ الَلهُ تَعَالَى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {الجاثية:20}.
قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى:«تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ» وَمَرِضَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى فَقِيلَ لَهُ:«أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: أَنْظِرُونِي، فَتَفَكَّرَ, ثُمَّ قَالَ:{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] فَذَكَرَ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا قَالَ: فَقَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَطِبَّاءُ وَكَانَتْ فِيهِمْ مَرْضَى فَلَا أَرَى الْمُدَاوِي بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوَى هَلَكَ ...»
وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالَلهِ تَعَالَى، فَلَا يَرْكَنُ إِلَى مَخْلُوقٍ مَهْمَّا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ، أَوْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَهْمَّا كَانَ مَتِينَاً [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْرَّزَّاقُ ذُوْ الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ] {الْذَّارِيَاتِ:58} بَلْ يَرْكَنُ إِلَى الَلهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُوْنُ فِي قَلْبِهِ سِوَاهُ، قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الَلهِ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى: حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَشْتَمَّ رَائِحَةَ اليَقِينِ وَفِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تعالى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..




المرفقات

تحصين القلوب في المحن باليقين.doc

تحصين القلوب في المحن باليقين.doc

المشاهدات 4388 | التعليقات 3

حق اليقين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} سورة آل عمران: 102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء: 1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب: 70 ، 71.
أما بعد ..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار.
ثم أما بعد ...
فحياكم الله جميعاً أيها الأخوة الأخيار وأيتها الأخوات الفاضلات وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله عز وجل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الذى جمعنا فى هذه الدنيا دائماً وأبدا على طاعته أن يجمعنا فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار مقامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله:
حقوق يجب أن تعرف سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذى استشرى فى جسد الأمة ألا وهو الانفصام النكد بين منهجها المنيروواقعها المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها كهذا الزمان فأردت أن أذكر نفسى وأمتى بهذه الحقوق الكبيرة التى ضاعت لعلها أن تسمع من جديد عن الله عز وجل، ولعلها أن تسمع من جديد عن رسول الله ، وتردد مع الصادقين السابقين الأولين قولتهم الخالدة: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة.
ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء التاسع والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة مع حق كبير جليل ألا وهو ((حق اليقين)).
وكعادتى وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم فى هذا الموضوع والحق الجليل فى العناصر المحددة التالية.
أولاً: منزلة اليقين وعلاماته.
ثانياً: أوجه اليقين ودرجاته.
ثالثاً: شموس فى سماء اليقين.
وأخيراً: أمة تحتاج إلى اليقين.
فأعيرونى القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولا: منزلة اليقين وعلاماته:
أحبتى فى الله: اليقين هو العلم وزوال الشك قال ابن القيم رحمه الله: ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد تفاضل العالمون وإليه شمر العاملون وفيه تنافس المتنافسون، قال رب العالمين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة فإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهم الإمامة فى الدين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وخص الله أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (20) سورة الذاريات. وخص أهل اليقين والفلاح فقال رب العالمين: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1 ،5) سورة البقرة. وأهل اليقين هم أهل الإيمان وأصحاب الجنان قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } (15) سورة الحجرات. أى: لم تعصف ريح الشكوك بحقيقة الإيمان واليقين فى قلوبهم.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبى أعطاه تعليه وقال:" يا أبا هريرة اذهب بنعلى هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد: أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة".
وبين الله أن أهل النار ما كانوا من أهل اليقين قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (32) سورة الجاثية.
فاليقين هو روح أعمال القلوب، فاليقين هو روح أعمال القلوب التى هى روح أعمال الجوارح، فإذا وصل اليقين إلى القلب امتلأ القلب نوراً وإشراقاً وإيماناً ومحبة لله، وخوفاً من الله، وثقة فى الله، وشكراً لله، ورضا بالله، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه.
قال سفيان الثورى: إذا امتلأ القلب باليقين طار شوقاً إلى الجنة وهو يأمن النار، ومن علامات اليقين النظر إلى الله فى كل شئ والرجوع إليه فى كل أمر، والاستعانة به فى كل حال، النظر إلى الله فى كل شئ صاحب القلب الذى ذاق حلاوة اليقين يراقب الله فى السر والعلن، يراقب الله فى كل شئ لا يغيب عن قلبه ولا عن بصره ولا عن سمعه قول ربه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7) سورة المجادلة.
وصاحب اليقين يرجع إلى الله فى كل شئ ليرضى بعمله ربه سبحانه وتعالى، هل هذا العمل على مراد وعلى شرع رسول الله؟ وهل هذا العمل يرضى الله تبارك وتعالى؟ فهو يرجع إلى الله فى كل شئ ويستعين بالله فى كل شئ، إذا لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله الله فهو المخذول، فما هى أوجه اليقين ودرجاته؟ هذا هو عنصرنا الثانى بإيجاز.
أوجه اليقين ودرجاته:
قال أبو بكر الوراق: نقل ذلك عنه الإمام ابن القيم فى المدارج قال: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة.
يقين خبر: وهو أن يسكن القلب للخبر فكيف يكون سكون القلب وكيف تكون ثقة القلب لخبر عن الله ورسوله، فإذا جاء الخبر عن الله وإذا جاء الخبر عن رسول الله فهو اليقين هذا يقين الخبر.
قال تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (122) سورة النساء
وقا تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} (87) سورة النساء. وقال فى حق نبيه {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1، 4) سورة النجم .
وقال تعالى فى حق نبيه : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} (33) سورة الأنعام. فيقين الخبر أن يثبت الخبر عن الله وعن الصادق رسول الله .
أما يقين الدلالة: فهو أن الله تبارك وتعالى مع أنه أصدق القائلين والخبر من الله كل الصديق بل هو الصدق واليقين ومع ذلك فإن الله تعالى يقيم الأدلة على صدق خبره فهذا يقين الدلالة فهو يثبت وحدانيته وتبارك وتعالى بالدليل القاطع فى القرآن : {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (60، 64) سورة النمل .
لله في الآفاق آيات لعـــل * * * أقلهـــا هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا * * * حاولت تفسيراً لهــا أعياكا
قل للطبيب تخطفته يد الردى * * * من يا طبيـــب بطبه ارداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما * * * عجزت فنـون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة * * * من بالمنـــايا ياصحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة * * * فهــوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سآئل الأعمى مشى بين الزحـ * * * ـام بلا إصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولا بلا * * * راع ومرعى مالذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا * * * عند الولادة مالذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه * * * فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو * * * تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت * * * شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين * * * دم وفرث مالذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا * * * ميت فاسأله من يا حي قد أحياكا
قل للنبات يجف بعد تعهــد * * * ورعايـــــة من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو * * * وحده فاساله من أرباكا
وإذا رايت البدر يسري ناشراً * * * أنواره فاساله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي * * * أبعد كل شيء مالذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي * * * بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى * * * فاسأله من يانخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها * * * فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا * * * قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه * * * فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال * * * سرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رايت البحر بالماء الأجاج * * * طغى فسله من الذي اطغاكا

وإذا رأيت الليل يغشى داجياً * * * فاسأله من ياليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكاً * * * فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لوترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك * * * حمداً وليس لواحد إلاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا مجري النهار عاذبة الندى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً مالذي * * * بالله جل جلاله أغراكا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سل الواحة الخضراء والماء جاريا *** وهذه الصحاري والجبال الرواسي
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى *** سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما *** وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا
فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً *** فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لارب غيره، ولا معبود سواه، إله مع الله؟
انظر لتلك الشجرة .. ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة .. وكيف صارت شجرة
فانظر وقل من ذا الذي يخرج منها الثمرة
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
انظر إلى الشمس التي جذوتها مستعرة
فيها ضياء وبها حرارة منتشرة
من ذا الذي أوجدها في الجو مثل الشررة
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
انظر إلى الليل فمن أوجد فيه قمره
وزانه بأنجم كالدر المنتثرة
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
انظر إلى المرء وقل من شق فيه بصره
من ذا الذي جهزه بقدرة مبتكرة
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة


{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (75، 79) سورة الأنعام . فمع أن الخبر من رب العالمين ومن سيد الصادقين، فإن الله يقيم الأدلة على صدق خبره وصدق خبر رسله وأنبيائه فيجرى المعجزات على أيدى الرسل، ليثبت للخلق صدقهم وأنه من عند الله {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (24) سورة البقرة.
فالله سبحانه وتعالى يقدم اليقين لأهل اليقين من جهتين من جهة يقين الخبر، ومن جهة يقين الدلالة فالخبر من الله ومع ذلك يقيم الأدلة على صدق الخبر، فيقدم البراهين على أن الله هو الإله الحق ويقدم البراهين على أن دينه هو الحق وعلى أن الرسل والأنبياء هم أهل صدق وإنما هم مرسلون من قبل الله جل وعلا.
لماذا: لينتقل بالناس بعد ذلك إلى مرتبة يقين المشاهدة، من يقين الخبر غلى يقين الدلالة إلى يقين المشاهدة بمعنى: أن ينتقل المؤمن بعد يقين الخبر إلى يقين الدلالة إلى يقين المشاهدة هذا فينظر إلى كل خبر عن الله وعن رسول الله وكأنه يراه بعينيه وكأنه يشاهده هذا يقين المشاهدة.
قال أحد السلف: إنى رأيت الجنة والنار. قالوا: فكر فيما تقول يا رجل، قال: والله لقد رأيت الجنة والنار .. قالوا: كيف ذلك؟ قال: رأيتهما بعينى رسول الله ورؤيتى لهما بعينى رسول الله أوثق عندى من رؤيتى لهما بعينى، لأن بصرى قد يزيغ وقد يطغى، أما بصر النبى فقد قال فيه ربه العلى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (17) سورة النجم انظروا إلى يقين المشاهدة.
قال أحدهم: والله لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا والله لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا لماذا؛ لأنه انتقل إلى يقين المشاهدة لكل خبر انتقل إليه عن الله وعن رسوله لو كشف الحجاب ما ازددت يقيناً ، والله لو كشف الحجاب ما ازددت يقيناً لماذا؟
لأنه انتقل إلى يقين المشاهدة لكل خبر انتقل إليه عن الله وعن رسوله . لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا.
هذه هى أوجه اليقين فما هى درجاته درجات اليقين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
أما علم اليقين: فهو العلم الثابت عن الله ورسله هذا علم اليقين علم عن الله بأسماء جلاله وصفات كماله علم عن البرزخ والبعث والموت والصراط والميزان والجنة والنار. علم ثابت عن الله ورسوله علم اليقين.
قال عالم إنجليزى مشهور: إن كل ما وصل إليه العلم الحديث إلى يومنا هذا إنما هو مجرد احتمالات، فإن نظرية تخرج اليوم لتنقضها نظرية بعد اليوم أو لتزيد عليها أو لتنقص منها.
أما علم اليقين فهو علم عن رب العالمين، وعن الصادق الأمين.
أما عين اليقين: فهو العلم الذى لا يحتاج صاحبه إلى دليل لو أن رجلا أخبرك بأن عنده عسلاً وهو صادق عندك فهذا علم اليقين فإن أحضر لك العسل ورأت عينيك العسل فهذا عين اليقين، فإن أطعمك قليلاً من العسل، هذا حق اليقين فعلمنا بالجنة والنار فهذا عين اليقين، فإن أطعمك قليلاً من العسل، هذا حق اليقين فعلمنا بالجنة والنار فهذا عين اليقين، فإذا قامت القيامة وأزلفت الجنة للمتقين، وعاينها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين، وعاينها الخلائق فهذا عين اليقين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فهذا حق اليقين: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (75،90) سورة الواقعة .
إن كان من أهل القرب وهذه هى الدرجة الأولى من درجات أهل الإيمان. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}وهذه الدرجة الثانية {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (91) سورة الواقعة نعوذ بالله من الثالثة {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } كل هذا الذى سبق {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (95،96) سورة الواقعة .
قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (1، 8) سورة التكاثر.
قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (4، 52) سورة الحاقة .
فعلم اليقين: علم عن الله ورسوله.
عين اليقين: أن ترى بعبنيك.
حق اليقين: أن تنتقل لتعيش فى هذا النعيم، أسأل الله أن نكون من أهله وليعيش أهل الجحيم فى الجحيم نعوذ باله من النار.
فتعالوا بنا أيها الأفاضل لندخل بستان اليقين هل يا ترى حقق الذى ذكرت أناس من البشر نعم.
وهذا هو عنصرنا الثالث والمهم شموس فى سماء اليقين وأعظم الخلق تحقيا لليقين هم الأنبياء والرسل.
تدبر معى يقين نبى الله نوح الذى قام امتثالا لأمر ربه ليصنع سفينة على الرمال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (37، 38) سورة هود .أى: عقل لهذا الرجل؟ يصنع سفينة على الرمال، أين المياه أين البحار والأنهار والمحيطات إن الماء بعيد كل البعد عن الموطن الذى يصنع فيه نوح السفينة، ومع ذلك فهو ممتلئ القلب باليقين لأمر ربه تبارك تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} فصنع نوح الفلك فكان ما تعلمون لما زاد البلاء واشتد الاضطهاد وتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء الحار {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} (10) سورة القمر. فكانت النتيجة: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (11، 14) سورة القمر.
وهذا نبى الله إبراهيم يلقى فى النار ويأتيه جبريل أمين أهل السماء: يا إبراهيم ألك حاجة؟ انظروا إلى حلاوة اليقين فيرد إبراهيم ويقول: حسبى الله ونعم الوكيل.
هذا هو الثابت الصحيح كما فى الصحيح، أما القول المشهور على ألسنة بعض إخواننا من أهل العلم أن إبراهيم قال: علمه بحالى يغنى عن سؤالى فلم يثبت عنه على نبينا وعليه الصلاة والسلام إنما الذى ثبت أنه قال: حسبى الله ونعم الوكيل.
قالها إبراهيم حينما ألقى فى النار وقالها أصحاب محمد حينما قيل لهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ([1])* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (173، 174) سورة آل عمران.
وهذا نبى الله موسى عندما كان فرعون وجنده من خلفه والبحر أمامه والمستضعفون مع نبى الله موسى يخشون من فرعون وبطشه: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ} أى : جمع نبى الله موسى وجمع فرعون: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (61) سورة الشعراء. قال صاحب اليقين موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62) سورة الشعراء.

وهذا صاحب أعلى يقين عرفته الأرض إنه يقين الحبيب محمد {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40) سورة التوبة. إنه يقين الحبيب، فالمشركون قد أحاطوا بالغار من كل ناحية ومع ذلك يقول الصديق لحبيبه: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فيرد عليه المصطفى بقلب ذاق حلاوة اليقين وأى قلب سيذوق حلاوة اليقين إن لم يذقها قلب سيد المرسلين قيرد النبى على الصديق بلغة اليقين يقول: " تحزن إن الله معنا".([2])**.
بل لقد جاءه خباب بن الأرت كما فى صحيح البخارى يشكو إليه هذا العذاب وهذا البلاء: يا رسول الله ادع الله لنا ألا تستنصر الله لنا فقعد النبى فى ظل الكعبة وقد احمر وجهه قال:" والذى نفسى بيده لقد كان يؤتى بالرجل قبلكم فيحفر له فى الأرض ويوضع المنشار فى مفرق رأسه فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم فما يصده ذلك عن دين الله" ثم قال:" والذى نفسى بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى ليسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون"([3]) .
أنظر إلى يقين النبى فى نصره دين الله وهو فى أشد مراحل الاستضعاف وأنا بقلب يملؤه اليقين مع هذا الذل الذى تحياه الأمة فإن الجولة المقبلة لدين سيد المرسلين بشر بها النبى فى أحلك الأوقات فى الوقت الذى جاء فيه الصحابة وقد ظهر عليهم العذاب، وتلون جسدهم تحت وقع السياط:" والله ليتمن الله هذا الأمر" أى هذا الدين وأتم الله الدين وفتح الحبيب مكة ودخل الناس فى دين الله أفواجاً وعليه نزل قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة.
هذا هو اليقين قد يقول قائل: إنك تحدثنا عن الأنبياء وهؤلاء صفوة الله من خلقه وهؤلاء مختارون من قبل الله رباهم على عينه، واصطنعهم لنفسه جل جلاله لكن هناك من البشر من جسد اليقين فى دنيا الناس تجسيداً لا يستطيع بليغ على رجه الأرض أن يعبر عن هذا اليقين اللهم إلا أن تعبر عنه كلمات القرآن الكريم.
تدبر معى هذا الموقف العظيم، إنه موقف سحرة فرعون أناس من دقيقة واحدة يغترون بفرعون وببطشه وبجبروته ويقولون على مرأى ومسمع من الخلق وقد اجتمع الناس فى ساح واسعة وها هو نبى الله موسى فى وسط هذه الحلقة وها هم سحرة فرعون يجلس فرعون باستعلاء يريد أن يثبت هزيمة نبى الله موسى وأن يعريه من صفة الرسالة والنبوة وينزل السحرة بكبر واستعلاء إلى ساحة النزال ويعلنونها صريحة: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.
وكان ما كان بمجرد أن ألقى السحرة عصيهم وحبالهم وخيل إلى الناس من سحر السحرة أنها تسعى، وليست فى الحقيقة قد تحولت إلى ثعابين ويلقى نبى الله موسى عصاه فتتحول إلى ثعبان ضخم تلتقط فى التو واللحظة كل هذه العصى وكل هذه الحبال وسحرة فرعون يعلمون السحر حقيقة فلما رأوا الآية والمعجزة قد تجسدت على وجه الأرض علموا يقيناً إنه رسول من عند الله اسمع: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (120 ، 124) سورة الأعراف .
اسمع إلى حلاوة اليقين التى باشرت القلوب: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (50 ،51) سورة الشعراء
وفى أوائل سورة سورة طه: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72) سورة طـه.
بالله بالله ما أروعه من مشهد بالله ما أجلها من كلمات فاقض ما أنت قاض لا ضير فى تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف، لا ضير فى التصليب على جذوع النخل لا ضير فى القتل، ولا حرج فى الشهادة لا ضير، لأننا قد آمنا بربنا لقد ذاقت قلوبنا حلاوة اليقين بالله ذاقت قلوبنا حلاوة الإيمان بالله إنه اليقين الذى لا يتزعزع إنه اليقين الذى لا شك فيه ولا ريب.
الله ، الله، إذا باشر اليقين القلوب، الله الله إذا ذاقت القلوب حلاوة الإيمان، إنه اليقين الذى يرتقى بالقلب من حمأ الطين إلى أعلى عليين إنه اليقين يسمو بالقلب إلى ما لم يكن يطمع إليه الخيال، إنه اليقين الذى استعذب به سحرة فرعون كل عذاب إنه اليقين الذى يستعذب فى سبيل الله كل عذاب، إنه اليقين الذى يستعذب فى سبيل الله كل عذاب لا ضير لا حرج أفعل ما شئت، ذبح ، صلب، قتل لأننا آمنا بالله وذاقت قلوبنا حلاوة اليقين بالله.
بك أستجير ومن يجير سواكا *** فأجر ضعيفا يحتمي بحماك
إني ضعيف أستعين على قوى *** ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبت ياربي وآذتني ذنوب *** مالها من غافر إلا كا
دنياي غرتني وعفوك غرني *** ماحيلتي في هذه أو ذا كا
لو أن قلبي شك لم يك مؤمنا *** بكريم عفوك ما غوى وعصاكا
يا مدرك الأبصار ، والأبصار لا *** تدري له ولكنه إدراكا
أتراك عين والعيون لها مدى *** ما جاوزته ، ولا مدى لمداكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين علاكا
يامنبت الأزهار عاطرة الشذا *** هذا الشذا الفواح نفح شذاكا
يامرسل الأطيار تصدح في الربا *** صدحاتها إلهام تسبيحة لعلاكا
يامجري الأنهار : ماجريانها *** إلا انفعالة قطرة لنداكا
رباه هأنذا خلصت من الهوى *** واستقبل القلب الخلي هواكا
وتركت أنسي بالحياة ولهوها *** ولقيت كل الأنس في نجواكا
ونسيت حبي واعنزلت أحبتي *** ونسيت نفسي خوف أن أنساكا
ذقت الهوا مراً ولم أذق الهوى *** يارب حلواً قبل أن أهواكا
أنا كنت ياربي أسير غشاوة *** رانت على قلبي فضل سناكا
واليوم ياربي مسحت غشاوتي *** وبدأت بالقلب البصير أراكا
ياغافر الذنب العظيم وقابلا *** للتوب: قلب تائب ناجاكا
أترده وترد صادق توبتي *** حاشاك ترفض تائبا حاشاك
فليرض عني الناس أو فليسخطوا *** أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا
وكأنه لازم عليه أن يستأذنوه فى هذا النور الذى تسلل إلى قلوبهم فأحياها بعد موات، كنه كان من الواجب عليهم أن يقتلعون اليقين الذى ثبت فى أعماق أعماق أرواحهم: "آمنتم له قبل أن آذن لكم" لكن هيهات هيهات إذا ذاقت القلوب حلاوة الإيمان برب الأرض والسموات فإما عظماء فوق الأرض وإما عظام تحت الأرض هذا حال أهل اليقين فإما عظماء فوق الأرض وإما عظام تحت الأرض هذا حال أهل اليقين {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72) سورة طـه.. فمهما طالت فهى قصيرة ومهما عظمت فهى حقيرة، لأن الليل مهما طال لابد من بزوغ الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
ومن هذا اليقين إلى يقين غلام، إنه الغلام المبارك غلام الساحر والراهب الذى جسد اليقين فى دنيا الناس حينما دخل على الملك وتحداه أن يقتله وأخذه الملك وأرسل به زبانيته ليسقطوه من فوق جبل شاهق فما أن علا هؤلاء بالشاب المبارك على حافة وقمة الجبل إلا وتضرع إلى الله جل وعلا بهذه الدعوات الحلوة الت يجللها ويزينها اليقين:" اللهم اكفنيهم بما شئت". يعنى : اللهم اكفنى شرهم بما شئت فارتج الجبل وكلهم على قمة الجبل ويهلك الله الطواغيت المجرمين.

وينجى الله هذا الغلام المبارك الأمين وينزل الغلام مرة أخرى، وينزل ويذهب إلى هذه الملك الظالم فيراه الملك فترتعد فرائصه، فأرسله مع مجموعة أخرى فى قرقور- أى: فى مركب صغير- وقال : وفى عرض البحر وألقوه واركبوا به توغلوا به فى أعماق أعماق البحر وأرسل الله جندياً من جنوده، وما يعلم جنود ربك إلا هو فارتج القرقور- أى: المركب- بهم فأغرقهم الله جميعا ونجاه بعد ما تضرع إليه بقوله "اللهم اكفنيهم بما شئت" ودخل على الملك مرة أخرى فارتعدت فرائصه واضطربت جوارحه.
وقال هذا الغلام فى يقين مدوياً : اعلم أيها الملك أنك لن تقتلنى إلا إذا فعلت ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: اجمع الناس- انظروا إلى يقين هذا الغلام- اجمع الناس- فإنه يريد أن يوصل كلمة التوحيد إلى كل الخلق ومن يجمع له كل الخلق إلا الملك، وأنا أقول ومن يبلغ دينه إلى كل الخلق إلا الملك، وهذا ما رأيناه بعد الأحداث الأمريكية فلا يوجد الآن بشر على وجه الأرض، إلا وأسمعه الله عن الإسلام- وخذ من كنانتى واصلبنى وقل أمام الخلق: باسم الله رب الغلام فسيقع فى صدغى فأقتل فى الحال قال: أتهزأ بى؟ قال: لا أهزأ بك.
فجمع الملك الخلق جميعا- أوامر ملكية، فاجتمع البشر وكأن القيامة قد قامت وصلبوا الغلام وأمام الناس أخذ الملك سهماً من سهام الغلام وقال: بسم الله؛ لأنه يدعى الألوهية والغلام يريد أن يثبت للخلق كذبه قال الملك: بسم الله رب الغلام فوقع السهم فى صدغ الغلام فمات فى التو واللحظة فصرخ الخلق جميعا. وقالوا: آمنا بالله رب الغلام.([4])
إنه اليقين إنه اليقين وأنتم تعلمون ذلك تماماً ولقد قلته مرارا يقين أم موسى، ويقين هاجر التى قالت حينما تركها الخليل إبراهيم- عليه السلام- ورضيعها بصحراء مكة: إذن لا يضيعنا الله ، الله الذى أمرك أن تتركنا فى هذا الوادى؟ إذا لا يضيعنا وما ضيعها الله جل وعلا وتركها إبراهيم ونفد التمر والماء وراحت الأم الملتاعة تسعى بين الصفا والمروة، لعلها تجد شيئا من ماء أو شيئا من طعام، لكنها لا ترى إلا جبالا سودتها حرارة الشمس ولا ترى إلا رمالاً انعكست عليها أشعة الشمس فكادت الأشعة أن تسرق الأبصار لا ترى إنسانا وفى الشوط الأخير رأت الملك ينزل ويقف بجوار الرضيع رأت جبريل.
وفى رواية الطبرانى بسند حسنه الحافظ ابن حجر من حديث على: نادى عليها الملك من أنت؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم، ما نسبت نفسها أبداً إلى إبراهيم، لأن إبراهيم يعرفه أهل السماء فقال: وإلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف أليس الله بكاف عبده وفجر الأرض وصعد وخرج ماء زمزم، وما زال هذا الماء يروى الموحدين فى مكة والمدينة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ببركة يقين هاجر أستاذة اليقين هاجر عليها السلام.
وهذه أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص. وتلقى الأم رضيعها المبارك، ويتهادى التابوت حتى يقف أمام قصر فرعون.
إلهى رحماك إنه هو الذى يبحث عنه فرعون، لأن الله هو الذى أمرها أن تلقيه، هو وحده القادر على أن يحميه ويمنعه فألقى الله حب موسى فى قلب امرأة فرعون فلما نظرت إلى وجهه الأزهر الأنور قالت: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص .
ويحرم الله المراضع كلها على موسى لتأتيه أمه لترضعه كما وعدها سبحانه انظر الآن وتخيل معى أم موسى تجلس فى قصر فرعون لتضم موسى برحمة وحنان لترضعه وفرعون يجلس إلى جوارها أرضعيه أشبعيه أكرميه.
بالأمس كانت تخشى على موسى بأمره وهى اليوم ترضع موسى فى قصر فرعون بأمره.
إنه اليقين ما أحلاه
ثم انظر إلى يقين الصحابة، وهذا يحتاج ورب الكعبة إلى لقاءات انظر إلى صاحب أعلى يقين فى الأمة كلها بعد نبيها، إنه يقين أبى بكر ذلكم العملاق الذى أعلم الدنيا كلها حلاوة اليقين، إذ قيل له: يقول صاحبك : إنه أسرى به من مكة إلى القدس إلى السماوات العلا وعاد فى ليلة فيرد بيقين عجيب: أو قد قال ذلك؟ فيقولون: نعم . فيقول: إن كان قد قال ذلك فقد صدق([5]). يا له من يقين.
عمر بن الخطاب فى الحديبية قال عمر بن الخطاب للرسول كلاما شديداً ظل يخشى عاقبته حتى لقى ربه يقول: يا رسول الله ألسنا على الحق ألست رسول الله حقا؟ فيقول:" بلى" السنا على الحق؟ فيقول: "بلى" أو ليسوا على الباطل؟ فيقول:" بلى" فيقول عمر: فلم نعطى الدنية فى ديننا؟!.
وفى لفظ: أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار فيقول:" بلى" فيقول رسول الله : " يا عمر إنى لرسول الله وإن الله لناصرى".
فيغض عمر من مثل هذا الكلام ويترك عمر الرسول ويذهب إلى أبى بكر: يا أبا بكر أليس رسول الله حقا ؟ فيقول: بلى أولسنا على الحق؟ فيقول: بلى أو ليسوا على الباطل؟ فيقول: بلى، فيقول عمر: فلم نعطى الدنية فى ديننا؟! وفى لفظ: أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار؟ انظر إلى يقين الصديق فيقول الصديق لعمر: الزم عرزه فإنه لرسول الله وإن الله لناصره([6]).
إياك ان تحيد عن طريقه، ويصرخ عمر يوم أن مات الحبيب يقول بأعلى صوته: من زعم أن رسول الله قد مات فلأعلونه بسيفى هذا، رسول الله ما مات بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران وليرجعن ليقطع أرجل المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات.
كلام عمر ويأتى الصديق من بيته بالسنح فيشق الجموع التى تصرخ، التى تلتف حول عمر، وهو يصرخ وبهيج ويصرخ فيها ويدخل بيقين ثابت كثبوت الجبال الرواسى ويدخل على رسول الله ويرى رسول الله مسجى قد مات بالفعل فيكشف الغطاء عن وجهه ويقبله بين عينيه([7]) كما فى رواية حسنها شيخنا الألبانى فى مختصر الشمائل وينادى عليه ويقول: طبت حياً وميتاً يا رسول الله.
وفى لفظ الصحيحين([8]): وانبياه واحبيباه واخليلاه أما الموتة التى قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم، ويترك الصديق حبيبه المصطفى ويخرج إلى هذه الجموع الملتهبة ويقول: على رسلك يا عمر، اهدأ يا عمر اجتمعوا إلى أيها الناس ويلتف الناس حول أبى بكر ويعلنها فى غابة اليقين: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت .. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران.
أيها الأفاضل، والله لولا أنى أخشى الإطالة لوقفت على هذا المنبر للأسبوع القادم إذا شاء ربى لأتكلم عن يقين المصطفى ، وما أروعه والله رب الكعبة ما أعظمه من يقين وما أحلاه من إيمان أسأل الله جل وعلا أن يذيقنا حلاوة اليقين وبرد التوكل عليه ولذة الثقة فيه إنه ولى ذلك والقادر عليه وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد.... أيها الأحبة الكرام سأقف قليلا مع الدرس إن شاء مع بعض صور اليقين لأصحاب النبى لكننى أقف مع العنصر الأخير وقفة سريعة وأقول: أمة تحتاح إلى اليقين:
فلقد جربت الأمة الشرق الملحد فلم تفلح وجربت الأمة الغرب الكافر فلم تفلح، وجربت الأمة الوسط الأوروبى الظالم فلم تفلح فما أحوج الأمة باليقين ليربط القلوب برب العالمين، والله لن تنصر الأمة ولا عزة لها ولا كرامة إلا إذا ذاقت القلوب برب العالمين حلاوة الإيمان : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات.
فالأمة تحتاج أن تحقق الإيمان قال ابن مسعود : اليقين هو الإيمان كله، اليقين هو الإيمان كله، ما أحوج الأمة إلى الإيمان، فالإيمان ليس كلمة باللسان فقط، إنما الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان حتى تأخذ الأمة بالأسباب على قدر استطاعتها، وتتعلق القلوب بذات الوقت على الله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (103) سورة آل عمران.
أيها الأفاضل: ولا سعادة ولا سيادة ولا نصر ولا ريادة إلا إذا حولت الأمة اليقين إلى واقع، وها نحن نرى الآن على أرض القدس فوق الثرى الطاهر فوق التراب المبارك، نرى شبابا بل ونساء بل وأطفالا: لقد حولوا اليقين على الأرض إلى واقع، نرى طفلا يلاحق يهوديا مجرما مدججا بالسلاح لا يملك هذا الطفل فى يده إلا حجراً يغرد، يغرد بأحلى معانى اليقين، والله رأيته بعينى.
طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره يقف أمام الدبابة، دبابة من الدبابات التى تغنى بها اليهود يقف أمام الدبابة بينه وبين الدبابة ما لا يزيد على عشرة أمتار؛ ليقذف مدفع الدبابة بحجر فى يده !! ما هذا؟ لقد علم هؤلاء الأطفال اليهود بأن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف أطفالا رجالا جسدوا مرة أخرى فى عالم الواقع حلاوة اليقين ولذة الإيمان.
فلا تظن أن الذى أتحدث عنه قد مضى زمانه كلا بل نرى امرأة تجسد الآن اليقين، فاليقين ليس صعب المنال ولكنه يحتاج إلى رجال من المؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، اللهم اجعلنا من هؤلاء الرجال الذين
ينتظرون : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمنى ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به فى جهنم ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
الدعاء...
(1) رواه البخارى فى التفسير (4563 ، 4564).
(1) رواه البخارى فى فضائل أصحاب النبى (3652 ، 3653) ، ومسلم فى الزهد والرقائق
(299 / 75)، وأحمد (1/4)، والترمذى فى التفسير (3069).
(2) رواه البخارى فى المناقب (3612)، وفى مناقب الأنصار (3852).
(1) الحديث بتمامه رواه مسلم فى الزهد والرقائق (3005 / 73).
(1) رواه البيهقى فى الدلائل (2/359)، والحاكم (3/62، 63) وصححه الذهبى، والحديث سنده صحيح.
(1) رواه البخارى فى الشروط (2731 ، 2732)، وفى الجزية والموادعة (3182)، وفى التفسير (4844)، ومسلم فى الجهاد (1785/94)، وأحمد (3/486).
(2) رواه الترمذى فى الشمائل (389) وسنده حسن.
(3) رواه البخارى فى الجنائز (1241 ، 1242) وفضائل أصحاب النبى (3667، وفى المغازى
(4453 ، 4454).
[URL="http://http://www.nagah.net/vb/showthread.php?t=3214"] المصدر[/URL]