تجربتي في الخطابة .. الشيخ أحمد ناصر الطيار

الفريق العلمي
1440/05/29 - 2019/02/04 15:57PM

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:

 

فإني أحببتُ المشاركة في إِثْراء موضوع خطب الجمعة، بنقلِ تجربتي وطريقتي في إعدادها وإلقائها، وذكرِ مراحل انتقالي من قراءة الخطبة إلى ارتجالِها، مع بعض النصائح والقواعد في هذا الموضوع الكبير المهم.

 

الصعوبات التي واجهتها في بدايةِ عملي في الخطابة:

 

كنت في بدايةِ مسيرتي في الخطابة أجد صعوبةً بالغةً في الكتابة والإعداد، وفتوراً في ذلك، وأُعد الخطبة على مدار أسبوعٍ كاملٍ أحياناً، فأكتب السبت صفحةً وأمكث عليها تفكيراً وبحثاً، واختياراً للأسلوب الأمثل، والكلمات اللائقة، وربما محوت كلمة وكتبت غيرها، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فأجد للخطبة همَّاً وقلقاً، فإذا ما انتهيت من الخطبة يوم الجمعة: انزاح عني الهمّ والقلق، وشعرت أنني في إجازةٍ وفُسحة، وإذا جاء يوم السبت عاد الهمُّ وقلقُ الإعداد والبحث عن الخطبة المناسبة للجمعة القادمة، واشْتغلت خلال الأسبوع في البحث والكتابة التي أجد مللاً وضجرًا منها، وكنت أستعين - أحيانًا - بالخطب الجاهزة، وربما نقلت خطبةً كاملةً أَعَدَّها غيري، أو أجزاءً منها.

 

ودمتُ على ذلك ما يُقارب عامًا كاملاً، وأنا في جهدٍ جهيد، ولكن بعد الاستعانة بالله وحده أولاً، ثم بعد المراس والتدرّب: سهُل عليَّ الأمر، وأصبحت أُعدّ الخطبة في زمن قليل؛ فما هو إلا تعويد النفس، ومُجاهدتها على الكتابة، حتى ترى من نفسك دربةً وخفَّةً في ذلك.

 

وكنت أجد همًّا وقلقاً يوم الجمعة قبل الخطبة، وكيف لا أجد هذا الهم والخوف والقلق، وأنا سأعرض عقلي وعلمي على الناس، الذين فيهمُ المثقَّفُ والعالم، والْمُدقِّقُ والناقد، وبين يديَّ مَن تتلمذت في دراستي عليه، والعاميّ الذي لابدّ أن أُسهّل له العبارة؟!

 

فعرضُ عقلي على هؤلاء من أشد الأمور عليّ، وحالي كحال من سيؤلّف كتابًا.

 

وقد كنت في البداية أحرص على رفع رأسي للناس؛ لكي أعتاد عل الجرأة، ونزعِ الهيبة التي تعتري مَن يُقابل الجماهير الغفيرة، ولكي أقلِّل من اعتمادي على الورقة، ولكن كنت أغلط أحياناً وأرتبك أحياناً أخرى، ممَّا أدّى ببعض الناس ممَّن لا يحتمل من الخطيب أيَّ هفوة، ولا يقبل منه أيَّ زلَّة إلى تركِ الحضور عندي، حتَّى صرَّح لي بعضُ الأصدقاء بأنه استغرب مني بعض الارتباك وعدم التوازن في الأداء، وطلب مني بعضهم بألا أرفع رأسي أبداً، وألا أخرج عمَّا في الورقة بتاتاً.

 

فكنت أمتنع من ذلك، وأصمِّم على فعلي، لأجل أنْ أطور من أدائي في الخطبة، وأُحَسِّن وأتقن الإلقاء، وأقلل من الرهبة والخوف، ولو أخذتُ برأيهم لظللت على ما أنا عليه دون تطويرٍ وإبداع.

 

ومع مرور الأيام: رأيت ورأى غيري تغيُّراً ملحوظاً في الأداء، وتوازناً وتحسُّناً في الإلقاء، وأصبحتُ أنظر إلى الجمهور دون وجلٍ وارتباك، حتى إني أُنشئُ العبارات والجُمل التي تخطر في بالي أثناء الخطبة ولله الحمد والمنة، وهذا قبل مرحلة ارتجال الخطبة.

 

قصةُ انتقالي من قراءة الخطبة إلى ارتجالِها:

 

أمضيت عقدًا من الزمان وأنا أخطب بورقة، ثم بعد ذلك عزمتُ على الارتجال وترك قراءة الخطبة، وكان هذا من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، حيث إنَّ جماعة المسجد قد اعتادوا على نمط معيّن، فالانتقال عنه صعب ويُثير الاستغراب، ويفتح باب السؤال والجواب، وقد يُؤدّي إلى الاعتراض أو الانتقاد، وهذا ما حصل، فقد واجهت بعض النقد والاعتراض على الخطابة ارتجالًا، وقد أحْدَث ذلك في نفسي نوعًا من القلق، وقلَّل ثقتي بقراري، مما جعلني أخطب على وجل وخوف من الخطأ حتى لا يُقال: نصحناك بعدم الارتجال، وأخبرناك بأنه قرار خاطئ.

 

ومما جعلني أتجاوز هذه العقبة: ما رأيته من الآثار الإيجابية عليّ وعلى المستمعين، كالحماس وتغيّر الأسلوب إلى الأحسن، وزيادةِ تفاعلي أثناء الخطبة، مما أثَّر ذلك على المستمعين فازدادوا نشاطًا وحماسًا، وقد رأيت ذلك في قسمات وجوه الكثير منهم، وسمعت ذلك من بعضهم.

 

وأمضيت على ذلك قرابة عام كامل، ولكني أخطب بورقتين أضع بهما أهمّ ما سأتكلم عنه، وأضع فيهما رؤوس الأدلة والمواضيع والنقاط، ومع ذلك أشعر بأني حبيس هاتين الورقتين، ولم أتخيّل بأني سأستطيع أنْ أخطب بلا ورقة أبدًا.

 

وبعد ذلك شعرت أنني أَفضل من قبلُ في سبكِ العبارات واستحضار الأدلة، فاقتصرت على ورقة واحدة، وأمضيت على ذلك ثلاثة أشهر، ومع ذلك أيضًا لازلت حبيس الورقة، ولا أستطيع الخطابة بدون كتابة رؤوس الأدلة والمواضيع، حتى إنني أكتب بعض العبارات التي لم أستطع أن أقولها دون قراءتها.

 

وخلال هذه المدة كنت حريصًا أشدّ الحرص على إلقاء الكلمات والخطب في المساجد والجوامع الكبيرة في بلدي، وفي أيّ مدينة أذهب إليها، ومن أهمّ أهدافي في ذلك: التعوّدُ على الارتجال، والقدرةُ على الطلاقة في الحديث، وكسرُ حاجز الخوف والتوتر من مقابلة الناس، وقد تحقّقت هذه الأهداف بحمد الله تعالى.

 

وكنت على يقين تامّ بأنّ مَن انقطع إلى شيء أتقنه، فلذلك انقطعتُ ساعاتٍ طويلةً هذه المدة؛ لأتْقن مهارة الإلقاء ارتجالاً، فالحمد لله الكبير المتعال.

 

ثم سافرت إلى مكة - شرفها الله -، وهناك جعلتُ مِن أهم أهدافي أنْ أطور نفسي في الخطابة، حيث إن الناس لا يعرفونني، فلن أتحرج من الخطابة بلا ورقة، وهذا ما حصل بحمد الله، فقد خطبت ثلاث خطب بلا ورقة، وقد وجدت ذلك أفضل بكثير، وأسهل عليّ، وأقوى في شدّ انتباه المستمعين، ومما وجدته -وتعجبت منه كثيرًا- عدة أمور:

أولا: زوال الرهبة تمامًا، فإني - بحمد الله - أشتاق ليوم الجمعة لأخطب وأنفع الناس، وأنشر العلم بينهم، وهذا ما لم أجده قبل ذلك، وخاصةً حينما كنت أخطب بورقة، فقد كنت أجد الهم في إعداد الخطبة، وكتابتها وانتقاء أفصح الكلمات وأبلغ العبارات.

 

ثانيًا: أنّه حينما أُعِدّ الخطبة وأرتبها في ذهني، وأدون رؤوس ما سأقوله في ورقة، ثم أُلْقيها على نفسي قبل الخطبة بها: أخطب بها بعد ذلك وكأني أحفظها، ووجدت سهولةً في جلبِ وانتقاءِ الكلمات والعبارات أثناء الخطبة، وهذا ما لم أجده ولا عشره في بداية ارتجالي للخطب.

 

وما ذاك - والله أعلم- إلا بسبب توفيق الله أولاً، ثم بسبب أن العقل كغيره من الأعضاء، يقوى بالتدرب والتمرين وطول الممارسة، فيسهل جلب الأدلة والعبارات منه عند الحاجة، حتى إنّ الخطيب مع طول المران يتفنن في اختيار العبارات والكلمات والشواهد دون تحضير مسبق.

 

طريقتي قبل الخطبة:

 

من عادتي القيامُ بعدة أمور قبل الخطبة، التي أستعين بعد الله تعالى بها للوقوف على المنبر وارتجال خطبي، وهي:

 

أولاً: أعدّ مجموعة خطبٍ قبل إلقائها بزمن طويل غالبًا، وقد يكون بين إعدادي لها وبين إلقائها أشهر أو أعوامٌ.

 

وذلك أنه حينما يخطر لي موضوعٌ، أو أمُرّ خلال قراءتي بفائدةٍ قيِّمة، أو حديثٍ اسْتوقفني، أو آيةٍ تأملتها: فإني أدون ذلك مُباشرة دون تأخير، حيث تكون المشاعر جيَّاشة، والأفكار حاضرة ومُترابطة، ولو أجلت الكتابة حينها لضاعت الأفكار والخواطر، وصعب تذكرها واسْتحضارها، ثم أكتب ما يجود به الخاطر، ثم أبدأ بعد ذلك بجمع المادة العلمية - دون تكلّف - من الكتاب والسنة وكلامِ أهل العلم الذين وقفتُ على كلامهم خلال قراءتي لكتبهم أو الكتب التي نقلت عنهم، وقد أبحث في المكتبة الشاملة أو الشبكة العنكبوتية عند الحاجة.

 

فما وجدْتُه متعلقًا بموضوع الخطبة: أخذته ووضعته في ملف (الوورد) في الحاسب، بدون ترتيب وتدقيق.

 

وهكذا أفعل دائمًا فيما يخطر أو يمرّ عليّ من المواضيع والفوائد، فأدون حينها ما يجود به الخاطر، وأبحث وأكتب ما أستطيعه، ثم أتركه وأمضي في قراءتي المعتادة، فإذا وجدت فائدةً أو آيةً أو حديثًا مُتعلقًا بأحد الخطب التي كتبتها أو كتبت بعضها: أضفتُه إليها، فربما مَكَثَتِ الخطبةُ عندي عدَّةَ سنواتٍ أزيد وأنقص فيها، وأحياناً ألقيها في درسٍ أو مُحاضرة أو كلمة، فيُفتح لي أثناءها من اللطائف والفوائد ما لم يخطر لي قبلها، وأستذكر أشياءً كنت قد نسيتها، فأُلْقيها حين أُلقيها في الخطبة وهي جاهزةٌ مُكتملةٌ - بقدر الإمكان -.

 

ثانيًا: في كثيرٍ من الأحيان ألقيها كاملة أو مُجزّأةً عبر كلمات في المساجد، والهدف من ذلك:

أ- ترسيخ المعلومات وحفظها.

 

ب- نشرها بين الناس، وخاصة في المساجد التي لا تكون قريبة من الجامع الذي أخطب فيه، والغالب أن جماعته لا يحضرون عندي.

 

ج- الزيادة في استقصاء الموضوع، والغالب أني إذا ألقيتُها يلوح لي أثناء الكلمة أو بعدها أمورٌ مهمة ينبغي الحديث عنها.

 

ثالثًا: ألقيها يوم الجمعة قبل موعد الخطبة بساعتين تقريبًا كإلقائي إياها في الخطبة، والهدف من ذلك:

أ- ضبط الوقت، حيث أحسب الوقت وأحذف بعض أجزاء الخطبة إذا تجاوز الوقت المعتاد، وأزيد إذا كان أقل من الوقت المعتاد.

 

ب- إتقان الأداء؛ لأنّ إلقائي لها قبل ذلك من أعظم أسباب سلامتي من الأخطاء والتردد الذي يقع فيه كثيرٌ ممن يخطب ولو بورقة.

 

ج- ضبط نبرات الصوت، حيث أزن نبرات الصوت، والمواضع التي ينبغي فيها رفع الصوت أو خفضه، وسرعة الكلام أو بُطؤه.

 

وكنت أقوم بهذا منذ بدأت في الخطابة، ومكثت على ذلك عدة سنوات، ثم تركته مع طول الممارسة والخبرة. 

 

رابعًا: لا أتكلّف في البحث والإعداد، وإنما همّي أنْ أجمع مادّةً تنفعني أولا، ثم تنفع المستمعين على اختلاف طبقاتهم.

 

"ومن الأوصاف التي إذا كانت في الخطيب سمّي سديداً، وكان من العيب معها بعيداً، أن يكون في جميع ألفاظه ومعانيه جارياً على سجيته، غير مستكره لطبيعته، ولا متكلف ما ليس في وسعه؛ فإنَّ التكلف إذا ظهر في الكلام هَجَنَه [أي صَار معيبًا مرذولاً]، وقبَّح موقعه؛ وحسبك مِن ذمِّ التكلف أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتبرؤ منه فقال: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)"(البرهان في وجوه البيان؛ لأبي الحسين إسحاق بن إبراهيم الكاتب: 168).

 

قال الشاطبيّ رحمه الله: مَنْ نظر في استدلالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ متكلَّف، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَلَا يُبالون كيف وقع في تَرْتِيبِهِ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ. ا.ه (الموافقات للشاطبي: 1/70).

 

وأمَّا التكلُّف في اختيارِ العبارات، وسردِ الأقوال، وتنقيح الألفاظ: فإنه يُصيب صاحبه بالْمشقَّةِ والتعب، الذي يؤول إلى انقطاعِه غالبًا، ويُصيب السامع أو القارئ بالملل والسآمة، وقلة الاستيعاب والفهم، وربما نفّره من الاستماع لمواعظ الواعظين، ونصائح الدعاة والعلماء، والقراءة والمطالعة. (عِبَاراتٌ تأثَّرْتُ بِهِا وَغَيَّرَتْ فِي حَيَاتِي للكاتب: 31-33)

 

ومن أجمل ما قيل في هذا الشأن ما نقله أبو هلال العسكري رحمه الله عن بعضهم: "أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح ، متخيّر اللفظ.. ولا يدقّق المعاني كلّ التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التّنقيح".

 

ثم شرحه فقال: قوله: " أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة " وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان، ويأتي ذلك بالتدرب والمجاهدة.

 

وقوله: "ولا يدقق المعاني كلَّ التدقيق" ؛ لأنّ الغاية في تدقيق المعانى سبيلٌ إلى تعميتِه، وتعميةُ المعنى لُكْنة [اللكنة: الْعِيُّ فِي اللِّسَانِ].

 

وقوله: "ولا تنقّح الألفاظ كل التنقيح" وتنقيح اللفظ أن يُبْنى منه بناءً لا يكثر في الاستعمال.

 

ويدخل في تنقيح اللفظ: استعمالُ وحشيّه وتركُ سَلْسَلَه [أي سَهْلُ الفهم، واضح المعنى] وسهله. ا.ه (كتاب الصناعتين, لأبي هلال العسكري: 7- 30)

 

"واعلم أنه قَلَّمَا يستطيع الخطيب أن يتناول الموضوعَ من أوله إلى نهايته دَفْعَةً واحدة، فإن هو كَلَّف عَقْلَه ذلك أرهقه ضَجَرًا، ولاسِيَّمَا عند تَشَعُّبِ الموضوع وكثرة المعاني فيه، فيكادُ ييأسُ من المقدرة عليه؛ إذ تلوح له معانٍ كثيرةٌ فَيَرُوعُه انتشارُها ولا يدري كيف يبتدئُها". (أصول الإنشاء والخطابة لابن عاشور ص: 55)

 

خامسًا: أستحضر أنّني ذاهبٌ لتبليغ رسالات الله والدعوة إليه، وأقرأ أحيانًا قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)[الأحزاب: 37-39]، وأقرأ أحيانًا أخرى قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]، وقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108].

 

وهذا يدفعني لمزيد من الإخلاص والهمّة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، واستحضارِ الغاية العظمى من الخطابة، والتي من أجلها بعث الله تعالى أنبياءه ورسله، وهي تبليغ الدين ونشره، وهذا هو أعظم منصب في الدنيا، ومن تولاه كما ينبغي فهو صدّيق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَانَ صِدِّيقًا. ا.ه (مجموع الفتاوى: 28/171).

 

سادسًا: أدعو الله قبيل صعودي للمنبر أن يرزقني الإخلاص والتوفيق والسداد، وأن ينفعني وينفع غيري بما أقول، فكم من خطيب ومُتحدّثٍ لم يتّعظ بما يقول، وإن اتعظ فسرعان ما ينسى ما قال، لاسيّما إذا طال به العهد.

 

طريقتي أثناء الخطبة:

 

وأما طريقتي أثناء الخطبة فهي كالتالي:

أولًا: لا أتكلف اصطناع المشاعر ولا كتمانها حين أعيش أحداث القصص والمواقف والعبر، وعلى حسب السِّياق تظهر مشاعري عبر قسمات وجهي، وتعابير عينيّ، واختلاف نبرات صوتي.

 

ومما أوصى به أهل الخبرة والبلاغة والخطابة: أنْ تدع لسانك يترجم عن قلبك، مفوِّضًا إليه التعبير عن خواطرك بحريته الكاملة، المنضبطة بضوابط الشرع والعرف.

 

وقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: "صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ"(رواه مسلم).

 

فينبغي للخطيب "أن يروض نفسه على تصوير المعاني، وأن يجعل من نغمات صوته، وارتفاعه وانخفاضه دلالات أخرى فوق دلالة الألفاظ، وليعمل على أن يكون صوته ناقلا صادق النقل لمشاعر نفسه، وليمرنه التمرين الكافي على أن يكون حاكيا صادق الحكاية لمعاني الوجدان، وخواطر الجنان، وليعلم أن لا شيء كالصوت يعطي الألفاظ قوة حياة، وأنه إذا أحسن استخدامه خلق به جوًّا عاطفيًا يُظِلُّ السامعين، وبه يستولي عليهم". (الخطابة الإسلامية, لعبد العاطي عبد المقصود: 25).

 

"وقد يتكلَّف الرجلُ أن يتكلَّم في هدوء وسكون، ويحرص على أن لا يتحرَّك من جوارحه حين يتحدث غير شفتيه ولسانه، وإنما تتيسَّر هذه الهَيْئةُ لمن يتحدَّثُ في راحةِ بالٍ وقرارةِ جَأْشٍ، وليس هذا شأنَ الخطيب المطبوع، وإنما شأنه تَوَقُّدُ الفؤاد، وهياج العاطفة". (الخطابة عند العرب؛ لمحمد الخضر حسين: 192)

 

واعلم أنّه كلما كان إلقاؤك على طبيعتِه، ولم تتكلّف فيه: كان أشد تأثيرًا، فكن على سجيّتك التي نشأت عليها، وأسلوبك الذي تُمارسه أثناء الحديث والكلام في غير الخطبة، مع العناية بنبرات الصوت وتحسين الأداء.

 

وكثيرٌ من الخطباء يجعل للخطبة أسلوبًا مختلفًا تمامًا عن أسلوبه الذي اعتاد عليه، وكأنه يرى أنّ للخطابة أسلوبًا رتيبًا، ونمطًا فريدًا خاصًا بها، وهذا يُفقده التأثير على المستمعين، والوصول إلى قلوبهم.

 

ثانيًا: لا أسرد الخطبة سردًا، والغالب أني أخطب بتمهّل، وأقف وقفات يسيرة عند الحاجة إليها، وأهتمّ بمستوى نبرات الصوت حسب الموضع اللائق به، فأرفع الصوت وأسرع في الحديث إذا كان المقام يقتضي ذلك.

 

"فالتمهل يجعل الصوت يسري إلى السامعين جميعًا بأيسر مجهود متناسب مع المكان والعدد، بينما الإسراع يجعل الكلمات تحتاج إلى مجهود صوتي أكبر؛ ليصل الكلام إلى الآذان". (الخطابة الإسلامية؛ لعبد العاطي عبد المقصود: 25)

 

ثالثًا: أحسب وقت الخطبة بدقة، ولا أتجاوز ربع ساعة إلا ما ندر.

 

رابعًا: أجعل الخطبة مكونةً من أركان وفروع، وأحفظ الأركان لتسهل عليّ الفروع.

فمثلًا: خطبت عن موضوع: أهميّة تجديد الإيمان، فقمت بكتابة أركان الخطبة وفروعها؛ لأحفظها وأتقنها، وهي كالتالي:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَسَلُوا اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ"(رَوَاهُ أحمدُ والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، قال الهيثمي: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وصححه الألبانيّ).

 

1- وجه الشَّبه بين الإيمان والثوب، فالثوب يبلى ويتسخ، فيحتاج الإنسان أولًا إلى غسله، ثم تنظيفه بعد ذلك، ثم المحافظة على نظافته، ومهما حرص الإنسان عليه فسوف يتسخ، فيحتاج إلى تكرار غسله وتطييبه، وهكذا الإيمان.

 

2- أهميّة تجديد الإيمان:

- بعض الناس منذ عقل الإيمان لم يجدّده ولم يتعاهده.

-كان السلف يجددون إيمانهم، كابن تيمية رحمه الله، حيث كان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيدًا.

 

3- وسائل تجديد الإيمان:

أ- التوبة.

* كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار.

 

ب_ المبادرة إلى الأعمال الصالحة والإكثار منها، فهي تزكي النفس، وتقوي الإيمان.

* ذكر الآيات الحاثة على المبادرة إلى الأعمال الصالحة.

 

الخطبة الثانية:

4- ثمرات تجديد الإيمان:

أ- محبة الله له.

* [إن الله يحب التوابين].

 

ب- زيادة الإيمان، وإذا زاد الإيمان ازداد المؤمن رفعة في الآخرة، وصلح عملُه، لأن في القلب مضغة إذا صلحت...

ولم أتجاوز في هذه الخطبة اثنتي عشرة دقيقة مع المقدمة والخاتمة والدعاء، وأحسب أني قد استوفيت الموضوع - بلا تكلّف وتدقيق في الاستقصاء -، وقبل أن أخطب بها، ألقيتها في المساجد عبر كلمات وعظيّة، وقد قسمتها إلى قسمين، ألقيت كلّ قسم في مسجد؛ لأن الكلمات في المساجد لا ينبغي الإطالة فيها.

فاستفدت من ذلك عدة أمور:

أولًا: تثبيت ورسوخ الموضوع في ذهني.

 

ثانيًا: السلامة من التلعثم الذي يُسبّبه عدم الإعداد الجيّد والجديّ، ومقام الخطبة يستدعي القوة في الطرح، وعدم التلعثم والتلكّؤ، بخلاف الكلمات فالأمر فيها أهون بكثير، فالخطأ فيها مغتفر ومعتاد بخلاف الخطبة.

 

ثالثًا: نفع الناس في هذا الموضوع المهم.

 

رابعًا: قلّة الهمّ في إعداد الخطب؛ لأني أُلْقيها قبل ذلك.

 

خامسًا: استدراك أو تصحيح ما طرحتُه في الكلمات، فكثيرًا ما يفتح الله لي أمرًا مهما لم يخطر على بالي أثناء الإعداد، ولم يفتح لي إلا بعد أو أثناء الكلمة، فإذا ذهبت للبيت قيدت وصححت وأضفت، فألقي الخطبة - التي يحضرها أضعاف من حضر كلمتي- وقد استوعبت الموضوع، واطمأن قلبي لطرحي، لاسيما والخطبة تسجل وتُنشر.

 

والغالب عليّ أنني أكتب رؤوس الأركان والفروع في ورقة، وأضعها بين يدي؛ لضمان حسن الأداء، والسلامة من الخطأ.

 

وكثيرًا ما أفتتح الخطبة بقصة أو حديث أو آية، تكون بوابة للدخول إلى أركان وفروع الخطبة.

 

طريقتي بعد الخطبة:

 

وطريقتي بعد الخطبة:

أولاً: أحمد الله تعالى على ما منّ به عليّ من التوفيق في أداء الخطبة.

 

ثانيًا: أستمع لغالب خطبي بعد أن أُلقيها استماع ناقدٍ ومتصيّد للأخطاء، وباحثٍ عن الجوانب الإيجابيّة لتعزيزها وترسيخها، وعن الجوانب السلبية لتلافيها والبعد عنها.

 

وكلّ هذا:

أولا: إجلالًا لمقام الخطبة، فلها قدرها ومكانتها في الإسلام.

 

وثانيًا: احترامًا للمصلين الذين جاؤوا طاعة لربهم، وتلبيةً لنداء خالقهم، وحبّا لسماع ما عندي.

وما حرصي على إلقاء الخطبة ارتجالًا إلا من هذا الباب.

 

 هذا وأسأل الله تعالى أن يوفق خطباء المسلمين إلى كلّ خير، وأن ينفع بهم، ويسددهم، ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، على بذلهم ونصحهم وقضاء كثير من أوقاتهم في خدمة الإسلام والمسلمين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيّه الناصحِ الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

 -------------------

المصدر: كتاب تجربتي في الخطابة

 

أحمد بن ناصر الطيار

خطيب جامع/ عبد الله بن نوفل بالزلفي

وداعية في وزارة الشؤون الإسلامية.

البريد الإلكتروني:

[email protected]

رقم الجوال: 0503421866

المشاهدات 894 | التعليقات 0