تترس المنافقين بالحلف والاعتذار
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
التَتَرُّسُ بِالحَلِفِ وَالاعْتِذَارِ
27 / 6 / 1433 هـ
الحَمْدُ لله العَلِيمِ الخَبِيرِ؛ يَعْلَمُ مَا يُخْفِي العِبَادُ وَمَا يُبْدُونَ، وَمَا يُسِّرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُدُورِ، نَحْمَدُهُ عَلَى هِدَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ ابْتَلَى هَذِهِ الأُمَّةَ بِالنِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ، فَكَانَتْ أُمَّةً تُعَالِجُ شَرَّينِ، وَتُجَاهِدُ عَدُوَينِ: الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ؛ تَحْقِيقًا لِخَيرِيَتِهَا، وَرِفْعَةً لِدَرَجَاتِهَا، فَالخَيرِيَّةُ مَنْزِلَةٌ لَهَا ثَمَنُهَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ التَضْحِيَةِ لِنَيلِهَا [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله]{آل عمران:110}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ آذَاهُ المُنَافِقُونَ وَشَتَمُوهُ، وَكَادُوا بِهِ وَشَنَئُوهُ، وَأَغْرَوا بِهِ المُشْرِكِينَ وَغَدَرُوهُ؛ فَحَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ كَيدِهِمْ، وَرَدَّ عَلِيهِم مَكْرَهُمْ [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]{آل عمران:119}صلَى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلِيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَاهَدُوا قُلُوبَكُمْ بِالإِيمَانِ وَالقُرْآنِ، وَحَصِّنُوهَا عَنِ الشَكِّ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ؛ فَكَمْ مِنْ قَلْبٍ تَشَرَّبَ النِّفَاقَ حَتَّى فَتَكَ بِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، وَكَمْ مِنْ مُجَادِلٍ عَنِ المُنَافِقِينَ يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِهِمْ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ. وَوَلاَءُ المُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ لله تَعَالَى وَحْدَهُ فَلَا يُزَاحِمُهُ وَلاَءٌ لِغَيرِهِ مَهْمَا كَانَ [وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا]{النساء:107-108}.
أَيُّهَا النَّاسُ: لاَ عَدَاوَةَ أَشَدُّ مِنْ عَدَاوَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ لِأَهْلِ الإِيمَانِ، وَلاَ أَذَىً يَكُونُ وَقْعُهُ شَدِيدًا عَلِيهِمْ كَأَذَى المُنَافِقِينَ؛ فَهُمْ قَومٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَتَشَرَّبُوا الأَهْوَاءَ، وَفَاضَتْ قُلُوبُهُمْ بِالأَحْقَادِ، فَيَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِم مِنَ السُوءِ مَا يَكْشِفُ حَقَائِقَهُم، وَيُظْهِرُ شَيئًا مِنْ مَكْنُونِ قُلُوبِهِم.
إِنَّهُمْ قَومٌ بُهْتٌ غُدْرٌ جُبَنَاءُ، الكَذِبُ بِضَاعَتَهُمْ، وَالخِيَانَةُ خُلُقُهُمْ، وَالغِشُّ صِفَتُهُمْ.. لَا يَتْرُكُونَ دَسَائِسَهُمْ، وَلَا يَتَوَرَعُونَ عَنْ أَيِّ شَيءٍ فِيهِ أَذَىً لِلْمُؤْمِنِينَ.
يُؤْذُونَهُمْ فِي رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ بِالطَّعْنِ فِيهِ، وَيُؤْذُونَهُمْ فِي نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ بِالتَشْكِيكِ فِيهِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، لاَ يَرَونَ سَبِيلاً لِلأَذَى إِلَّا سَلَكُوهُ، وَلَا أُسْلُوبًا لِلْكَيدِ وَالغِشِّ إِلَّا انْتَهَجُوهُ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ مَعَ الكُفَّارِ الظَاهِرِينَ إِلَّا أَذِيَّةُ المُؤْمِنِينَ وَغِشُّهُمْ، وَإِغْرَاءُ الكُفَّارِ بِهِمْ، وَمَعُونَتُهُمْ عَلَيهِمْ؛ وَلِذَا نَهَى اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنِ الالتِفَاتِ إِلَيهِمْ وَإِلَى أَذَاهُمْ، وأَمَرَهُ ألَّا يَغْتَمَّ بِمَقُولَاتِهِمْ، أَو يُقْعِدَهُ ذَلِكَ عَنْ تَبْلِيغِ دِينِهِ، وَالعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ [وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيلًا]{الأحزاب:48}.
وَمَنِ اسْتَعْرَضَ آيِّ القُرْآنِ فِي أَوْصَافِ المُنَافِقِينَ وَأَفْعَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيهِمْ اليَومَ.. فَمَا أَعْظَمَ القُرْآنَ كَاشِفًا لِحَقِيقَةِ المُنَافِقِينَ ، وَمَا أَصْدَقَ فِرَاسَةَ مَنِ اتَخَذَ القُرْآنَ هَادِيًا وَدَلِيلَاً فِيهِمْ..
تَعَالَوا -أَيُّهَا الإِخْوَةُ- لِنَسْتَعْرِضَ شَيئًا مِنْ كَشْفِ القُرْآنِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَنَنْظُرَ هَلْ تَغَيَّرَ حَالُهُمُ اليَومَ عَنْ حَالِهِمْ وَقْتَ تَنَزُّلِ القُرْآنَ أَمْ لَا؟!
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى [وَيَحْلِفُونَ بِالله إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ] {التوبة:56} وَهَذَا كَانَ فِي العَهْدِ النَبَوِيِّ، وَهَذِهِ هِيَ دَعْوَاهُمُ اليَومَ حِينَ يَتَشَدَقُونَ بِالوَطَنِيَّةِ، وَيُظْهِرُونَ الحِرْصَ عَلَى الأَوْطَانِ وَهُمْ يَخُونُونَهَا وَيَتَصِلُونَ بِالأَعْدَاءِ؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى [وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ]{التوبة:56}.وَهَذِهِ الآيةُ حَاسِمَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ لِأَهْلِ الإِيمَانِ إِنِّمَا هُوَ انْتِسَابُ عِرْقٍ وَلِسَانٍ، وَلَكِنَّ وَلَاءَهُمْ لِلْأَعْدَاءِ.
وَفِي الأُطْرُوحَاتِ النِّفَاقِيَةِ المُعَاصِرَةِ التَّي تَسْعَى لِتَغْييرِ دِينِ المُسْلِمِينَ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِهِمْ، وَتَغْييرِ تَرْكِيبَتِهِمُ الاجْتِمَاعِيَةِ، وَمَنْظُومَتِهِمُ الأُسَرِيَةِ، وَتَنْحِيَةِ الحُكْمِ بِالشَرِيعَةِ، وَتَبْدِيلِ التَقَاضِي إِلَيهَا؛ تَسْمَعُ مِنَ المُنَافِقِينَ دَعَاوَى التَطْوِيرِ وَالإِصْلَاحِ وَالتَحْدِيثِ وَالإِحْسَانِ، وَالسَعْيِّ بِالبَلَادِ وَالعِبَادِ نَحْوَ الرُقِيِّ وَالتَقَدُّمِ، وَهَذَا مَا كَانَ يَدَّعِيهِ المُنَافِقُونَ فِي العَهْدِ النَبَوِيِّ [ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِالله إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا]{النساء:62} وَفِي بِنَائِهِمْ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ [وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]{التوبة:107}وَإِنَّ تَالِيَ القُرْآنِ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَاتِ المُبَارَكَةِ لَيَشْعُرُ أَنَّهَا مَا تَنَزَّلَتْ إِلَّا فِي هَذَا الزَمَنِ.
وَإِذَا فَلَتَتْ أَلْسِنَةُ المُنَافِقِينَ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِهِ تَتَرَسُوا بِالحَلِفِ لِتَهْدِئَةِ غَضَبِ النَّاسِ عَلَيهِمْ، وَلِرَدِّ العُقُوبَةِ عَنْهُمْ [اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً] {المنافقون:2} أَيْ: وِقَايَةً مِنْ الغَضَبِ عَلَيهِمْ، وَإِيقَاعِ العُقُوبَةِ بِهِم. وَحَلِفُهُم إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي إِنْكَارِ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مَا قَالُوا؛ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا مُعْلَنًا كَمَا لَو سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُم، فَلَا يَتَوَرَعُونَ عَنْ بَتِّ الأَيمَانِ كَذِبًا [وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {المجادلة:14}. وَفِي نَفْيِّهِم لما قَالُوا [يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ]{التوبة:74}.
وَحَلِفُهُمْ بِالكَذِبِ عَلَى إِنْكَارِ مَا قَالُوا أَو تَأْوِيلِهِ وَادِّعَاءِ أَنَّ التَعْبِيرَ خَانَهُمْ مَا هُوَ إِلَّا لِتَسْكِينِ غَضَبِ المُسْلِمِينَ عَلِيهِمْ إِنْ رَأَوا غَضَبَهُمْ، وَهُوَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ مُنَافِقِي العَصْرِ إِذَا نَطَقُوا كُفْرًا، أَوْ قَالُوا هُجْرًا، وَهُوَ أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ كَانُوا يَنْتَهِجُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَبِيِّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لإِرْضَاءِ المُؤْمِنِينَ [يَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ] {التوبة:62} [يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ] {التوبة:96}. أَوْ يَكُونُ الحَلِفُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ [سَيَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ] {التوبة:95} وَيَبْدُو أَنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَتْرُكُونَ هَذَا الأُسْلُوبَ أَبَدًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ يَتَتَرسُونَ خَلْفَ الكَذِبِ، وَيَحْتَمُونَ بِالأَيمَانِ الكَاذِبَةِ؛ لِعِلْمِهِم بِقَبُولِ المُؤْمِنِينَ ذَلِكَ مِنْهُم. وَلمَا رَأُوا أَنَّ أَيمَانَهُمْ قَدْ نَفَعَتْ مَعَ المُؤْمِنِينَ أَرَادُوا مُخَادَعَةَ الله تَعَالَى بِهَا ظَنًا مِنْهُمْ أَنَّ أَيْمَانَهُمْ تُنْجِيهِمْ آنَذَاكَ [يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ] {المجادلة:18}.
وَلَكِنْ حِينَ يَكُونُ قُولُهم وَفِعْلُهُم ثَابِتًا عَلَيهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ، وَيُكْشَفُ فِيهِ كَذِبُهُمْ لَوْ كَذَبُوا؛ فَإِنَّهُمْ يَلْجَئُونَ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ وَهُوَ الاعْتِذَارُ، وَتَوجِيهُ قَبِيحِ مَا صَدَرَ مِنْهُم عَلَى أَنَّ القَصْدَ كَانَ مِنْهُ حَسَنًا، وَأَن السَوءَ فِيهِ غَيرُ مَقْصُودٍ، وَأَنَّ مَنْ رَآهُ سُوءًا فَقَدْ فَهِمَهُ خَطَأً، وَهُوَ أُسْلُوبٌ رَخِيصٌ قَدِيمٌ جَدِيدٌ، نَهَجَهُ المُنَافِقُونَ فِي عَهْدِ الرِّسَالَةِ، وَنَهَجَهُ مُنَافِقُو عَصْرِنَا فِيمَا فَلَتَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَقْلامُهُمْ مِنْ مَقُولَاتِ الكُفْرِ وَالإِلْحَادِ وَالزَنْدَقَةِ،فَاعْتَذَرُوا عَنْ مَقُولَاتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ]{التوبة:65}. لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ اعْتِذَارَهُمْ [قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]{التوبة:66}وَفِي آيَةٍ أُخْرَى [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ]{التوبة:94}.
وَفِي صِلَاتِهِمُ المَشْبُوهَةِ بِالكُفَّارِ، وَاتِصَالَاتِهِمُ المُسْتَمِرَّةِ بِهِمْ، وَتَآمُرِهِمْ مَعَهُمْ ضِدَّ المُسْلِمِينَ نَجِدُ عُذْرَ المُتَأَخِرِينَ مِنْهُمْ هُوَ عُذْرُ المُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ الخُوفُ وَالتَخْوِيفُ مِنْ قُوَّةِ الكَافِرِينَ وَتَهْوِيلِهَا، وَاصْطِنَاعِ اليَدِ عِنْدَهُمْ، [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ]{المائدة:52} هَذِهِ هِيَ مَقُولَتُهُمْ، وَهَذَا هُوَ عُذْرُهُمْ، يَخْشَونَ دَوَائِرَ الكُفَّارِ وَلَا يَخْشَونَ اللهَ تَعَالَى، فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ ظَنَّهُمُ السَيِّئَ بِهِ سُبْحَانَهُ [فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ]{المائدة:52} وَعَسَى مِنَ الله تَعَالى مُوْجِبَةٌ وَاقِعَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ الفَتْحُ وَالنَّصْرُ لِلرَّسُولِ وَالمُؤْمِنِينَ عَلَى كُلِّ طَوَائِفِ الكُفْرِ التِي كَانَ المُنَافِقُونَ يُخَوِّفُونَ بِهَا المُؤمِنِينَ. وَكَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي العَهْدِ النَبَوِيِّ وَقَعَ بَعْدَهُ فِي العُصُورِ التَّالِيَةِ، وَسَيَقَعُ فِي زَمَنِنَا مَتَى مَا تَمَسَّكَ المُؤْمِنُونَ بِدِينِهِمْ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِم، وَسَيَرَى المُنَافِقُونَ مَا يَسُوؤُهُمْ مِنْ عِزِّ الإِسْلَامِ وَنَصْرِ المُسْلِمِينَ، فَيُصْبِحُ المُنَافِقُونَ [عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ]{المائدة:52}.
أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ]{غافر:51-52}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم ....
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْه كَمَا يُحِبُ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى الله وَسَلَّمَ وْبَارَكَ عَلَيْه وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِن..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَعَظِّمُوا دِينَهُ، وَانْصُرُوَا مَنْ نَصَرَهُ، وَحَارِبُوْا مِن حَارَبَهُ؛ وَاحْذَرُوا النِّفَاقَ وَتَوَلِي المُنَافِقَينَ أَوِ الدِّفَاعَ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الله تَعَالَى فِيهِمْ شَدِيدٌ [وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]{التوبة:68}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: كَانَ المُنَافِقُونَ يُخْفُونَ نِفَاقَهُمْ، فَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ إِلَّا مَقُولَاتٌ قَلِيلَةٌ فَلَتَتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]{آل عمران:118}.فَإِذَا فَاضَ بَعْضُ مَا فِي صُدُورِهِمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عَرَفَهُمُ النَبِّيُ وَالمُؤْمِنُونَ [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ]{محمد:30}.
لَقَدْ هَدَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى المَرَّةَ تِلْوَ المَرَّةِ بِكَشْفِهِمْ، وَبَيَانِ حَقِيقَتِهِمْ؛ لَعَلَهُمْ يَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ؛ وَلِذَا كَانُوا يَخْشَونَ تَنَزُّلَ القُرْآنِ بِفَضِيحَتِهِم [يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ]{التوبة:64}وَيَتَوَقَعُونَ حُصُولَ ذَلِكَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ]{المنافقون:4}. قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ القَولَ فِيمَا بَينَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: عَسَى اللهُ أَنْ لاَ يُفْشِيَ عَلَينَا هَذَا.
وَهَدَّدَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُسَلِّطُ عَلَيهِمْ نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنِينَ [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا]{الأحزاب:60}، فَانْتَهَوا عَنْ أَقْوَالِهِمُ القَبِيحَةِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُؤْخَذُوا بِهَا؛ إِذْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ بِفَضِيحَتِهِمْ، وَأُعْلِنَ فِيهَا البَرَاءَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ أَفْعَالِهِمْ مَا عَادُوا يَسْتَطِيعُونَ التَتَرُّسَ بِالأَيمَانِ الكَاذِبَةِ، وَلَا الاحْتِمَاءَ بِالأَعْذَارِ البَارِدَةِ، فَمَا ثَمَّ إِلَّا العُقُوبَةُ، فَتَوَقَفُوا عَنْ شَرِّهِمْ؛ فَكَانَ آخِرُ الأَمْرَينِ فِي الشَرِيعَةِ مُؤَاخَذَةَ المُنَافِقِينَ بِأَقْوَالهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَعَدَمَ قَبُولِ حَلِفِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى مَنْ بَقِيَ مِنَ المُنَافِقِينَ مَا صَارَ الأَمْرُ إِلَيهِ مِنْ عِزِّ الإِسْلَامِ وَقِيَامِ الرَّسُولِ بِجِهَادِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ أَضْمَرُوا النِّفَاقَ فَلَمْ يَكُنْ يُسْمَعُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ المُنَافِقِينَ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَلِمَةُ سُوءٍ، وَمَاتُوا بِغَيظِهِمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ بَعْدَ مَوتِ النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُهُمْ صَاحِبُ السِّرِّ حُذَيفَةُ فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيهِمْ هُوَ، وَلَا يُصَلِّي عَلَيهِمْ مَنْ عَرَفَهُمْ لِسَبَبٍ آخَرَ مِثْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَمِلُ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ قَبْلَ بَرَاءَةٍ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَمِلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.اهـ.
إِنَّ مَا يَفْلِتُ مِنْ أَقْلَامِ أَهْلِ الزَنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ وَأَلْسِنَتِهِمْ فِي هَذَا الزَمَنِ مِنْ مَقُولَاتِ الكُفْرِ وَالإِلْحَادِ مَا هُوَ إِلَّا امْتِدَادٌ لِنِفَاقِ مَنْ سَبَقُوهُمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنْ بُغْضِ الله تَعَالَى أَكْبَرُ، وَمِنْ بُغْضِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَبُغْضِ دِينِهِ وَمَنْ يَدِينُ بِهِ، وَالكَيدِ لَهُمْ، وَمُمَالَأَةِ الأَعْدَاءِ عَلَيهِمْ. فَهُمْ قَومٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَتَشَرَّبَتْهُ قُلُوبُهُمْ حَتَّى أَظْلَمَتْ بِهِ.
إِنَّ النِّفَاقَ سَيَبْقَى فِي هَذِهِ الأُمَّةِ؛ ابتَلَاءً مِنَ الله تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالمُنَافِقِينَ، وَإِنَّ تَسَلُّطَ المُنَافِقِينَ فِي هَذَا العَصْرِ عَلَى كُلِّ مَا يَمُتُّ لِلْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ مَا هُوَ إِلَّا اغْتِرَارٌ بِالحِبَالِ المُمْتَدَةِ إِليهِمْ مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَبِقُوةِ مَنْ يُوَجِهُونَهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ عَنْ بُعْدٍ؛ لِمَحْوِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ، وَإِبْدَالِ غَيرِهَا بِهَا.
وَإِنَّ أَمْضَى سِلَاحٍ يَفْتِكُ بِهِمْ، وَيُفْشِلُ مَشْرُوعَاتِهِمْ، وَيَقْلِبُ كَيدَهُمْ عَلَيهِمْ؛ يَقِينُ أَهْلِ الإِيمَانِ بِوَعِيدِ الله تَعَالَى فِي المُنَافِقِينَ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِدِينِهِمْ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَيهِ، وَصَبْرُهُمْ عَلَى الأَذَى فِيهِ، مَعَ الاحْتِسَابِ عَلَى المُنَافِقِينَ، وَكَشْفِ سُوءِهِمْ لِلْنَّاسِ، وَبَيَانِ خَطَرِهِمْ عَلَيهِمْ، وَعَدَمِ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ مِنْ كَسْرِهِم؛ فَإِنَّ وَعْدَ الله تَعَالَى حَقٌ، وَإِنَّ نَصْرَهُ قَرِيبٌ، وَسَيَأْتِي اليَومُ الذِي تُقْطَعُ فِيهِ الحِبَالُ عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَتُخْرَسُ فِيهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَتُكْسَرُ أَقْلَامُهُمْ، لِيَكُونُوا رِمْسًا لَا تَسْمَعُ لَهُمْ هَمْسًا، فَيَعُودُونَ إِلى جُحُورِهِمْ خَائِفِينَ صَاغِرينَ، وَيَمُوتُونَ بِغَيظِهِمْ أَذِلَّةً مَقْهُورِينَ، وَيَحُلُّ بِهِم مِنَ المَثُلَاتِ مَا حَلَّ بِالمُنَافِقِينَ السَابِقِينَ [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا] {النساء:139}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ 7.doc
مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ 7.doc
من صفات المنافقين7.doc
من صفات المنافقين7.doc
المشاهدات 4696 | التعليقات 8
احسن الله اليك واثابك ورفع قدرك
]كفانا الله وإياكم شر النفاق والمنافقين .. وأجزل الله لك المثوبة والأجر يا شيخ إبراهيم
بورك فيك شيخنا الكريم
متابعة متميزة للأحداث والوقائع
ربط حسن بالنصوص
جودة في الصياغة وحبك للمقالة
لله درك شيخنا الفاضل ..
خطبة وجيزة بليغة مدعومة بالدليل النصي في كل مسألة ..
ومباشرة في ذات الحدث ..
وفقك الله وكتب أجرك .. ونفع الله بك
شكر الله تعالى لكم أيها الإخوة الفضلاء والمشايخ الكرام، وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم ويجزيكم عني خير الجزاء آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق