تبديل الإيمان

تَبْدِيلُ الإِيمَانِ
2/6/1434

الحَمْدُ للهِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ؛ مَنَّ عَلَيْنَا بِخَيْرِ دِينٍ لِلْأَنَاَمِ، فَهَدَانَا لِلْإِسْلاَمِ، وَعَلَّمَنَا الإِيمَانَ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيلِ عَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ؛ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ، وَقَطَعَ مَعْذِرَةَ المُكَذِّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَنَصَبَ الدَّلاَئِلَ وَالبَرَاهِينَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛ [لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] {النساء:165}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَرِصَ عَلَى أُمَّتِهِ؛ فَعَزَّ عَلَيْهِ عَنَتُهَا، وَرَفَعَ الحَرَجَ عَنْهَا، وَنَصَحَ لَهَا، فَجَزَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُسْلِمِينَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، وَصَلَّى وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاحْذَرُوا أَسْبَابَ الفِتَنِ وَالهَوَى، وَجَانِبُوا أَوْدِيَةَ الانْحِرَافِ وَالرَّدَى؛ فَإِنَّ مَنْ وَلَجَهَا مُجَرِّبًا تَاهَ فِي أَحْرَاشِهَا، وَمَنْ تَرَكَ إِيمَانَهُ لِأَجْلِهَا هَوَتْ بِهِ فِي قَعْرِهَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْثَرَ صُدُودًا عَنِ الحَقِّ، وَرُكُوبًا لِلْبَاطِلِ، وَعَمًى فِي البَصِيرَةِ مِنَ الهَوَى؛ فَمَنْ رَكِبَ هَوَاهُ أَرْدَاهُ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلاَلِ وَالعَتَهِ وَالعَمَى فَلاَ مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا؛ [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {الجاثية:23}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الإِيمَانُ نِعْمَةٌ لاَ يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلاَّ مَنْ جَرَّبَ غَيْرَهَا، وَلاَ يُدْرِكُ أَهَمِّيَّتَهَا إِلاَّ مَنْ عُوقِبَ بِفَقْدِهَا.
الإِيمَانُ سُكُونُ القَلْبِ وَطُمَأنِينَتُهُ، وَاجْتِمَاعُهُ وَسُرُورُهُ، وَرَاحَةُ النَّفْسِ وَحُبُورُهُا، وَغِبْطَتُهَا بِوِلاَيَةِ مَوْلاَهَا؛ [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] {يونس:62-63}.
لاَ يَنَالُ الإِيمَانَ إِلاَّ عَبْدٌ مُوَفَّقٌ قَدْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِهِ خَيْرًا، وَلاَ يُحْرَمُ الإِيمَانَ إِلاَّ مَخْذُولٌ قَدْ صُرِفَ عَنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ.
يَنَامُ المُؤْمِنُ حِينَ يَنَامُ وهُوَ قَرِيرُ العَيْنِ، لاَ يُقْلِقُهُ شَكٌّ، وَلاَ يُمَزِّقُهُ جُحُودٌ، وَلَا يَهِيمُ فِي أَوْدِيَةٍ لاَ يَجِدُ مِنْهَا مَخْرَجًا، يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنْ قَبَضَ رُوحَهُ فِي مَنَامِهِ قَابَلَهُ بِإِيمَانِهِ، وَإِنْ أَرْسَلَ رُوحَهُ فَاسْتَيْقَظَ عَاشَ بِإِيمَانِهِ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجَلُهُ.
وَأَمَّا الشَّكَّاكُ وَالجَاحِدُونَ، وَفَاقِدُو الإِيمَانِ وَاليَقِينِ فَيَنَامُونَ فِي رُعْبٍ، وَيَسْتَيْقِظُونَ فِي بُؤْسٍ؛ وَلِذَا قِيلَ: فِي اللَّيْلِ يَعُودُ المُلْحِدُ نِصْفَ مُؤْمِنٍ بِاللهِ تَعَالَى.
إِنَّ الإِيمَانَ لاَ يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَلاَ يُوزَنُ بِذَهَبٍ، وَلاَ يُقَاضَى بِمَالٍ؛ فَهُوَ الوُجُودُ الحَقِيقِيُّ لِلْإِنْسَانِ، وَالإِنْسَانُ بِلاَ إِيمَانٍ لاَ شَيْءَ، وَالأَنْعَامُ أَحْسَنُ مِنْهُ حَالاً، وَأَهْدَى مِنْهُ سَبِيلاً.
الإِيمَانُ يُشْعِرُ الإِنْسَانَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا مُهْمَلاً، وَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا، وَلَنْ يُتْرَكَ سُدًى، وَأَنَّ العَدَالَةَ المُطْلَقَةَ فِي انْتِظَارِهِ؛ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَتَسْتَقِرَّ بَلاَبِلُهُ، وَيَفِيءَ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِلَى عَدْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فِي نِهَايَةِ المَطَافِ.
الإِيمَانُ هُوَ مَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَيْنَ مَنْ يَعِيشُ بَيْنَ جُدْرَانِ الحِسِّ المُغْلَقَةِ، وَمَنْ يَعِيشُ فِي الوُجُودِ المَدِيدِ الرَّحِيبِ، بَيْنَ مَنْ يَشْعُرُ أَنَّ حَيَاتَهُ عَلَى الأَرْضِ هِيَ كُلُّ مَا لَهُ فِي هَذَا الوُجُودِ، وَمَنْ يَشْعُرُ أَنَّ حَيَاتَهُ عَلَى الأَرْضِ ابْتِلاَءٌ يُمَهِّدُ لِلْجَزَاءِ، وَأَنَّ الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ هُنَالِكَ، وَرَاءَ هَذَا الحَيِّزِ الصَّغِيرِ المَحْدُودِ.
وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ خُسْرَانًا، وَلاَ أَعْظَمَ خِذْلاَنًا، وَلاَ أَشْأَمَ حَالاً مِمَّنْ عَرَفَ طَرِيقَ الإِيمَانِ فَجَانَبَهُ، أَوْ ذَاقَ حَلاَوَتَهُ ثُمَّ بَارَحَهُ، أُولَئِكَ قَوْمٌ [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا] {البقرة:10} [فَلَمَا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {الصَّف:5}، فَدَلاَئِلُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَرَاهِينُ الأُلُوهِيَّةِ، وَمُحَتِّمَاتُ الإِيمَانِ، لاَ تَزِيدُهُمْ إِلاَّ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، وَشَكًا إِلَى شَكِّهِمْ، وَجُحُودًا إِلَى جُحُودِهِمْ.
وَمَنْ عَرَفَ دَلاَئِلَ الإِيمَانِ، أَوْ ذَاقَ حَلاَوَتَهُ فَتَرَكَهُ إِلَى الشَّكِّ وَالجُحُودِ فَقَدْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ حَالُهُ كَحَالِ أَهْلِ الكِتَابِ حِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {البقرة:211}.
وَمِنْ عَجِيبِ المُوَافَقَاتِ أَنْ يُخَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي هِيَ فِي أَجْدَادِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَدْ عَرَفُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُتُبِهِمْ، ثُمَّ بَدَّلُوا نِعْمَةَ المَعْرِفَةِ كُفْرًا، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ، ثُمَّ نَجِدُ أَنَّ نَظَرِيَّاتِ الإِلْحَادِ وَالشَّكِّ تُبْعَثُ مِنْ حَضَارَةِ أَحْفَادِهِمْ، وَتَنْمُو فِي أَحْضَانِهِمْ، وَيَسُودُ الإِلْحَادُ بُلْدَانَهُمْ، وَيَنْتَشِرُ فِي أُنَاسِهِمْ، حَتَّى صَارَ نَسِيجًا مِنْ ثَقَافَتِهِمْ، وَجُزْءًا مِنْ مَعَارِفِهِمْ.
وَمِنْ بَلاَغَةِ القُرْآنِ: أَنَّ آيَةَ تَبْدِيلِ نِعْمَةِ مَعْرِفَةِ الإِيمَانِ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَعْقَبَهَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا] {البقرة:212}، ثُمَّ تُنْظَرُ لِتَرَى أَنَّ أَحْفَادَ أَهْلِ الكِتَابِ غَارِقُونَ فِي المَادِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، رَاكِبُونَ مَوْجَاتِ الإِلْحَادِ المُخْتَلِفَةَ، وَحِينَهَا تَعْلَمُ أَنَّ أَغْلَبَ التَّبْدِيلِ وَأَسَاسَهُ وَأَصْلَهُ مَا زُيِّنَ فِي القُلُوبِ مِنْ مَحَبَّةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَفْكَارُ الغَرْبِ وَاتِّجَاهَاتُهُ الفِكْرِيَّةُ مِنَ التَّنْوِيرِ، وَالعَقْلاَنِيَّةِ، وَالنَّفْعِيَّةِ، وَالعَلْمَانِيَّةِ، وَالوَضْعِيَّةِ وَالحَدَاثَةِ وَمَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ، كُلُّهَا مَفَاهِيمُ أَسَاسُهَا إِلْحَادِيٌّ، تَصُبُّ فِي نَهْرٍ آسِنٍ وَاحِدٍ: هُوَ مُعَادَاةُ الدِّينِ، وَمُحَاوَلَةُ فَصْلِ الأَخْلاَقِ عَنْهُ، وَأَسَاسُ الفِكْرِ التَّنْوِيرِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى مَقُولَتِهِمْ: «لاَ سُلْطَانَ عَلَى العَقْلِ إِلاَّ العَقْلَ»!
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ بَدَّلُوا إِيمَانَهُمْ فَتَمَرَّدُوا عَلَى الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، فُهِمَ لِمَ ذُيِّلَتْ آيَةُ تَبْدِيلِ نِعْمَةِ الإِيمَانِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {البقرة:211}. فَإِنَّ عَدَدًا مِنْ فَلاَسِفَةِ الغَرْبِ الَّذِينَ يَشِيدُ بِهِمْ أَصْحَابُ الاتِّجَاهَاتِ اللِّيبْرَالِيَّةِ والتَّنْوِيرِيَّةِ مِنَ العَرَبِ مِمَّنْ تَمَرَّدُوا عَلَى الإِيمَانِ، وَنَظَّرُوا لِلْإِلْحَادِ قَدْ فَقَدُوا عُقُولَهُمْ، وَأُصِيبُوا بِالجُنُونِ فِي أُخْرَيَاتِ حَيَاتِهِمْ، فَسُلِبُوا العَقْلَ الَّذِي بِهِ تَحَدَّوُا الإِيمَانَ، وَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَنْكَى.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ تَوَعَّدَ المُشْرِكِينَ حِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ] {إبراهيم:28-29}، فَمَا بَالُكُمْ بِمَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ الإِيمَانِ فَصَارَ إِلَى الشَّكِّ وَالرَّيْبِ أَوِ الجُحُودِ وَالإِلْحَادِ؟!
وَكُلَّمَا كَانَ الإِنْسَانُ فِي بِيئَةٍ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَعْلَمُ بِدِينِهِ، وَأَنْقَى فِي تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَذَاقَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، وَعَاشَ لَذَّةَ العِبَادَةِ، وَأَحَسَّ صَفَاءَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ تَرَكَ مَنْهَجَ الوَحْيِ، وَرَكِبَ مَا اخْتَرَعَهُ البَشَرُ وَظَنُّوهُ فِي الفَلْسَفَاتِ الإِلَهِيَّةِ وَأَسْرَارِ الوُجُودِ فَهُوَ مُبَدِّلٌ لِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةِ الانْسِلاَخِ مِنَ الإِيمَانِ إِلَى الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى الجُحُودِ وَالإِلْحَادِ، وَإِنَّ القَلْبَ لَيَنْخَلِعَ خَوْفًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ مِمَّنْ غَرَّتْهُمْ فَلْسَفَاتُ الشُّكَّاكِ وَالمَلاَحِدَةِ، فَيَقْرَؤُونَ لَهُمْ، وَيَحْتَفُونَ بِهِمْ، وَيَمْلَؤُونَ قُلُوبَهُمْ بِظُلُمَاتِ قَوْلِهِمْ، وَكَيْفَ لاَ يُشْفِقُ قَلْبُ مُؤْمِنٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: [كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمَا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ] {آل عمران:88}، وَلَمْ يَسْتَثْنِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ، وَالتَّوْبَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّاسِ قَلِيلَةٌ؛ فَإِنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى فِعْلَتِهِمْ بِطَمْسِ بَصَائِرِهِمْ، وَخَتْمٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَإِصْرَارٍ عَلَى ضَلاَلِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ وَالوَاقِعُ؛ [إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:89}، ثُمَّ تَأْتِي الحَقِيقَةُ المُفْزِعَةُ الرَّاعِبَةُ: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ] {آل عمران:90}.
وَفِي سِيَاقٍ قُرْآنِيٍّ آخَرَ: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا] {النساء:137}، كُلُّ هَذَا فِي تَبْدِيلِ الإِيمَانِ؛ لِنَعْلَمَ أَيَّ جِنَايَةٍ يَجْنِيهَا مَنْ يَدْعُونَ نَاشِئَةَ المُسْلِمِينَ إِلَى وُلُوجِ أَفْكَارِ الآخَرِينَ بِلاَ سِلَاحٍ مِنْ عِلْمٍ مَتِينٍ، وَإِيمَانٍ رَاسِخٍ مَكِينٍ، وَيَبُثُّونَ إِلَيْهِمُ الشُّكُوكَ وَالجُحُودَ فِي رِوَايَاتٍ وَمَقَالاَتٍ وَتَقْرِيرَاتٍ لاَ تَبْنِي عَقْلاً، وَلاَ تُفِيدُ عِلْمًا، إِنْ هِيَ إِلاَّ هَدْمٌ لِلْإِيمَانِ وَاليَقِينِ، وَتَقْرِيرٌ لِلشَّكِّ وَالعَبَثِ.
نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ بَعْدَ الهُدَى، وَمِنَ العَمَى بَعْدَ البَصِيرَةِ، وَمِنَ الشَّكِّ وَالجُحُودِ بَعْدَ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ، اللَّهُمَّ أَحْيِينَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَتَمَسَّكُوا بِإِيمَانِكِمْ؛ فَإِنَّهُ مَحْضُ فَضْلِ الله تَعَالَى عَلَيكُمْ، وَهُوَ بَوَابَةِ سَعَادَتِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الشُّورى:52} ..
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: أُمَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمَّةٌ قَدْ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى عِبْرَةً وَعِظَةً لِأُمَّتِنَا فِي كَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَزِيَادَةِ شُكُوكِهِمْ، وَافْتِيَاتِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَيَقِينِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِسْلاَمِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ. كَانُوا يُلِحُّونَ فِي طَلَبِ الآيَاتِ، وَيَتَعَنَّتُونَ فِي السُّؤَالاَتِ، وَيُورِدُونَ الإِشْكَالاَتِ حَتَّى قَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى التَّمَرُّدِ وَالعِصْيَانِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى الشَّكِّ وَالجُحُودِ وَالإِلْحَادِ.
تَأَمَّلُوا تَحْذِيرَ اللهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ سُلُوكِ مَسْلَكِ بَنِي إِسْرَائِيلِ بِهَذَا السُّؤَالِ الرَّبَّانِيِّ؛ [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] {البقرة:108}، لِنَعْلَمَ أَنَّ الإِلْحَاحَ فِي السُّؤَالِ، وَبَعْثَ الشُّكُوكِ، وَإِثَارَةَ الشُّبُهَاتِ هُوَ المَسْلَكُ الأَخْطَرُ لِتَبَدُّلِ الكُفْرِ بالإِيمَانِ.
إِنَّ الشُّبْهَةَ وَالشَّكَّ لاَ يَبْنِيَانِ عِلْمًا، وَلاَ يُؤَسِّسَانِ لِحَقٍّ، إِنَّهُمَا مِعْوَلُ هَدْمٍ فَحَسْبُ، وَدُونَكُمْ سِيَرَ أَهْلِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّكِّ، مَاذَا قَدَّمُوا لِلْبَشَرِيَّةِ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لاَ شَيْءَ سِوَى التَّخَبُّطِ وَالضَّيَاعِ، وَالشَّكِّ وَالحَيْرَةِ وَالانْقِطَاعِ، وَالانْكِفَاءِ عَلَى الدُّنْيَا وَتَعْظِيمِهَا، وَنِسْيَانِ الآخِرَةِ وَبَخْسِهَا.
وَبِهَدْيِ القُرْآنِ، وَاعْتِبَارًا بِحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ النِّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ جَمْعَاءَ عَلَى الإِيمَانِ وَاليَقِينِ، وَالانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، وَاجْتِنَابِ مَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّعَنُّتِ فِي السُّؤَالِ، فقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.حَتَّى قَالَ أَنَسُ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
كُلُّ ذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى الإِيمَانِ أَنْ يَتَبَدَّلَ، وَحِفَاظًا عَلَى القَلْبِ أَنْ يَتَغَيَّرَ، وَسَدًّا لِمَسَارِبِ الشَّكِّ وَالجُحُودِ وَالتَّمَرُّدِ.
وَفِي حَادِثَةٍ عَظِيمَةٍ مُؤَثِرَةٍ أَكْثَرُوا السُؤَالَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَرَفُوا الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَخَافُوا العَذَابَ، وَمِنَ العَذَابِ سَلْبُ الإِيمَانِ وَتَبْدِيلُهُ، قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:«سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ المِنْبَرَ فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي» وفي رواية قَالَ أَنَسٌ:«فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ»رواه الشيخان.
إِنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ قَمِيصًا يَمْلِكُهُ العَبْدُ فَيَلْبَسُهُ مَتَى شَاءَ، وَيَنْزِعُهُ إِذَا شَاءَ، فَإِنَّهُ إِنْ نُزِعَ يُوشِكُ أَلاَّ يَعُودَ، وَإِنْ عَادَ لَمْ يَعُدْ كَمَا كَانَ عَلَى رَكِيزَةِ الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ.
إِنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ سِلْعَةً يَبِيعُهَا صَاحِبُهَا ثُمَّ يَسْتَطِيعُ شِرَاءَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ يَشْتَرِي مِثْلَهَا أَوْ أَنْفَسَ مِنْهَا، إِنَّهُ مَحْضُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَنِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، فَإِنْ بَدَّلُوهَا فَقَدُوهَا، فَزَالَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلاَ تَكَادُ تَعُودُ إِلَيْهَا أَبَدًا، فَعَاشُوا فِي شَكٍّ وَحَيْرَةٍ، وَرُبَّمَا جَاوَزُوهَا إِلَى جُحُودٍ وَإِلْحَادٍ.
إِنَّ الإِيمَانَ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ العَبْدُ، وَهُوَ السَّبَبُ الأَوَّلُ وَالأَخِيرُ لِلسَّعَادَةِ، وَمَنْ فَقَدَ سَبَبَ السَّعَادَةِ فَلَنْ يَسْعَدَ أَبَدًا، فَحَافِظُوا عَلَى إِيمَانِكُمْ، وَرَسِّخُوهُ بِالتَّسْلِيمِ وَالانْقِيَادِ، وَزِيدُوهُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات

تبديل الإيمان.doc

تبديل الإيمان.doc

تَبْدِيلُ الإِيمَانِ.doc

تَبْدِيلُ الإِيمَانِ.doc

المشاهدات 2875 | التعليقات 3

زادك الله علما وإيمانا وتوفيقا وسدادا
وجزاك الله عنا خير الجزاء
نحن نحتاج مثل هذه الخطب التي تجعل الانسان يراجع نفسه ويتحقق من إيمانه لأن منابرنا في الآونة الأخيره أصبحت وكأنها موجز أخبار لما يحصل طوال الأسبوع وكثرة الحديث عن مصائب الأمة اليوم في خطب الجمعة يهون ما يحصل من هذه الأمور في قلوب الناس ويجعل البعض ربما يصاب بالإحباط واليأس من نصر الله لدينه -لقلة الناصر للمستضعفين في كل مكان فيكتفي بالحوقلة - ولأن القاعدة والأساس التي هي الإيمان قد تكون ضعيفه ومهزوزة عن اكثر الناس اليوم
فالذي أراه مع قصور فهمي ونظري ان نعالج نحن الخطباء قضية ضعف الإيمان عند الناس لأنه إن رسخ الإيمان في القلوب وتعلقت الأمة بالله سبحانه فحري بها ان تصنع المستحيل كما كان عهد الصحابة رضي الله عنهم


زادك الله علما وإيمانا وتوفيقا وسدادا
وجزاك الله عنا خير الجزاء


الأخوان الكريمان: عوض وعبد الله..
شكر الله تعالى لكما مروركما وتعليقكما على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بكما وأن يجزيكما خير الجزاء.. آمين