تاريخ الجماعات الخفية " 2" : يهود الدونمة .. أ.شريف عبد العزيز
الفريق العلمي
" الدونمة" كلمة تركية معناها "المرتدين"، وقد أُطلق هذا الاسم على جماعة يهودية تركية من أتباع دجال اليهود "شبتاي تسفي" المتوفى في 1676 ميلادية تظاهرت بالإسلام وظلت على يهوديتها في الخفاء، وتخرب في الدولة العثمانية وتحاربها سراً، والعجيب أن أمر هذه الجماعة لم ينكشف إلا بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1938 ميلادية وكان أحد أعضائها، أي أن هذه الجماعة ظلت تعمل في الخفاء طيلة 260 سنة حتى افتضح أمرها وشاع خبرها بين الناس، فأطلقوا عليه اسم "الدونمة" أي المرتدين.
دجال الدونمة"شبتاي تسفي"
ولد شبتاي تسفي سنة 1626 في أزمير التركية لأب يهودي أشكنازي – يهود شرق أوروبا – يعمل في التجارة، وتلقى في صغره تعليماُ دينياً تقليدياً فدرس التوراة والتلمود، ثم تحول إلى الاتجاه الصوفي اليهودي المعروف باسم"القبَّالاه"، وهو اتجاه يشبه صوفية المسلمين من النزوع نحو الغنوصية والحلول والتناسخ، ويعادي أتباع هذا الاتجاه تيار اليهودية الحاخامية التقليدي المهيمن على حياة اليهود عبر التاريخ.
تزامن مولد شبتاي تسفي مع حدوث تغيرات دولية كبرى وتحولات سياسية واقتصادية عميقة في أوروبا الغربية والشرقية؛ فقد بدأ تعاظم نفوذ البروتستانتية على حساب الكاثوليكية بعد المكاسب الاقتصادية الضخمة التي حققها الانجليز والهولنديون على حساب الإسبان والبرتغاليين، وكان لليهود حظوة ودولة في انجلترا وهولندا بسبب تعاطف البروتستانت مع اليهود، مما أدى لزيادة ثروات طبقة اليهود الارستقراط بسبب الصفقات التجارية لشركتي الهند الشرقية والغربية، في المقابل تدهورت مكانة عامة اليهود وتأثروا مالياً وسياسياً بسبب انتفاضة سكان أوكرانيا والقوزاق – طبقة الفلاحين في روسيا القيصرية - تحت قيادة شميلنكي سنة 1648ميلادية ، وكان اليهود الضحية الكبرى في ذلك، ثم وقوع حرب بين روسيا والسويد على الحدود في مناطق تركيز اليهود في بولندا.
وقد شهدت هذه الفترة إرهاصات الفكر الصهيوني بين مسيحي انجلترا، وبداية الاهتمام باليهود بعد قرون من الازدراء والاحتقار، وكانت هناك نبوءة تسري في الأوساط المسيحية البروتستانتية في انجلترا أن عام 1666 هو بداية العصر الألفي الذي سيتحقق فيه عودة اليهود لفلسطين، طبعاً لم تكن مجرد نبوءة دينية فحسب بل كانت وليدة الأجواء الاستعمارية والاستيطانية التي دشنتها انجلترا وفرنسا في هذه الحقبة بالإضافة لهولندا وإسبانيا والبرتغال.
في هذا الجو من الإحباط والتردي الحضاري والاقتصادي انتشر فكر الصوفية اليهودية المعروف باسم"القبّالاه اللوريانية" التي تؤمن بحتمية ظهور شخصية المسيح المخلص لتخليص اليهود من نير العالم وإقامة مملكة داود على أرض صهيون، واعتنق هذا الفكر الحلولي الغنوصي كثير من اليهود في أوروبا، كلها كانت عوامل مهدت لظهور "شبتاي تسفي" وكان شخصاً غير سوي يعاني من بعض الأمراض النفسية ومضطرب ذهنياً، سافر إلى القاهرة واستقر بها فترة قصيرة تزوج خلالها من فتاة بولندية التي كان لها دور هام في تركيز فكرة المسيح المخلص في رأس شبتاي تسفي حتى أعلنها بالفعل سنة 1648،وقد أعلن وقتها بطلان التوراة والتلمود وأنه قد حلّ محلهما، فرفض الحاخامات الاعتراف بدعوته، وطردوه من أزمير؛ فانتقل إلى اليونان ومكث بها عشرة سنوات وأسس دعوته ونسق أتباعه حتى زادت أعدادهم فأعلن أنه سيستولي على العرش العثماني ويخلع السلطان.
في سنة 1665 دخل شبتاي تسفي القدس وأعلن أنه المتصرف الوحيد في العالم، وركب فرساً وطاف هو وأتباعه حول المدينة سبعاً، فاجتاحت حمى شبتاي تسفي يهود أوروبا ووصلت أخباره إلى كل عواصمها، ورفعت شعاراته وأعلامه في بولندا وروسيا، حتى أخذ اليهود في بيع ممتلكاتهم وحملوا ثرواتهم في السفن للسفر إلى فلسطين وسيطرت الهيستريا على الجماهير، وفي المقابل أصدر مجلس الحاخامات الأعلى في أوروبا قراراً بتكفير شبتاي وأتباعه.
كل ذلك كان يحدث في أقاليم الدولة العثمانية والسلطان وحكومته في غفلة عنه منشغلين بالحرب ضد روسيا والنمسا، وحينما بلغ الأمر مداه قامت الدولة العثمانية بالقبض على شبتاي في فبراير سنة 1666، وتجنباً للصدام مع أتباعه الكثيرين قامت بسجنه في قلعة جاليبولي المخصصة للشخصيات الهامة، وطلبت الدولة من الحاخامات مناظرته فمكثوا معه ثلاثة أيام خرجوا بعدها ببيان عام أن شبتاي يحرض على الفتنة وأن واجب الدولة قتله حتى تضمن الأمن والسلام المجتمعي.
قدم شبتاي تسفي للمحاكمة وحكموا عليه بالموت، فتظاهر بالإسلام حتى يأمن من القتل، ولم يكن مجرد إعلان للفرار، بل طلب من الدولة العثمانية الإذن له في دعوة اليهود للإسلام، وبدأ في تعلم العربية وقرأ القرآن، وأسلمت زوجته ولبست الحجاب، واتخذ اسم"محمد البواب أو الحاجب"؛ فحذا حذوه أتباعه، وكان ذلك موافقاً لمعتقداتهم في المسيح المخلص، إذ كان يجسدونه في صورة الشرير ظاهرياً والخيّر داخلياً، ولم يطمئن العثمانيون لتحركات وتصرفات تسفي فنفوه إلى ألبانيا وحددوا إقامته في بيته حتى هلك سنة 1676 بداء الكوليرا.
جرائم يهود"الدونمة"
تمركز يهود الدونمة في سلانيك، وحمل كل عضو منهم اسمين: تركي مسلم، وآخر عبري يعرف به في أعضاء مجتمعه السري، وظلوا يدينون باليهودية سراً، يتدارسون التوراة، ويستفتون الحاخامات، ويحتفلون بالأعياد اليهودية، ويقيمون كل شعائر اليهود، ما عدا الكف عن العمل يوم السبت حتى لا يلتفوا الأنظار إليهم. وقد انتشر في أوساط الدونمة الانحلال الأخلاقي والجنسي خاصة، وكانوا أول من أقام حفلات لتبادل الزوجات، ولهم احتفال في بداية الربيع مثل احتفال النيروز المجوسي به من الموبقات والفواحش ما لا يعلمه إلا الله.
انقسمت يهود الدونمة إلى عدة فرق بعد وفاة شبتاي أبرزها: اليعقوبية وكان لهم سمت خاص، حيث يحلقون رؤوسهم تماماً، ويطلقون لحاهم، ويلبسون الطرابيش، وكانوا مندمجين للغاية في المجتمع التركي المسلم.
ومنهم القنهلية أسسها باروخيا روسو واسمه التركي مصطفى شلبي، وكانت أكثر فرق الدونمة تطرفاً وإباحية، وانتشرت في صفوف الحرفيين والفقراء، ومنهم القبانجية التي انتشرت في صفوف الأغنياء من الدونمة.
دور يهود الدونمة في إسقاط الدولة العثمانية
يرى بعض المؤرخين الأتراك أن رجال طائفة يهود الدونمة محرومون من الشعور بالانتماء إلى الأمة والوطن، حيث أنهم دخلوا الإسلام خوفاً وقهراً، وانتسبوا للمجتمع العثماني كعبيد، فكانوا ينظرون إلى العثمانيين نظرةً حاقدة وسيئة.
وذلك على الرغم من تغلغلهم الاقتصادي والسياسي في كيان الدولة العثمانية والجمهورية التركية الحديثة، حيث شغلوا مناصب قيادية في الدولة؛ حيث شهدت السنوات التي سبقت تولي السلطان عبد الحميد الثاني الحكم سيطرة يهود الدونمة والماسونية بشكل كبير على سياسة الدولة، ومنها محاولة وزير الخارجية مصطفى رشيد باشا الذي أصدر تشريعات أواخر حكم السلطان محمود الثاني عام 1839م تشجع الأقليات في الدولة العثمانية على محاولات الانفصال عن الدولة، وأصدر تشريعات أخرى تدعو إلى التغريب تحت مسمى الإصلاحات، وعلى الرغم من أن تشريعاته قوبلت بالرفض من قبل علماء الدين وطردوه من الحكومة عام 1841م، إلا أنه عاد مرة ثانية عام 1845م وتولى منصب الصدر الأعظم ولم يعزل إلا عام 1858م.
استمرت التشريعات البعيدة عن الشريعة الإسلامية في عهد الدولة العثمانية في عهد كل من السلطانين عبد المجيد الأول ( 1839- 1861م) وأخيه عبد العزيز(1861-1876م)، كتشريعات الوالي مدحت باشا الدونمي الأصل والذي أصبح الصدر الأعظم، وخطط لقتل السلطان عبد العزيز في محاولة لتولية مراد الخامس ابن السلطان عبد المجيد الأول والذي كان عضواً في المنظمات الماسونية اليهودية، بعد محاولة السلطان عبد العزيز العودة بالحكم حسب التشريعات الإسلامية، وقد نجح بالفعل في قتل عبد العزيز ولكن لم ينجح في تولية مراد الخامس بسبب الفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام حسن خير الله بعزل مراد الخامس عن الحكم (1876- 1876م )، أمضى بقية حياته في قصر جراغان، وتولى الحكم بعده أخوه السلطان عبد الحميد الثاني( 1876- 1909م )والذي تم إجباره في بداية حكمه على قبول كافة التشريعات والإصلاحات الممهدة لإعلان النظام الجمهوري.
لعب يهود الدونمة دوراً كبيراً وجوهرياً في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وكان معظم المتآمرين على السلطان عبد الحميد من يهود الدونمة، أبرزها دواد باشا وزير المالية، وكان معظم قيادات الصف الثاني لجماعة الاتحاد والترقي من يهود الدونمة، ويكفي أن مصطفى كمال نفسه كان من يهود الدونمة، ويعتبر بولنت أجاويد رئيس الوزراء التركي في التسعينيات من يهود الدونمة. كما انضم كثير من يهود الدونمة إلى المحافل الماسونية ولعبوا دوراً نشطاً في علمنة تركياً وسلخها من محيطها الإسلامي.
لم يكشف النقاب عن حقيقة أمرهم إلا بعد هلاك مصطفى كمال، فقد ظهرت وثائق تكشف عقائدهم وأفكارهم وخططهم الشيطانية نحو تدمير الدولة العثمانية، ودورهم الخطير في انقلاب 1908 على السلطان عبد الحميد الثاني.
والخلاصة:
أن حركة (يهود الدونمة) حركة سياسية موجهة ضد الدولة العثمانية، أكبر من كونها حركة دينية، وكان لها إسهامات عديدة في هدم الخلافة عن طريق:
1- هدم القيم الإسلامية في المجتمع العثماني والعمل على نشر الإلحاد والأفكار الغربية والدعوة لرفع الحجاب والاختلاط بين الرجال والنساء خاصة في المدارس والجامعات.
2- تأسيس المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية، واستخدموا شعارات خادعة مثل الحرية ومكافحة الاستبداد ونشر الديمقراطية؛ لاجتذاب البسطاء وترويح الأفكار الهدامة.
3- التمهيد لاغتصاب فلسطين: فسبتاي تسفي كان أول من نادى باتخاذ فلسطين وطن قومي لليهود، ويعتبر المؤسس الحقيقي للصهيونية العالمية، وذلك قبل (تيودور هرتزل) بثلاثة قرون.
4- قام يهود الدونمة بدور فعّال في نصرة القوى المعادية للسلطان عبد الحميد، والتي تحركت من (سلانيك) لعزله، وهم الذين سمموا أفكار الضباط للشباب وتغلغلوا داخل صفوف الجيش.
5- قام اليهود بالتأثير في جمعية الاتحاد والترقي، تحكموا فيهم وحركوهم كالدمى حتى ينفذوا مخططهم في عزل السلطان عبد الحميد وتطبيق الدستور العلماني، ثم الخطوة التالية بإسقاط الدولة العثمانية كلها على يد أتاتورك وفتح المجال لاغتصاب فلسطين الأسيرة.