تأملات قرآنية من أول سورة البقرة

تأملات قرآنية من أول سورة البقرة

الخطبة الأولى

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا . أَمَّا بَعْدُ :-                           

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل ، فإن تقوى الله جماع الخير كله .

عباد الله : افتتح الله تعالى سورة البقرة ببيان ثلاث طوائف من الناس ، وذكر صفات كل طائفة من هذه الطوائف ، وهذه الطوائف هي :

طائفة مؤمنون ظاهراً وباطناً ، وقد ذكرهم الله في أربع آيات . وطائفة كفار ظاهراً وباطناً ، وقد ذكرهم الله في آيتين . وطائفة كفارٌ باطناً مسلمون ظاهراً ، وهم المنافقون ، وقد ذكرهم الله في ثلاث عشرة آية ، لعِظم ضررهم ، وشدّة خطرهم .  

قال الله تعالى عن الطائفة الأولى وهم المؤمنون ظاهراً وباطناً ، الذين صلح ظاهرهم وباطنهم وهم المتقون : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الٓمٓ * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ . ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن القرآن الكريم لاشك أنه من عند الله وأنه كلامه سبحانه ، ينتفع به المتقون ، وهم الذين يتقون سخط الله ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، قال ابن عباس : المتقون هم الذين يتقون الشرك ، ويعملون بطاعة الله ، وقال الحسن البصري : اتقوا ما حرم عليهم ، وأدو ما افترض عليهم . ثم ذكر بعض صفاتهم ، فمن صفاتهم : { يؤمنون بالغيب } ، والغيب ما كان مغيباً عن العيون ، قال ابن عباس : " الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان " . ومن صفاتهم : { ويقيمون الصلاة } ، أي يصلون صلاة كاملة كما أراد الله ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : " إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والخشوع ، والإقبال عليها فيها " ، وقال قتادة : " إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها ، ووضوئها ، وركوعها وسجودها " . ومن صفاتهم : { ومما رزقناهم ينفقون } ، فينفقون مما أعطاهم الله من الرزق ، من صدقات وزكاة وغيرها . ومن صفاتهم : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } ، أي: يؤمنون بما أُنزل إليك يا محمد وهو القرآن والسنة ، لأن السنة وحي ثانٍ ، ويؤمنون أيضاً بما أُنزل من قبلك على الأمم السابقة ، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى ، وغيرها من الكتب التي لم تُسَمَّ . ومن صفاتهم : { وبالآخرة هم يوقنون } ، أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، كما ذكر ابن كثير ، ثم قال تعالى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، أي على نور وبيان وبصيرة من الله ، وهم الفائزون في الدنيا والآخرة .

ثم ذكر تعالى صفات الطائفة الثانية ، وهم الذين كفروا ظاهراً وباطناً ، الذين فسد ظاهرهم وباطنهم ، فقال تعالى : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ﴾ ، أي : إن الذين كفروا مستمرون على ضلالهم وعنادهم ، فإنذارك لهم وعدمه سواء . لأن الله طبع على قلوبهم فأغلقها على ما فيها من باطل ، وطبع على سمعهم فلا يسمعون الحق سماع قَبول وانقياد ، وجعل على أبصارهم غطاء فلا يبصرون الحق مع وضوحه ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم .  

ثم ذكر تعالى صفات الطائفة الثالثة : كفار باطناً مسلمون ظاهراً، الذين فسد باطنهم وصلح ظاهرهم فيما يبدو للناس ، وهم المنافقون ، فمن صفاتهم : أنهم يؤمنون باللسان ويكفرون بالقلب ، فقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ، ومن صفاتهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين ، فيما يُخيّل إليهم ، وباعتبار ظنّهم ، بإظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم فقط ، ولكنهم لا يشعرون بذلك ، قال تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ، ومن صفاتهم : أن في قلوبهم شكٌّ في آيات الله ، فزادهم الله شكًّا إلى شكِّهم ، ولهم عذاب أليم في الدرك الأسفل من النار ، بسبب كذبهم على الله وعلى الناس ، وتكذيبهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . اللهم اجعلنا من عبادك المتقين ، وأعذنا من الكفر والنفاق وسيء الأخلاق . أقولُ قَوْلِي هَذا ، واسْتغفرِ اللهُ لِي وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروه إنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم .

 

 

الْـخُطْبَةُ الثّانِيَةُ

 الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لِشَأنهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الدّاعي إلى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً . أمّا بَعْدُ :-

فمن صفات الطائفة الثالثة أيضاً وهم المنافقون : أنهم يفسدون في الأرض ويعتبرونَ كلَّ ما يقومون به من تخريبٍ وفتنٍ بين المسلمين إصلاحًا ، قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ، فرد الله عليهم فقال : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ } .

ومن صفاتهم أنهم يُسَمُّون الإيمان سفهاً والمؤمنين سفهاء ، قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } ، فرد الله عليهم بقوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ } .

ومن صفاتهم أنهم يستهزؤون بالمؤمنين ويسخرون منهم ، فإذا ما لقي المؤمنين قال : نحن معكم وآمنا كما آمنتم ، بل وصلى معهم وصام ، وربما شاركهم في كثير من الأعمال ، وإذا ذهب إلى شياطينه وهم ساداته وكبراؤه وأصحابه الذين هم في الأصل كفار قالوا لهم نحن معكم على مثل ما أنتم عليه ، ولا يمكن أن نفارقكم أو نفارق ما أنتم عليه ، فالمنافق له وجهان : وجه مع المؤمنين وآخر مع الكافرين ، فإذا لقي المؤمنين قال : أنا مؤمن ، وإذا ذهب إلى المنافقين والكفار قال : أنا أستهزئ بأولئك المؤمنين وأسخر منهم ، وأنا معكم . قال الله تعالى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } ، فيردُّ الله عليهم بمثل ما قالوا لكي يفهموا جيدًا ويقول : ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ، فالله تعالى يسخر بهم ، ويملي لهم ويزيدهم في ما هم عليه من الطغيان ثم يأخذهم ، لأن مِنْ صِفاتِهِم : التَّذَبْذُبُ والتَّرَدُّد ، قال تعالى : ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاء ﴾ فَهُمْ مُتَحَيِّرون في دِينِهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً ، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً » رواه مسلم . والعَائِرَةُ : المُتَرَدِّدَةُ الحَائِرَةُ لَا تَدْرِي لِأَيِّهِمَا تَتْبَعُ . ثم بيَّن الله تعالى عاقبتهم وأنهم قد خسروا بصنيعهم هذا خسراناً كبيراً ، فقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، وما كانوا مهتدين في صنيعهم ذلك ، قال قتادة : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

عباد الله : ذكر الله تعالى صفات المنافقين في هذه الآيات تحذيرًا منهم ، وبيانًا لما هم عليه من الصفات الذميمة ، إذ جمَعوا بين الكفر والنفاق ، والكذب وسيِّئ الأخلاق . فهم  من أشر الأصناف وأخطرها ، وما أكثرهم لا كثَّرهم الله ، فِرَقاً وأحزابا ، يُشَوِّهون الإسلام والمسلمين ، يُفسدون ولا يُصلحون ، تسببوا في هلاك العباد وتدمير البلاد . فلا تغترَّ بكلام المتكلم وفصاحته ، وإظهاره للصلاح والدين والخير والطاعة إذا كان منهجه منحرفاً مخالفاً لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم . فالحذر الحذر من النفاق والمنافقين . فقد اشتَدَّ خوفُ الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدَهم من الصالحين من النِّفاق . قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ رحمه الله : ( أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ) رواه البخاري . هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 13/5/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1731487783_تأملات قرآنية من أول سورة البقرة.docx

المشاهدات 249 | التعليقات 0