تأملات قرآنية للشيخ د. محمد بن إبراهيم الحمد
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1432/09/22 - 2011/08/22 08:14AM
تأملات قرآنية للشيخ د. محمد بن إبراهيم الحمد
تأملات قرآنية (1) ( وأهش بها على غنمى )
ملتقى الخطباء: الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فهذه تأملات قصيرة لاثنتي عشرة آية .
أولاً : في قوله - تعالى - في سورة طه : ( وأهش بها على غنمى )
دليل على أن نبي الله موسى - عليه السلام - كان يرعى الغنم , وما من نبي إلا وقد رعى غنم - كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - .
ولعل السر في ذلك حصول التدرج من رعيا الغنم إلى رعيا الأمم , فالغنم فيها الهزيلة , والقوية , والملائمة , والنافرة , والسريعة , والبطيئة , فيحتاج راعيها إلى صبر , ومداراة , وسعة بال , ومراعاة .
وكذلك الحال بالنسبة للبشر , ففيهم العجول , وفيهم المتريث , وفيهم المبادر , وفيهم المتباطئ , وفيهم الغضوب , وفيهم الحليم , وهكذا ...
فإذا وطن العاقل نفسه على حسن الرعاية للغنم كان ذلك عوناً له على حسن رعاية الأمم .
ثانياً : في قوله - تعالى - في سورة طه على لسان موسى - عليه السلام - : ( قال رب اشرح لى صدرى ) إلى قوله : ( كى نسبحك ) وقوله على لسان زكريا - عليه السلام - ( فهب لى من لدنك ولياً يرثنى ) أدب من آداب الدعاء , وهو نبل الغاية , وشرف المقصد وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً , ويمش لك إلى صلاة ) .
ثالثاً : قوله - تعالى - في سورة آل عمران : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) يفيد أن القلوب لا تجتمع إلى على من كان رفيقاً , رحيماً , ليناً , وأنها لا تقبل على صاحب القلب القاسي وإن بلغ من العلم والجاه .
رابعاً: في قوله _تعالى_ في سورة ص:( قال رب اغفر لى وهب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى ) أدبٌ من آداب الدعاء، وهو الطموح، وعلو الهمة، وعِظم الرغبة.
فسليمان _عليه السلام_ لم يكتفِ بسؤال الله المغفرة، ولكنه _لكِبَرِ نفسه، وعلو همته، وعلمه بسعة فضل ربه_ سأله مع ذلك مُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده.
فكانت النتيجة أن أجاب الله دعاءه، وسخر له الريحَ، والشياطينَ، وإن له في الآخرة لَزُلْفى وحُسْنَ مآب.
خامساً: في قوله _تعالى_ في سورة الحشر:( ربنا اغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمن ) إشارة إلى أنه يَحْسُن بالداعي إذا أراد أن يدعو لنفسه ولغيره أن يبدأ بنفسه ثم يثنِّي بغيره.
ولهذا الدعاء القرآني نظائر كثيرة من الكتاب والسنة.
سادساً: في قوله _تعالى_ في سورة القصص عن موسى _عليه السلام_: ( رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ) إشارةٌ إلى سبب من أسباب إجابة الدعاء، وهو إعلانُ الافتقارِ إلى الله، وإظهارُ المسكنة إليه _عز وجل_.
سابعاً: في قوله _تعالى_ عن يونس _عليه السلام_ في سورة الأنبياء:( فنادى فى الظلمت أن لآ إله إلآ أنت سبحنك إنى كنت من الظلمين ) سببٌ من أسباب إجابةِ الدعاء، وهو إظهارُ الذلةِ، والإقرارُ بالذنب، ولهذا كان من أفضلِ الأدعيةِ الدعاءُ المعروفُ بسيد الاستغفار؛ لتضمنه ذلك المعنى.
ثامناً: في قوله _تعالى_ في سورة يوسف:( واستبقا الباب ) مشروعية الفرار من الفتن مهما بلغ الإنسان من العلم، والدين، والعقل.
تاسعاً: في قوله _تعالى_ في سورة النساء:( وخلق الإنسن ضعيفاً ) بيان لضعف الإنسان الجِبِلِّي، وفيه إرشادٌ له بألا يغرر بنفسه؛ فيلقيَ بها في مواطن الفتن؛ ثقة بعلمه، ودينه؛ فمن حام حول الحمى أوشك أن يرتع فيه.
عاشراً: في قوله _تعالى_ في سورة طه: ( رب اشرح لى صدرى ) بيانٌ لمدى حاجة الداعية إلى انشراح الصدر؛ حتى يتمكن من إيصال دعوته بأيسر كلفة، ولأجل أن يراه الناس على أكمل ما يكون من السرور؛ فتسري تلك الروح منه إلى المدعوين؛ فيتحقق مقصد من أعظم مقاصد الدعوة ألا وهو الوصول إلى السعادة.
أما إذا ضاق صدرُهُ، وقل صبرُه، فلن يقوم بعمل كبير، ولن يصدر عنه خير كثير.
وأما ما روي من أن النبي " كان متواصل الأحزان فلا يثبت ذلك عنه.
حادي عشر: في قوله _تعالى_ في سورة طه:( وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لانسئلك رزقاً نحن نرزقك والعقبة للتقوى ) عزاءٌ لمن يلاقي ما يلاقي من جَرَّاء أَمْرِهِ أَهْلَهُ بالصلاة، وإيقاظهم لها خصوصاً صلاة الفجر؛ فقوله ﭽﯔﭼ أبلغ ما يكون من العبارات، ولا تغني عنها في هذا السياق لفظة أخرى؛ لما فيها من معنى المثابرة، والاستمرار على هذه الخصلة؛ كيف وقد خُتمت تلك الآية بضمان الرزق، وحسن العاقبة لمن كان هذا شأنه؟
فيالها من آية تبعث الرَّوح، وتُمِدُّ الإنسان بالصبر، واليقين.
ثاني عشر: في قوله _تعالى_:( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) الحجرات:12، إرشاد للإنسان بألا يسترسل مع الأوهام والخيالات التي ترد على خاطره؛ فإن أغلب الظنون كاذبة، وأكثر الخوف مدفوع.
ورب أمور لا تضيرك ضيرة * وللقلب من مخشاتهن وجيب
وإذا حسنت أفعال المرء حسنت ظنونه، واطمأنت نفسه، :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه * وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته * وأصبح في ليل من الشك مظلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
ملتقى الخطباء: الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فهذه تأملات قصيرة لاثنتي عشرة آية .
أولاً : في قوله - تعالى - في سورة طه : ( وأهش بها على غنمى )
دليل على أن نبي الله موسى - عليه السلام - كان يرعى الغنم , وما من نبي إلا وقد رعى غنم - كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - .
ولعل السر في ذلك حصول التدرج من رعيا الغنم إلى رعيا الأمم , فالغنم فيها الهزيلة , والقوية , والملائمة , والنافرة , والسريعة , والبطيئة , فيحتاج راعيها إلى صبر , ومداراة , وسعة بال , ومراعاة .
وكذلك الحال بالنسبة للبشر , ففيهم العجول , وفيهم المتريث , وفيهم المبادر , وفيهم المتباطئ , وفيهم الغضوب , وفيهم الحليم , وهكذا ...
فإذا وطن العاقل نفسه على حسن الرعاية للغنم كان ذلك عوناً له على حسن رعاية الأمم .
ثانياً : في قوله - تعالى - في سورة طه على لسان موسى - عليه السلام - : ( قال رب اشرح لى صدرى ) إلى قوله : ( كى نسبحك ) وقوله على لسان زكريا - عليه السلام - ( فهب لى من لدنك ولياً يرثنى ) أدب من آداب الدعاء , وهو نبل الغاية , وشرف المقصد وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً , ويمش لك إلى صلاة ) .
ثالثاً : قوله - تعالى - في سورة آل عمران : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) يفيد أن القلوب لا تجتمع إلى على من كان رفيقاً , رحيماً , ليناً , وأنها لا تقبل على صاحب القلب القاسي وإن بلغ من العلم والجاه .
رابعاً: في قوله _تعالى_ في سورة ص:( قال رب اغفر لى وهب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى ) أدبٌ من آداب الدعاء، وهو الطموح، وعلو الهمة، وعِظم الرغبة.
فسليمان _عليه السلام_ لم يكتفِ بسؤال الله المغفرة، ولكنه _لكِبَرِ نفسه، وعلو همته، وعلمه بسعة فضل ربه_ سأله مع ذلك مُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده.
فكانت النتيجة أن أجاب الله دعاءه، وسخر له الريحَ، والشياطينَ، وإن له في الآخرة لَزُلْفى وحُسْنَ مآب.
خامساً: في قوله _تعالى_ في سورة الحشر:( ربنا اغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمن ) إشارة إلى أنه يَحْسُن بالداعي إذا أراد أن يدعو لنفسه ولغيره أن يبدأ بنفسه ثم يثنِّي بغيره.
ولهذا الدعاء القرآني نظائر كثيرة من الكتاب والسنة.
سادساً: في قوله _تعالى_ في سورة القصص عن موسى _عليه السلام_: ( رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ) إشارةٌ إلى سبب من أسباب إجابة الدعاء، وهو إعلانُ الافتقارِ إلى الله، وإظهارُ المسكنة إليه _عز وجل_.
سابعاً: في قوله _تعالى_ عن يونس _عليه السلام_ في سورة الأنبياء:( فنادى فى الظلمت أن لآ إله إلآ أنت سبحنك إنى كنت من الظلمين ) سببٌ من أسباب إجابةِ الدعاء، وهو إظهارُ الذلةِ، والإقرارُ بالذنب، ولهذا كان من أفضلِ الأدعيةِ الدعاءُ المعروفُ بسيد الاستغفار؛ لتضمنه ذلك المعنى.
ثامناً: في قوله _تعالى_ في سورة يوسف:( واستبقا الباب ) مشروعية الفرار من الفتن مهما بلغ الإنسان من العلم، والدين، والعقل.
تاسعاً: في قوله _تعالى_ في سورة النساء:( وخلق الإنسن ضعيفاً ) بيان لضعف الإنسان الجِبِلِّي، وفيه إرشادٌ له بألا يغرر بنفسه؛ فيلقيَ بها في مواطن الفتن؛ ثقة بعلمه، ودينه؛ فمن حام حول الحمى أوشك أن يرتع فيه.
عاشراً: في قوله _تعالى_ في سورة طه: ( رب اشرح لى صدرى ) بيانٌ لمدى حاجة الداعية إلى انشراح الصدر؛ حتى يتمكن من إيصال دعوته بأيسر كلفة، ولأجل أن يراه الناس على أكمل ما يكون من السرور؛ فتسري تلك الروح منه إلى المدعوين؛ فيتحقق مقصد من أعظم مقاصد الدعوة ألا وهو الوصول إلى السعادة.
أما إذا ضاق صدرُهُ، وقل صبرُه، فلن يقوم بعمل كبير، ولن يصدر عنه خير كثير.
وأما ما روي من أن النبي " كان متواصل الأحزان فلا يثبت ذلك عنه.
حادي عشر: في قوله _تعالى_ في سورة طه:( وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لانسئلك رزقاً نحن نرزقك والعقبة للتقوى ) عزاءٌ لمن يلاقي ما يلاقي من جَرَّاء أَمْرِهِ أَهْلَهُ بالصلاة، وإيقاظهم لها خصوصاً صلاة الفجر؛ فقوله ﭽﯔﭼ أبلغ ما يكون من العبارات، ولا تغني عنها في هذا السياق لفظة أخرى؛ لما فيها من معنى المثابرة، والاستمرار على هذه الخصلة؛ كيف وقد خُتمت تلك الآية بضمان الرزق، وحسن العاقبة لمن كان هذا شأنه؟
فيالها من آية تبعث الرَّوح، وتُمِدُّ الإنسان بالصبر، واليقين.
ثاني عشر: في قوله _تعالى_:( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) الحجرات:12، إرشاد للإنسان بألا يسترسل مع الأوهام والخيالات التي ترد على خاطره؛ فإن أغلب الظنون كاذبة، وأكثر الخوف مدفوع.
ورب أمور لا تضيرك ضيرة * وللقلب من مخشاتهن وجيب
وإذا حسنت أفعال المرء حسنت ظنونه، واطمأنت نفسه، :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه * وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته * وأصبح في ليل من الشك مظلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
المشاهدات 3960 | التعليقات 6
تأملات قرآنية (3) [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى]
ملتقى الخطباء: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول هداية قول الله - تعالى -:( ألم يعلم بأن الله يرى ) العلق:14.
فهذه آية عظيمة في أول سورة نزلت في القرآن، وهي سورة العلق.
آية تهز الوجدان، وتفعل في النفس ما لا تفعله سلطات الدنيا، ولا أحدث التقنيات في عالم المخابرات.
آية تضبط النوازع، وتقوي الوازع، وتكبح الجماح، وتدعو إلى إحسان العمل، وكمال المراقبة.
وقد جاءت بهذا البيان المعجز الذي لا تصل إليه قوة بشر.
جاءت بهذا التعبير الواضح مُبِيْنَةً عما تحتها من معنى، جاءت بصيغة الاستفهام:( ألم يعلم بأن الله يرى ).
وتحت هذه الآية من اللطائف والأسرار الشيءُ الكثير؛ ففيها إشارةٌ إلى وجوب المراقبة لله - عز وجل - وفيها تهديدٌ لمن يتمادى في الغي، وفيها تلويحٌ إلى وجوب الإقصار عن الشر، وفيها تلميحٌ إلى أن العلم باطلاع الله - عز وجل - على الخلائق أمرٌ فطريٌّ لا يحتاج إلى دليل، وفيها تعريضٌ بغباوة مَنْ يجهل هذه الحقيقة، أو يكابر في شأنها.
فيا لله ما أجمل أن يستحضر كلُّ أحدٍ هذه الآية إذا امتدت عينُه إلى خيانة، أو يدُه إلى حرام، أو سارت قدمُه إلى سوء، أو تحرك لسانُه بقبيح.
وما أروع أن تكون هذه الآية نُصْبَ أعيننا إذا أردنا القيام بما أنيط بنا من عمل.
وفي هذا سرٌّ بديعٌ، ودرسٌ عظيمٌ تُفِيد منه الأمةُ بعامة، ويفيد منه الأفرادُ بخاصة؛ فواجب على المصلحين وقادةِ الأمم أن يتنبهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في الناس؛ ذلكم أن وازعَ الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازعُ القوةِ والسلطان؛ فإذا أَلِفَ المرءُ أن يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه - فإن المجتمعَ يأمنُ بوائقَه، ويستريحُ من كثيرٍ من شروره.
أما إذا كان الاعتماد على وازعِ القوة، وحارسِ القانون - فإن القوةَ قد تضعُف، وإن الحارسَ قد يغفُل، وإن القانون قد يُؤَوَّل، وقد يُتَحايلُ؛ للتخلص من سلطانه.
لذلك تكثر الجرائمُ والمفاسدُ إذا قلّت التربيةُ الدينيةُ في مجتمعٍ ما، فإذا أَشَعْنَا هذا المعنى في الناس، وعَمَدْنا إلى تربيتهم بأسلوب الدين والفضيلة أرحنا واسترحنا، ووفَّرنا جهوداً كبيرة، وقد تكون ضائعة في غير ما فائدة؛ فالمراقبة حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور، والتقصير في أداء الحقوق.
فلا عجب - إذاً - أن تكون هذه الآية في أول سورة نزلت من القرآن الكريم؛ لكي يكون المؤمن على ذُكْرٍ من هذا المقام العالي الذي إذا تَمَثَّلَه كان في قبيل المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم.
وتلك هي مرتبة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين، والتي إذا استشعرها المؤمنُ حالَ قيامِه بعبودية ربه كان عمله متقناً مضاعفاً؛ فإذا صلى مستشعراً ذلك المعنى تضاعف أجر صلاته، وهكذا بقية الأعمال الصالحة.
ولعل الصيامَ من أعظم العبادات التي تتجلى بها عبوديةُ المراقبة؛ فالصيامُ مدرسةٌ لقيام تلك العبودية العظمى؛ ذلكم أن الصائم يمسك عن المفطرات طيلةَ النهار، فتراه أميناً على نفسه، رقيباً عليها في الصغيرة والكبيرة، متمثلاً هيبةَ مولاه، واطلاعَه، وشهودَه كَأتمِّ ما يكون، فلا تحدِّثه نفسُه بتناول مفطِّرٍ ولو قلّ، ولا يخطر بباله أن يَنْقُضَ صيامه ولو توارى عن الأعين؛ فَيَصِلُ بذلك إلى مرتبة الإحسان؛ حيث يعبد الله كأنه يراه.
ولهذا خصّ الله - عز وجل - الصيام من بين سائر الأعمال بأنه له، وهو يجزي به.
فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل عمل ابن آدم له الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف" قال الله - عز وجل - في الحديث: " إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي " الحديث.
وفي رواية : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ".
فالصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه غيره؛ فإنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وتركٍ لتناول الشهوات التي يُستَخفى في تناولها في العادة؛ فإذا ترك ما تدعوه إليه نفسه لله - عز وجل - حيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه دل ذلك على صحة إيمانه، والله - عز وجل - يحب من عباده أن يعاملوه سراً بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه هكذا؛ فإذا استشعر الصائم هذا المعنى العظيم انبعث إلى مراقبة الله - عز وجل - في شتى شؤونه؛ فالذي يطلع عليه في صيامه مطلع عليه في جميع أحواله.
وإذا راقب الإنسان ربَّه، واحترمه في خلواته أظهر الله فضله، ورفع ذكره؛ فالجزاء من جنس العمل، ومن يعمل سوءاً يجز به.
قال أبو حازم رحمه الله: " لا يُحْسِن عبدٌ فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعِّور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانعةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت اللهَ مالت الوجوهُ كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوهُ كلُّها ".
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
ملتقى الخطباء: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول هداية قول الله - تعالى -:( ألم يعلم بأن الله يرى ) العلق:14.
فهذه آية عظيمة في أول سورة نزلت في القرآن، وهي سورة العلق.
آية تهز الوجدان، وتفعل في النفس ما لا تفعله سلطات الدنيا، ولا أحدث التقنيات في عالم المخابرات.
آية تضبط النوازع، وتقوي الوازع، وتكبح الجماح، وتدعو إلى إحسان العمل، وكمال المراقبة.
وقد جاءت بهذا البيان المعجز الذي لا تصل إليه قوة بشر.
جاءت بهذا التعبير الواضح مُبِيْنَةً عما تحتها من معنى، جاءت بصيغة الاستفهام:( ألم يعلم بأن الله يرى ).
وتحت هذه الآية من اللطائف والأسرار الشيءُ الكثير؛ ففيها إشارةٌ إلى وجوب المراقبة لله - عز وجل - وفيها تهديدٌ لمن يتمادى في الغي، وفيها تلويحٌ إلى وجوب الإقصار عن الشر، وفيها تلميحٌ إلى أن العلم باطلاع الله - عز وجل - على الخلائق أمرٌ فطريٌّ لا يحتاج إلى دليل، وفيها تعريضٌ بغباوة مَنْ يجهل هذه الحقيقة، أو يكابر في شأنها.
فيا لله ما أجمل أن يستحضر كلُّ أحدٍ هذه الآية إذا امتدت عينُه إلى خيانة، أو يدُه إلى حرام، أو سارت قدمُه إلى سوء، أو تحرك لسانُه بقبيح.
وما أروع أن تكون هذه الآية نُصْبَ أعيننا إذا أردنا القيام بما أنيط بنا من عمل.
وفي هذا سرٌّ بديعٌ، ودرسٌ عظيمٌ تُفِيد منه الأمةُ بعامة، ويفيد منه الأفرادُ بخاصة؛ فواجب على المصلحين وقادةِ الأمم أن يتنبهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في الناس؛ ذلكم أن وازعَ الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازعُ القوةِ والسلطان؛ فإذا أَلِفَ المرءُ أن يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه - فإن المجتمعَ يأمنُ بوائقَه، ويستريحُ من كثيرٍ من شروره.
أما إذا كان الاعتماد على وازعِ القوة، وحارسِ القانون - فإن القوةَ قد تضعُف، وإن الحارسَ قد يغفُل، وإن القانون قد يُؤَوَّل، وقد يُتَحايلُ؛ للتخلص من سلطانه.
لذلك تكثر الجرائمُ والمفاسدُ إذا قلّت التربيةُ الدينيةُ في مجتمعٍ ما، فإذا أَشَعْنَا هذا المعنى في الناس، وعَمَدْنا إلى تربيتهم بأسلوب الدين والفضيلة أرحنا واسترحنا، ووفَّرنا جهوداً كبيرة، وقد تكون ضائعة في غير ما فائدة؛ فالمراقبة حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور، والتقصير في أداء الحقوق.
فلا عجب - إذاً - أن تكون هذه الآية في أول سورة نزلت من القرآن الكريم؛ لكي يكون المؤمن على ذُكْرٍ من هذا المقام العالي الذي إذا تَمَثَّلَه كان في قبيل المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم.
وتلك هي مرتبة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين، والتي إذا استشعرها المؤمنُ حالَ قيامِه بعبودية ربه كان عمله متقناً مضاعفاً؛ فإذا صلى مستشعراً ذلك المعنى تضاعف أجر صلاته، وهكذا بقية الأعمال الصالحة.
ولعل الصيامَ من أعظم العبادات التي تتجلى بها عبوديةُ المراقبة؛ فالصيامُ مدرسةٌ لقيام تلك العبودية العظمى؛ ذلكم أن الصائم يمسك عن المفطرات طيلةَ النهار، فتراه أميناً على نفسه، رقيباً عليها في الصغيرة والكبيرة، متمثلاً هيبةَ مولاه، واطلاعَه، وشهودَه كَأتمِّ ما يكون، فلا تحدِّثه نفسُه بتناول مفطِّرٍ ولو قلّ، ولا يخطر بباله أن يَنْقُضَ صيامه ولو توارى عن الأعين؛ فَيَصِلُ بذلك إلى مرتبة الإحسان؛ حيث يعبد الله كأنه يراه.
ولهذا خصّ الله - عز وجل - الصيام من بين سائر الأعمال بأنه له، وهو يجزي به.
فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل عمل ابن آدم له الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف" قال الله - عز وجل - في الحديث: " إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي " الحديث.
وفي رواية : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ".
فالصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه غيره؛ فإنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وتركٍ لتناول الشهوات التي يُستَخفى في تناولها في العادة؛ فإذا ترك ما تدعوه إليه نفسه لله - عز وجل - حيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه دل ذلك على صحة إيمانه، والله - عز وجل - يحب من عباده أن يعاملوه سراً بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه هكذا؛ فإذا استشعر الصائم هذا المعنى العظيم انبعث إلى مراقبة الله - عز وجل - في شتى شؤونه؛ فالذي يطلع عليه في صيامه مطلع عليه في جميع أحواله.
وإذا راقب الإنسان ربَّه، واحترمه في خلواته أظهر الله فضله، ورفع ذكره؛ فالجزاء من جنس العمل، ومن يعمل سوءاً يجز به.
قال أبو حازم رحمه الله: " لا يُحْسِن عبدٌ فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعِّور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانعةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت اللهَ مالت الوجوهُ كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوهُ كلُّها ".
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
تأملات قرآنية (4) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فإن الحديث سيكون حول هداية قول الله - تعالى -: ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ) فاطر:8.
فهذا جزء من آية في سورة فاطر، وتمام الآية: ( أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إن الله عليم بما يصنعون ).
ففي هذه الآية يبين - جل وعلا - لنبيه " أن مَنْ زَيَّن الشيطانُ له عَمَلَهُ القبيح، فجعله حسناً في عينه ليس كمن هداه الله إلى سواء الصراط؛ فهل يستوي هذا وهذا؟!
فالأول عمل السيئ، ورأى الحق باطلاً، والباطل حقاً.
والثاني: عمل الحسن، ورأى الحق حقاً، والباطل باطلاً.
أما الهداية والإضلال فهي بيد الله - عز وجل -.
فإذا كان الأمر كذلك فلا تُهْلِكْ نفسك حزناً على الضالين؛ فليس عليك إلا البلاغ، وليس عليك من هداهم من شيء؛ فالله عليم بأعمالهم، وهو الذي يجازيهم عليها.
فهذا هو معنى تلك الآية الكريمة، وأنت إذا وقفت عندها، وجدت أنها بَلْسَمٌ نافعٌ لكثير من المشكلات, ودواء ناجع لعديد من المعضلات.
وذلك أن كثيراً من الناس يرومُ الإصلاحَ, ويسعى لدرك النجاح سواء في شأنه الخاص، أو شأن غيره ممن حوله,أو شأن أمته جمعاء.
فتراه يمحضُ نُصْحَهُ, ويبذل قصارى جهدِه، ويقدم عُصَارةَ فكرِه في سبيل إرشاد غاوٍ,أو دلالة حائر ,أو الارتقاء بمقصر، وهلم جرا.
فإذا لم يظفر ببغيته, ولم تحصل له طَلِبَتُه - قَرَع سِنَّه, وقلَّب كفيه.
وترى من الناس من يعاني الأَمَرَّينِ من أُناس لا بد له من معاشرتهم ومداراتهم, فقد يبتلى بوالد شرس, أو رئيس متسلط, أو ولد عاق, أو أخ قاطع,أو تلميذ كسول أو شقي؛ فيحاول إصلاحهم, والنهوض بهم مرة إثر أُخرى, فإذا لم تأتِ الأحوال على ما يريد زادت حسراته, وتوالت أحزانه؛ فكان هو والزمان على نفسه.
وربما استشار غيره ممن لهم دراية وعلم في تلك الشؤون, فأشاروا عليه بأن يأخذ بالأسباب, ويلج البيوت من الأبواب, فيجيبهم بأنه لم يدع سبيلاً إلا سلكه, ولا باباً إلا ولجه ومع ذلك لم يحصل على مراده بزعمه.
ولا يقف الأمر عند مجرد اجترار الأحزان والحسرات، بل قد يترتب على ذلك فوات خيرات كثيرة، وأبواب من البر متنوعة؛ حيث أشغل نفسه، وشتَّتَ قلبه، وأضاع وقته بما لا طائل تحته، ولا طاقة له به.
فما الحل في مثل هذه الأحوالِ وغيرِها مما يقاس عليها؟
هل يقف الإنسان واجماً أمامها؟ وهل يسترسل مع أحزانه إزاءها؟
الجواب: لا,والحل بأن يستحضر أنه محسن في عمله, مثاب على قدر احتسابه, وما عليه بعد ذلك إلا أن يستمر في صنيعه, ويمضي في مصالحه؛ فإذا قمت بما يجب عليك, وسلكت سبيل الحكمة في نصحك,وبذلت جهدك ومستطاعك, ثم أعيتك الحيلة في الوصول إلى مرادك ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ) و ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون "127" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .
ومما يدخل في هذا القبيل ما يكون في شأن بعض الناس مع أولاده؛ فكثيراً ما يؤمل الوالد في أولاده أن يكونوا على قدر كبير من المروءةِ، والعلمِ، والتميزِ، وتراه يسعى سَعْيَهُ، ويبذل مستطاعَه في ذلك السبيل.
وقد يكون الوالد راغباً في رؤية ما فاته مِنْ فرصٍ ماثلةً في أولاده.
ولكن قد تسير الأمور على غير مراده، فلا يكون الأولاد على وَفْقِ ما أراد وأمَّل.
ومن هنا قد يصاب بخيبة أمل، وربما ضاق ذرعاً بفوات ما توقعه من خير، ووقع في الاعتراض على الحكمة الربانية.
وربما صار يغبط فلاناً وفلاناً ممن صار أولادهم ذوي تميز، وعلم، وكفاءة.
وقد يزهد بأولاده، ولم يعد يراهم أهلاً لأن يَبْذِلَ مِنْ أَجْلِهم ما يَبْذِل.
وهكذا يضيق صدره، وتتنغص حياته.
ولو اتسع عقله، وبَعُدَتْ نظرتُه، ورضي بِقِسْمَةِ ربِّه لما وقع في بحر الحسرات، وإنما سَلَّم، واستبشر، وأمَّل، وانتظر الخير، وصار لسان حاله يقول:
وعليَّ أن أسعى وليـ ـس عليَّ إدراك النجاح
فهو - إذاً - محسن، مأجور، مثاب على ما بذل.
ولكنَّ مقاليد الأمور بيد الله - عز وجل - فحريٌّ به أن يرضي، ويقنع، ويُسَلِّم، ويتحرى الخِيَرة، فربما صلحوا بعد حين، وادَّكروا بَعْد أمة، وربما خرج من أصلابهم مَنْ يناله بِرُّهُمْ، ودعواتُهم.
وجدير بالوالد أن يَقْبَل أولادَه على علاتهم؛ فيعاملهم على ما هم عليه ولو كانوا خلاف ما يؤمل.
والعرب تقول في أمثالها: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وتقول: أَنْفُكَ مِنْكَ وإنْ ذَنَّ([1]) وعِيْصُكَ([2]) مِنْكَ وإنْ كان أَشَباً([3]).
وإذا كانت الأخرى بحيث لم يرضَ، ولم يُسَلِّم فَسَيَمَلُّ منه أولاده، وربما زادوه وهناً على وهن؛ فكانت الحسرة عليه مضاعفة.
والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يبذل ما في وسعه في تحصيل الخير، وله أن يؤمل الآمال العراض، ويسلك السبل الموصلة إليها؛ فإذا جاءت الأمور على خلاف ما يريد رضي وتعزى بقدر الله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ) و ( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
فهذا جزء من آية في سورة فاطر، وتمام الآية: ( أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إن الله عليم بما يصنعون ).
ففي هذه الآية يبين - جل وعلا - لنبيه " أن مَنْ زَيَّن الشيطانُ له عَمَلَهُ القبيح، فجعله حسناً في عينه ليس كمن هداه الله إلى سواء الصراط؛ فهل يستوي هذا وهذا؟!
فالأول عمل السيئ، ورأى الحق باطلاً، والباطل حقاً.
والثاني: عمل الحسن، ورأى الحق حقاً، والباطل باطلاً.
أما الهداية والإضلال فهي بيد الله - عز وجل -.
فإذا كان الأمر كذلك فلا تُهْلِكْ نفسك حزناً على الضالين؛ فليس عليك إلا البلاغ، وليس عليك من هداهم من شيء؛ فالله عليم بأعمالهم، وهو الذي يجازيهم عليها.
فهذا هو معنى تلك الآية الكريمة، وأنت إذا وقفت عندها، وجدت أنها بَلْسَمٌ نافعٌ لكثير من المشكلات, ودواء ناجع لعديد من المعضلات.
وذلك أن كثيراً من الناس يرومُ الإصلاحَ, ويسعى لدرك النجاح سواء في شأنه الخاص، أو شأن غيره ممن حوله,أو شأن أمته جمعاء.
فتراه يمحضُ نُصْحَهُ, ويبذل قصارى جهدِه، ويقدم عُصَارةَ فكرِه في سبيل إرشاد غاوٍ,أو دلالة حائر ,أو الارتقاء بمقصر، وهلم جرا.
فإذا لم يظفر ببغيته, ولم تحصل له طَلِبَتُه - قَرَع سِنَّه, وقلَّب كفيه.
وترى من الناس من يعاني الأَمَرَّينِ من أُناس لا بد له من معاشرتهم ومداراتهم, فقد يبتلى بوالد شرس, أو رئيس متسلط, أو ولد عاق, أو أخ قاطع,أو تلميذ كسول أو شقي؛ فيحاول إصلاحهم, والنهوض بهم مرة إثر أُخرى, فإذا لم تأتِ الأحوال على ما يريد زادت حسراته, وتوالت أحزانه؛ فكان هو والزمان على نفسه.
وربما استشار غيره ممن لهم دراية وعلم في تلك الشؤون, فأشاروا عليه بأن يأخذ بالأسباب, ويلج البيوت من الأبواب, فيجيبهم بأنه لم يدع سبيلاً إلا سلكه, ولا باباً إلا ولجه ومع ذلك لم يحصل على مراده بزعمه.
ولا يقف الأمر عند مجرد اجترار الأحزان والحسرات، بل قد يترتب على ذلك فوات خيرات كثيرة، وأبواب من البر متنوعة؛ حيث أشغل نفسه، وشتَّتَ قلبه، وأضاع وقته بما لا طائل تحته، ولا طاقة له به.
فما الحل في مثل هذه الأحوالِ وغيرِها مما يقاس عليها؟
هل يقف الإنسان واجماً أمامها؟ وهل يسترسل مع أحزانه إزاءها؟
الجواب: لا,والحل بأن يستحضر أنه محسن في عمله, مثاب على قدر احتسابه, وما عليه بعد ذلك إلا أن يستمر في صنيعه, ويمضي في مصالحه؛ فإذا قمت بما يجب عليك, وسلكت سبيل الحكمة في نصحك,وبذلت جهدك ومستطاعك, ثم أعيتك الحيلة في الوصول إلى مرادك ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ) و ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون "127" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .
ومما يدخل في هذا القبيل ما يكون في شأن بعض الناس مع أولاده؛ فكثيراً ما يؤمل الوالد في أولاده أن يكونوا على قدر كبير من المروءةِ، والعلمِ، والتميزِ، وتراه يسعى سَعْيَهُ، ويبذل مستطاعَه في ذلك السبيل.
وقد يكون الوالد راغباً في رؤية ما فاته مِنْ فرصٍ ماثلةً في أولاده.
ولكن قد تسير الأمور على غير مراده، فلا يكون الأولاد على وَفْقِ ما أراد وأمَّل.
ومن هنا قد يصاب بخيبة أمل، وربما ضاق ذرعاً بفوات ما توقعه من خير، ووقع في الاعتراض على الحكمة الربانية.
وربما صار يغبط فلاناً وفلاناً ممن صار أولادهم ذوي تميز، وعلم، وكفاءة.
وقد يزهد بأولاده، ولم يعد يراهم أهلاً لأن يَبْذِلَ مِنْ أَجْلِهم ما يَبْذِل.
وهكذا يضيق صدره، وتتنغص حياته.
ولو اتسع عقله، وبَعُدَتْ نظرتُه، ورضي بِقِسْمَةِ ربِّه لما وقع في بحر الحسرات، وإنما سَلَّم، واستبشر، وأمَّل، وانتظر الخير، وصار لسان حاله يقول:
وعليَّ أن أسعى وليـ ـس عليَّ إدراك النجاح
فهو - إذاً - محسن، مأجور، مثاب على ما بذل.
ولكنَّ مقاليد الأمور بيد الله - عز وجل - فحريٌّ به أن يرضي، ويقنع، ويُسَلِّم، ويتحرى الخِيَرة، فربما صلحوا بعد حين، وادَّكروا بَعْد أمة، وربما خرج من أصلابهم مَنْ يناله بِرُّهُمْ، ودعواتُهم.
وجدير بالوالد أن يَقْبَل أولادَه على علاتهم؛ فيعاملهم على ما هم عليه ولو كانوا خلاف ما يؤمل.
والعرب تقول في أمثالها: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وتقول: أَنْفُكَ مِنْكَ وإنْ ذَنَّ([1]) وعِيْصُكَ([2]) مِنْكَ وإنْ كان أَشَباً([3]).
وإذا كانت الأخرى بحيث لم يرضَ، ولم يُسَلِّم فَسَيَمَلُّ منه أولاده، وربما زادوه وهناً على وهن؛ فكانت الحسرة عليه مضاعفة.
والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يبذل ما في وسعه في تحصيل الخير، وله أن يؤمل الآمال العراض، ويسلك السبل الموصلة إليها؛ فإذا جاءت الأمور على خلاف ما يريد رضي وتعزى بقدر الله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ) و ( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
تأملات قرآنية (5) [وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً]
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول هداية قوله -تعالى-: ( وصاحبهما فى الدنيا معروفاً ) لقمان:15.
وهذا الجزء من الآية مسبوق بقوله -تعالى-: ( ووصينا الإنسن بولديه حملته أمه وهناً على وهن وفصله فى عامين أن اشكر لى ولولديك إلى المصير "14" وإن جهداك على أن تشرك بى ما ليس به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) .
ومعنى الآيتين واضح ففيهما بيان منزلة الوالدين، والحث على القيام بأمرهما، وحسن الرعاية لهما، وطاعتهما بالمعروف.
أما الوقفة فستكون عند قوله -تعالى-: ( وصاحبهما فى الدنيا معروفاً ) ففي ذلك معنى بديع, وهو أن التعبير بهذه اللفظة " وصاحبهما " من ألطف ما يكون في الحث على بر الوالدين؛ ذلك أن الصحبة في هذه الآية تقتضي الملازمة, ومن شأن الملازمة الدوام على تقلب الأحوال؛ فالصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور؛ فإذا استحضر الولد هذا الإرشاد الإلهي علم أن لوالديه حقاً عظيماً, فيلزم صحبتهما - وهما أحق الناس بحسن صحابته - بالمعروف.
وذلك يشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة.
ويشمل كذلك مراعاة أدب المحادثة مع الوالدين؛ لأن طول الصحبة يفضي إلى الملل من جرَّاء تكرار الأحاديث, والوقائع؛ فيسمعها الولد بروايات كثيرة متنوعة, مما يضجره, ويَجْلِب له السآمةَ؛ فإذا لزم حُسْنَ الصحبةِ لم يظهر الملالة سواء خَصَّه الوالدُ بالحديث, أو كان حاضراً مع أناس يتحدث إليهم الوالد, حتى لو كان الحديث معلوماً للولد,مكروراً على سمعه.
ويشمل كذلك الإكرامَ بالمال خصوصاً إذا كان الوالدُ محتاجاً,فكم من الأولاد مَنْ يُقصِّر في هذا الحق إما تكاسلاً، أو غفلةً, أو بخلاً.
وكم من الأولاد من يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء؛ فَيَحْرِمُ نفسه من بركة الإنفاق على الوالدين.
وكم من الأولاد من يقول: إن إخواني أو أخواتي يَرْفِدُون والديَّ بما يحتاجان إليه؛ فليسا -إذاً- في حاجة إلي.
وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر, فَخَلَتْ يد الوالدين من أي معونة من الأولاد.
فحري بالولد ألا ينسى نصيبه من رفد والديه, ولو كانا غير محتاجين فضلاً عن كونهما كذلك.
وجدير به أن يبادر إلى ذلك ولو كان إخوانه يقومون به ( وفى ذلك فليتنافس المتنفسون ) .
ومن حسن الصحبة أن يعين والده على البر والصدقات والإحسان؛ فيحدث أحياناً أن يكون الوالد ثرياً محسناً، ولكنه لا يوفق بأولاد يعينونه على البر والإحسان، بل ربما قطعوا عليه الطريق، وخذلوه عن الخير؛ فإذا هَمَّ بالمعروف قالوا له: مهلاً؛ إما خوفاً من ضياع مال والده�� -كما يزعمون- وإما رغبة في زيادة الميراث، أو شحاً بالخير، أو غير ذلك؛ فحقيق على الأولاد ألا يقفوا حجر عثرة في طريق والدهم، بل عليهم أن يعينوه على الخير.
ومن صور الصحبة السفر مع الوالدين.
ومن صورها الرحلة معهما؛ فماذا يضير الابن -على سبيل المثال- إذا جاء الربيع, أو نزل مطر أن يصطحب والده أو والدته أو كليهما ليريا المطر, ويمتِّعا ناظريهما برؤية جمال الطبيعة؟
أليس يقضي الوقت الطويل في صحبة الأصدقاء والمعارف؟
ومن صور المصاحبة في المعروف القيام بإكرام ضيف الوالد, والحرص على راحته حال قدوم الضيف.
ومن ذلك صحبة الوالد إذا طلب منك الصحبة لأي مكان، أو أناس ما لم يكن في ذلك مأثم.
ومن ذلك أن تُعرِّف أصحابك على والدك، حتى يطمئن على سيرك، ويأنس بأصحابك إذا زاروك.
ومن ذلك قضاء حوائج الوالد -أباً أو أماً- بكل ارتياح ونشاط وتَدَفُّع.
ومن ذلك ملاحظتُه في علاجه، ومراجعاته، ومرافقته في المستشفى إن احتاج إلى ذلك.
ومن ذلك ألا يتأفف الولدُ إذا أمره والده دون إخوانه، على حد قول الأول:
وإذا تكون ملمةٌ أدعى لها *وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
بل عليه أن يفرح بذلك، بل يجمل به أن يبادر إلى التنفيذ ولو لم يؤمر.
ويحسن به أن يتحمل جفوة الوالد، وقسوته، وتغير مزاجه.
وجماع حسن الصحبة للوالدين أن يحرص الولد على إدخال السرور عليهما, وأن يبتعد عن كل ما يكدِّر خاطرهما.
فهذه إشارات مما حملته الآية الكريمة من معان, أما تفاصيل الحديث عن البر فليس هذا مجالها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول هداية قوله -تعالى-: ( وصاحبهما فى الدنيا معروفاً ) لقمان:15.
وهذا الجزء من الآية مسبوق بقوله -تعالى-: ( ووصينا الإنسن بولديه حملته أمه وهناً على وهن وفصله فى عامين أن اشكر لى ولولديك إلى المصير "14" وإن جهداك على أن تشرك بى ما ليس به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) .
ومعنى الآيتين واضح ففيهما بيان منزلة الوالدين، والحث على القيام بأمرهما، وحسن الرعاية لهما، وطاعتهما بالمعروف.
أما الوقفة فستكون عند قوله -تعالى-: ( وصاحبهما فى الدنيا معروفاً ) ففي ذلك معنى بديع, وهو أن التعبير بهذه اللفظة " وصاحبهما " من ألطف ما يكون في الحث على بر الوالدين؛ ذلك أن الصحبة في هذه الآية تقتضي الملازمة, ومن شأن الملازمة الدوام على تقلب الأحوال؛ فالصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور؛ فإذا استحضر الولد هذا الإرشاد الإلهي علم أن لوالديه حقاً عظيماً, فيلزم صحبتهما - وهما أحق الناس بحسن صحابته - بالمعروف.
وذلك يشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة.
ويشمل كذلك مراعاة أدب المحادثة مع الوالدين؛ لأن طول الصحبة يفضي إلى الملل من جرَّاء تكرار الأحاديث, والوقائع؛ فيسمعها الولد بروايات كثيرة متنوعة, مما يضجره, ويَجْلِب له السآمةَ؛ فإذا لزم حُسْنَ الصحبةِ لم يظهر الملالة سواء خَصَّه الوالدُ بالحديث, أو كان حاضراً مع أناس يتحدث إليهم الوالد, حتى لو كان الحديث معلوماً للولد,مكروراً على سمعه.
ويشمل كذلك الإكرامَ بالمال خصوصاً إذا كان الوالدُ محتاجاً,فكم من الأولاد مَنْ يُقصِّر في هذا الحق إما تكاسلاً، أو غفلةً, أو بخلاً.
وكم من الأولاد من يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء؛ فَيَحْرِمُ نفسه من بركة الإنفاق على الوالدين.
وكم من الأولاد من يقول: إن إخواني أو أخواتي يَرْفِدُون والديَّ بما يحتاجان إليه؛ فليسا -إذاً- في حاجة إلي.
وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر, فَخَلَتْ يد الوالدين من أي معونة من الأولاد.
فحري بالولد ألا ينسى نصيبه من رفد والديه, ولو كانا غير محتاجين فضلاً عن كونهما كذلك.
وجدير به أن يبادر إلى ذلك ولو كان إخوانه يقومون به ( وفى ذلك فليتنافس المتنفسون ) .
ومن حسن الصحبة أن يعين والده على البر والصدقات والإحسان؛ فيحدث أحياناً أن يكون الوالد ثرياً محسناً، ولكنه لا يوفق بأولاد يعينونه على البر والإحسان، بل ربما قطعوا عليه الطريق، وخذلوه عن الخير؛ فإذا هَمَّ بالمعروف قالوا له: مهلاً؛ إما خوفاً من ضياع مال والده�� -كما يزعمون- وإما رغبة في زيادة الميراث، أو شحاً بالخير، أو غير ذلك؛ فحقيق على الأولاد ألا يقفوا حجر عثرة في طريق والدهم، بل عليهم أن يعينوه على الخير.
ومن صور الصحبة السفر مع الوالدين.
ومن صورها الرحلة معهما؛ فماذا يضير الابن -على سبيل المثال- إذا جاء الربيع, أو نزل مطر أن يصطحب والده أو والدته أو كليهما ليريا المطر, ويمتِّعا ناظريهما برؤية جمال الطبيعة؟
أليس يقضي الوقت الطويل في صحبة الأصدقاء والمعارف؟
ومن صور المصاحبة في المعروف القيام بإكرام ضيف الوالد, والحرص على راحته حال قدوم الضيف.
ومن ذلك صحبة الوالد إذا طلب منك الصحبة لأي مكان، أو أناس ما لم يكن في ذلك مأثم.
ومن ذلك أن تُعرِّف أصحابك على والدك، حتى يطمئن على سيرك، ويأنس بأصحابك إذا زاروك.
ومن ذلك قضاء حوائج الوالد -أباً أو أماً- بكل ارتياح ونشاط وتَدَفُّع.
ومن ذلك ملاحظتُه في علاجه، ومراجعاته، ومرافقته في المستشفى إن احتاج إلى ذلك.
ومن ذلك ألا يتأفف الولدُ إذا أمره والده دون إخوانه، على حد قول الأول:
وإذا تكون ملمةٌ أدعى لها *وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
بل عليه أن يفرح بذلك، بل يجمل به أن يبادر إلى التنفيذ ولو لم يؤمر.
ويحسن به أن يتحمل جفوة الوالد، وقسوته، وتغير مزاجه.
وجماع حسن الصحبة للوالدين أن يحرص الولد على إدخال السرور عليهما, وأن يبتعد عن كل ما يكدِّر خاطرهما.
فهذه إشارات مما حملته الآية الكريمة من معان, أما تفاصيل الحديث عن البر فليس هذا مجالها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
تأملات قرآنية (6) [هَارُونَ أَخِي]
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فقد قال الله -عز وجل- في سورة طه عن موسى -عليه السلام-: ( قال رب اشرح لى صدرى "25"ويسر لى أمرى "26" واحلل عقدة من لسانى "27" يفقهوا قولى "28" واجعل لى وزيراً من أهلى "29" هرون أخى "30" اشدد به أزرى "31" وأشركه فى أمرى "32" كى نسبحك كثيراً "33" ونذكرك كثيراً "34" إنك كنت بنا بصيراً ) .
والحديث ههنا حول قوله -تعالى-: ( واجعل لى وزيراً من أهلى ) .
أي معيناً يعاونني، ويؤازرني، وسأل موسى ربه أن يكون ذلك الوزيرُ من أهله، لأنه من باب البر، وأحق الناس ببر الإنسان قرابته، ثم عَيَّنه بسؤاله، فقال: ( هرون أخى "30" اشدد به أزرى "31" ) أي قَوِّني وشد ظهري به.
( وأشركه فى أمرى ) أي في النبوة، بأن تجعله نبياً رسولاً كما جعلتني، فأجاب الله دعاءه، وقال:( قال قد أوتيت سؤلك يموسى ).
وقال في آية أخرى: ( سنشد عضدك بأخيك ).
ففي هذه الآية إحسان من موسى لأخيه هارون -عليهما السلام- ورغبة منه أن يشترك معه أخوه في تبيلغ الدعوة، والتعاون على البر والتقوى.
ولا ريب أن الاشتراك بالخير من أعظم أسباب مضاعفة الثواب، ونيل المراد؛ لما في ذلك من القوة، وشد الأزر.
وهذا ما حصل لموسى -عليه السلام- ولهذا قيل: إن هذه أعظم شفاعة في تاريخ البشر فهذا هو معنى الآية.
وكما أن هذا هو معنى الآية فهي -كذلك- تشير إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقةُ بين الإخوةِ من المحبة، والتآزر، والتعاون.
ولهذا سئل حكيم: أيهما أحبُّ إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال: "أخي إذا كان صديقي".
فهذه الإجابةُ الحكيمة تشير إلى أنه ينبغي أن يكون الأخُ صديقاً لأخيه، دون أن يكتفي برابطة الأخوة وإن كانت من أعظم الروابط.
والمتأملُ في أحوال الناس، وما يكتب في العلاقات عموماً يلحظ فتوراً في علاقات الإخْوة فيما بينهم، وقِلَّةً في الكتابات التي تتعرض لهذا النوع من العلاقات.
فالإخْوة -في كثير من الأحيان- يميلون إلى طابَع الرسمية في علاقاتهم، وربما مالوا إلى جانب الندِّية، وربما كان بعضهم يَحْقِرُ بعضاً، ولا يقضيه حقَّ الاحترام والتقدير؛ فيخسر الإخْوَةُ خسارةً فادحة؛ إذ يفوتهم الأجرُ والتآزرُ، والتعاونُ على مرافق الحياة.
ويفوتهم -أيضاً- جوانبُ كثيرةٌ من السعادة والصداقة المؤسسة على الثقة والرابطة القوية.
ويُعرِّضون أُسَرَهُمْ، ووالديهم، وأولادهم لنكسات وعداوات ربما أكلت الأخضرَ واليابس.
والذي ينبغي في العلاقات بين الإخوة أن تقوم على الإيثار، والمحبة، والصفاء، وتدبر العواقب، و تقديرِ الصغير للكبير، ورحمة الكبير بالصغير، وإنزالِ ذي المنزلةِ مكانَهُ اللائق به،وتشجيعِ المتباطئ والمتكاسل حتى ينهضَ بنفسه، وأن يكمل بعضهم بعضاً حتى يُسعدوا أنفسهم، وأسرهم، وألا يجعلوا لقائل فيهم مقالاً.
وإذا قُدِّر للإنسان أن يكون ذا شهرةٍ، أو علمٍ، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك - فيحسن به ألا ينسى نصيب إخوانه منه، وألا يتطاول عليهم.
كما ينبغي لمن كان لهم أخٌ قد نال ما نال مما ذُكر - أن يعينوه على نفسه، وألا يقفوا أمام طموحاته، وأن يحملوا عنه ما يجب عليه من نحو بر الوالدين، وما جرى مجرى ذلك، فيكونوا بذلك شركاءَ له في الأجر والنجاح.
ومما يعين على شيوع روح الصفاء بين الإخوة أن يبادروا إلى قسمة الميراث؛ لكي يظفرَ كلُّ طرف بنصيبه، وليقطعوا دابر الفتنة وسوء الظن.
ومما يصفي الودَّ بين الإخوة أن يحرصوا على الوئام والاتفاق حال الشراكة؛ فإذا كان بينهم شراكةٌ في نحو تجارة أو غيرها - فليحرصوا على ذلك، وعلى أن تسود بينهم روحُ الإيثار والمودة، والشورى، والرحمة، والصدق، والأمانة، وحسن الظن.
وأن يحب كلُّ واحدٍ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كل طرف ما له وما عليه.
كما يحسن بهم أن يناقشوا المشكلاتِ بمنتهى الصراحة، والوضوح، وأن يحرصوا على التفاني والإخلاص في العمل.
كما يجملُ بهم أن يكتبوا ما يتفقون عليه إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
فإذا ساروا على تلك الطريقة حلَّت فيهم الرحمة، وسادت بينهم المودة، ونزلت عليهم بركات الشركة.
ومن الأمور التي تبقي على المودة بين الإخوة لزومُ التواضعِ، ولينُ الجانب، والتغاضيْ، والتغافلُ، والصفحُ، ونسيانُ المعايبِ، وتركُ المنِّة على الإخوة، والبعدُ عن مطالبتهم بالمثل، وتوطينُ النفس على الرضا بالقليل مما يأتي منهم، ومراعاةُ أحوالهم، وطبائعهم، وتجنبُ الشدة في العتاب حال وقوع الخطأ، وتجنب الخصام، والجدال العقيم، والمبادرة بالهدية والزيارة إن حصل خلاف.
ومن ذلك أن يستحضر المرء أن إخوانه لحمة منه؛ فلا بد له منهم، ولا فكاك له عنهم.
ومن ذلك أن يستحضر المرءُ أن معاداةَ الإخوةِ شرٌّ وبلاءٌ؛ فالرابحُ فيها خاسرٌ، والمنتصرُ مهزومٌ.
ومن ذلك أن يربيَ الإخوةُ أولادَهم على احترام أعمامهم، وتوقيرهم.
هذا وقد أرانا العيان نماذجَ رائعةً، ومثلاً عليا من صداقات الإخوة، وقيامهم بالحقوق ما جعلهم مضرب مثل، وموضع أسوة.
وبعد، فهذه إلماحات وإشارات من قوله -تعالى-: ( هرون أخى "30"اشدد به أزرى ) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فقد قال الله -عز وجل- في سورة طه عن موسى -عليه السلام-: ( قال رب اشرح لى صدرى "25"ويسر لى أمرى "26" واحلل عقدة من لسانى "27" يفقهوا قولى "28" واجعل لى وزيراً من أهلى "29" هرون أخى "30" اشدد به أزرى "31" وأشركه فى أمرى "32" كى نسبحك كثيراً "33" ونذكرك كثيراً "34" إنك كنت بنا بصيراً ) .
والحديث ههنا حول قوله -تعالى-: ( واجعل لى وزيراً من أهلى ) .
أي معيناً يعاونني، ويؤازرني، وسأل موسى ربه أن يكون ذلك الوزيرُ من أهله، لأنه من باب البر، وأحق الناس ببر الإنسان قرابته، ثم عَيَّنه بسؤاله، فقال: ( هرون أخى "30" اشدد به أزرى "31" ) أي قَوِّني وشد ظهري به.
( وأشركه فى أمرى ) أي في النبوة، بأن تجعله نبياً رسولاً كما جعلتني، فأجاب الله دعاءه، وقال:( قال قد أوتيت سؤلك يموسى ).
وقال في آية أخرى: ( سنشد عضدك بأخيك ).
ففي هذه الآية إحسان من موسى لأخيه هارون -عليهما السلام- ورغبة منه أن يشترك معه أخوه في تبيلغ الدعوة، والتعاون على البر والتقوى.
ولا ريب أن الاشتراك بالخير من أعظم أسباب مضاعفة الثواب، ونيل المراد؛ لما في ذلك من القوة، وشد الأزر.
وهذا ما حصل لموسى -عليه السلام- ولهذا قيل: إن هذه أعظم شفاعة في تاريخ البشر فهذا هو معنى الآية.
وكما أن هذا هو معنى الآية فهي -كذلك- تشير إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقةُ بين الإخوةِ من المحبة، والتآزر، والتعاون.
ولهذا سئل حكيم: أيهما أحبُّ إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال: "أخي إذا كان صديقي".
فهذه الإجابةُ الحكيمة تشير إلى أنه ينبغي أن يكون الأخُ صديقاً لأخيه، دون أن يكتفي برابطة الأخوة وإن كانت من أعظم الروابط.
والمتأملُ في أحوال الناس، وما يكتب في العلاقات عموماً يلحظ فتوراً في علاقات الإخْوة فيما بينهم، وقِلَّةً في الكتابات التي تتعرض لهذا النوع من العلاقات.
فالإخْوة -في كثير من الأحيان- يميلون إلى طابَع الرسمية في علاقاتهم، وربما مالوا إلى جانب الندِّية، وربما كان بعضهم يَحْقِرُ بعضاً، ولا يقضيه حقَّ الاحترام والتقدير؛ فيخسر الإخْوَةُ خسارةً فادحة؛ إذ يفوتهم الأجرُ والتآزرُ، والتعاونُ على مرافق الحياة.
ويفوتهم -أيضاً- جوانبُ كثيرةٌ من السعادة والصداقة المؤسسة على الثقة والرابطة القوية.
ويُعرِّضون أُسَرَهُمْ، ووالديهم، وأولادهم لنكسات وعداوات ربما أكلت الأخضرَ واليابس.
والذي ينبغي في العلاقات بين الإخوة أن تقوم على الإيثار، والمحبة، والصفاء، وتدبر العواقب، و تقديرِ الصغير للكبير، ورحمة الكبير بالصغير، وإنزالِ ذي المنزلةِ مكانَهُ اللائق به،وتشجيعِ المتباطئ والمتكاسل حتى ينهضَ بنفسه، وأن يكمل بعضهم بعضاً حتى يُسعدوا أنفسهم، وأسرهم، وألا يجعلوا لقائل فيهم مقالاً.
وإذا قُدِّر للإنسان أن يكون ذا شهرةٍ، أو علمٍ، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك - فيحسن به ألا ينسى نصيب إخوانه منه، وألا يتطاول عليهم.
كما ينبغي لمن كان لهم أخٌ قد نال ما نال مما ذُكر - أن يعينوه على نفسه، وألا يقفوا أمام طموحاته، وأن يحملوا عنه ما يجب عليه من نحو بر الوالدين، وما جرى مجرى ذلك، فيكونوا بذلك شركاءَ له في الأجر والنجاح.
ومما يعين على شيوع روح الصفاء بين الإخوة أن يبادروا إلى قسمة الميراث؛ لكي يظفرَ كلُّ طرف بنصيبه، وليقطعوا دابر الفتنة وسوء الظن.
ومما يصفي الودَّ بين الإخوة أن يحرصوا على الوئام والاتفاق حال الشراكة؛ فإذا كان بينهم شراكةٌ في نحو تجارة أو غيرها - فليحرصوا على ذلك، وعلى أن تسود بينهم روحُ الإيثار والمودة، والشورى، والرحمة، والصدق، والأمانة، وحسن الظن.
وأن يحب كلُّ واحدٍ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كل طرف ما له وما عليه.
كما يحسن بهم أن يناقشوا المشكلاتِ بمنتهى الصراحة، والوضوح، وأن يحرصوا على التفاني والإخلاص في العمل.
كما يجملُ بهم أن يكتبوا ما يتفقون عليه إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
فإذا ساروا على تلك الطريقة حلَّت فيهم الرحمة، وسادت بينهم المودة، ونزلت عليهم بركات الشركة.
ومن الأمور التي تبقي على المودة بين الإخوة لزومُ التواضعِ، ولينُ الجانب، والتغاضيْ، والتغافلُ، والصفحُ، ونسيانُ المعايبِ، وتركُ المنِّة على الإخوة، والبعدُ عن مطالبتهم بالمثل، وتوطينُ النفس على الرضا بالقليل مما يأتي منهم، ومراعاةُ أحوالهم، وطبائعهم، وتجنبُ الشدة في العتاب حال وقوع الخطأ، وتجنب الخصام، والجدال العقيم، والمبادرة بالهدية والزيارة إن حصل خلاف.
ومن ذلك أن يستحضر المرء أن إخوانه لحمة منه؛ فلا بد له منهم، ولا فكاك له عنهم.
ومن ذلك أن يستحضر المرءُ أن معاداةَ الإخوةِ شرٌّ وبلاءٌ؛ فالرابحُ فيها خاسرٌ، والمنتصرُ مهزومٌ.
ومن ذلك أن يربيَ الإخوةُ أولادَهم على احترام أعمامهم، وتوقيرهم.
هذا وقد أرانا العيان نماذجَ رائعةً، ومثلاً عليا من صداقات الإخوة، وقيامهم بالحقوق ما جعلهم مضرب مثل، وموضع أسوة.
وبعد، فهذه إلماحات وإشارات من قوله -تعالى-: ( هرون أخى "30"اشدد به أزرى ) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
تأملات قرآنية (7) [فَأُوْلَئِكَ يُبًدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ]
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول قوله -تعالى-: ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت ).
فقد تأملت في قوله الله -عز وجل-:( والذين لا يدعون مع الله إلهاً ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً "68"يضعف له العذاب يوم القيمة ةيخلد مهاناً"69"إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صلحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان: 68-69.
ووجدت أن العلماءَ قد اختلفوا في صفة تبديل السيئات حسنات.
قال ابن القيم "رحمه الله " : "واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة".
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدَّل المريضُ بالمرض صحةً، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيدُ بنُ المسيب وغيره من التابعين: "هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة".
ثم قال ابن القيم "رحمه الله " بعد أن تكلم على القولين السابقين: "إذا علم هذا فزوالُ مُوجَبِ الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثرُ الوسخِ والخبثِ عنه أُعطي مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فإذا تطهر بالتوبةِ النصوح وزال عنه بها أَثَرُ وسخِ الذنوب وخَبَثُها كان أولى بأن يعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً؛ لأن إزالةَ التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظمُ من إزالة النار، وأحبُّ إلى الله".
وإزالةُ النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول.
وقال: "التائبُ قَد بَدَّلَ كلَّ سيئةٍ بندمه عليها حسنةً؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندمُ توبةٌ، والتوبةُ من كل ذنبٍ حسنةٌ؛ فصار كلُّ ذنبٍ عَمِلَه زائلاً بالتوبة التي حَلَّت محلَّه وهي حسنة؛ فصار له مكان كلِّ سيئةٍ حسنةً بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وبناءً على هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها".
هذا هو مُحَصَّل أقوال العلماء في صفة التبديل.
ولكن يبقى تساؤل يثار عن سبب تبديل السيئات حسنات، فيقال: هل يكون من كثرت سيئاته وعظمت أفضل ممن قلَّت سيئاته وخفَّت إذا هما تابا؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل لكثرة السيئات مزية بعد التوبة النصوح؟
كان هذا التساؤل يرد علي كثيراً ولم أطَّلع -على قلة اطلاعي- على شيء من كلام العلماء في ذلك، فخطر في بالي سببٌ لَعلَّه يجيب عن هذا التساؤل؛ فيقال: إن من أسبابِ مضاعفةِ الأعمال تركَ الإنسانِ ما تشتهيه نفسه من الشهوات المحرمة إذا هو تركها خالصاً من قلبه.
ولا ريب أن كثرةَ المعاصي تُضْعف القلبَ، وتَحُوْلُ دونَ التوبة الصالحة الخالصة النصوح؛ لأن الذي يقع في الذنوبِ الكثيرةِ الكبيرةِ يقوى تعلُّقُهُ بها، ويصعبُ عليه الخلاصُ منها؛ فإذا أراد التوبة والإقلاع عنها كان محتاجاً إلى قوة إخلاص، وصدقِ عزيمة، وشدة قهر للنفس ومنازعة لها.
فإذا اقتحم تلك العقبة؛ فقدع نفسه، وقهرها، وتجرع مرارة الصبر، وغصص الحرمان - كان جديراً بتلك الكرامة، ألا وهي تبديل السيئات حسنات.
أما من كانت سيئاته قليلة صغيرة فربما لا يحتاج إلى كبير عناء ومجاهدة؛ فيكون أجره على قدر مجاهدته، وقد يكون له أعمال صالحة تفوق أعمال غيره ممن له سيئات كبيرة كثيرة ثم تاب عنها توبة نصوحاً، فهذا مُلَخَّصُ ما خطر لي في هذا السياق.
ثم قرأت بعد ذلك كلاماً لابن القيم في كتابه الفوائد ربما يعضد ذلك المعنى، يقول : "وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله -عز وجل- من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".
وهكذا من عَرَف البدع والشرك والباطل وطرقه؛ فأبغضها لله، وحَذِرها، وحذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه، ولا تورثه شبهة، ولا شكاً، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها، ونفرة عنها - أفضل ممن لا تخطر بباله، ولا تمرُّ بقلبه؛ فإنه كلما مرَّت بقلبه، وتصوَّرت له ازداد محبة للحق، ومعرفة بقدره وسروراً به؛ فيقوى إيمانه به
كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلَّما مرَّت به، فرغب عنها إلى ضدِّها ازداد محبةً لضدِّها ورغبة فيه وطلباً له وحرصاً عليه؛ فما ابتلى الله -سبحانه- عبدَه المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، وخير له، وأنفع، وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له -سبحانه- فتورثه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى.
فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات، واشتدَّت إرادته لها وشوقه إليها - صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم؛ فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتمّ، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم.
ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكباً على النجائب؛ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو -سبحانه- يبتلي عبدَه بالشهوات، إما حجاباً له عنه، أو حجاباً له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
هذا هو ما تحصل في هذا من معنى قوله -تعالى-: ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فإن الحديث ههنا سيدور حول قوله -تعالى-: ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت ).
فقد تأملت في قوله الله -عز وجل-:( والذين لا يدعون مع الله إلهاً ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً "68"يضعف له العذاب يوم القيمة ةيخلد مهاناً"69"إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صلحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان: 68-69.
ووجدت أن العلماءَ قد اختلفوا في صفة تبديل السيئات حسنات.
قال ابن القيم "رحمه الله " : "واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة".
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدَّل المريضُ بالمرض صحةً، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيدُ بنُ المسيب وغيره من التابعين: "هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة".
ثم قال ابن القيم "رحمه الله " بعد أن تكلم على القولين السابقين: "إذا علم هذا فزوالُ مُوجَبِ الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثرُ الوسخِ والخبثِ عنه أُعطي مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فإذا تطهر بالتوبةِ النصوح وزال عنه بها أَثَرُ وسخِ الذنوب وخَبَثُها كان أولى بأن يعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً؛ لأن إزالةَ التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظمُ من إزالة النار، وأحبُّ إلى الله".
وإزالةُ النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول.
وقال: "التائبُ قَد بَدَّلَ كلَّ سيئةٍ بندمه عليها حسنةً؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندمُ توبةٌ، والتوبةُ من كل ذنبٍ حسنةٌ؛ فصار كلُّ ذنبٍ عَمِلَه زائلاً بالتوبة التي حَلَّت محلَّه وهي حسنة؛ فصار له مكان كلِّ سيئةٍ حسنةً بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وبناءً على هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها".
هذا هو مُحَصَّل أقوال العلماء في صفة التبديل.
ولكن يبقى تساؤل يثار عن سبب تبديل السيئات حسنات، فيقال: هل يكون من كثرت سيئاته وعظمت أفضل ممن قلَّت سيئاته وخفَّت إذا هما تابا؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل لكثرة السيئات مزية بعد التوبة النصوح؟
كان هذا التساؤل يرد علي كثيراً ولم أطَّلع -على قلة اطلاعي- على شيء من كلام العلماء في ذلك، فخطر في بالي سببٌ لَعلَّه يجيب عن هذا التساؤل؛ فيقال: إن من أسبابِ مضاعفةِ الأعمال تركَ الإنسانِ ما تشتهيه نفسه من الشهوات المحرمة إذا هو تركها خالصاً من قلبه.
ولا ريب أن كثرةَ المعاصي تُضْعف القلبَ، وتَحُوْلُ دونَ التوبة الصالحة الخالصة النصوح؛ لأن الذي يقع في الذنوبِ الكثيرةِ الكبيرةِ يقوى تعلُّقُهُ بها، ويصعبُ عليه الخلاصُ منها؛ فإذا أراد التوبة والإقلاع عنها كان محتاجاً إلى قوة إخلاص، وصدقِ عزيمة، وشدة قهر للنفس ومنازعة لها.
فإذا اقتحم تلك العقبة؛ فقدع نفسه، وقهرها، وتجرع مرارة الصبر، وغصص الحرمان - كان جديراً بتلك الكرامة، ألا وهي تبديل السيئات حسنات.
أما من كانت سيئاته قليلة صغيرة فربما لا يحتاج إلى كبير عناء ومجاهدة؛ فيكون أجره على قدر مجاهدته، وقد يكون له أعمال صالحة تفوق أعمال غيره ممن له سيئات كبيرة كثيرة ثم تاب عنها توبة نصوحاً، فهذا مُلَخَّصُ ما خطر لي في هذا السياق.
ثم قرأت بعد ذلك كلاماً لابن القيم في كتابه الفوائد ربما يعضد ذلك المعنى، يقول : "وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله -عز وجل- من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".
وهكذا من عَرَف البدع والشرك والباطل وطرقه؛ فأبغضها لله، وحَذِرها، وحذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه، ولا تورثه شبهة، ولا شكاً، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها، ونفرة عنها - أفضل ممن لا تخطر بباله، ولا تمرُّ بقلبه؛ فإنه كلما مرَّت بقلبه، وتصوَّرت له ازداد محبة للحق، ومعرفة بقدره وسروراً به؛ فيقوى إيمانه به
كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلَّما مرَّت به، فرغب عنها إلى ضدِّها ازداد محبةً لضدِّها ورغبة فيه وطلباً له وحرصاً عليه؛ فما ابتلى الله -سبحانه- عبدَه المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، وخير له، وأنفع، وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له -سبحانه- فتورثه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى.
فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات، واشتدَّت إرادته لها وشوقه إليها - صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم؛ فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتمّ، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم.
ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكباً على النجائب؛ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو -سبحانه- يبتلي عبدَه بالشهوات، إما حجاباً له عنه، أو حجاباً له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
هذا هو ما تحصل في هذا من معنى قوله -تعالى-: ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
ملتقى الخطباء: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد.
فهذه تأملات قصيرة لسبع آيات.
أولاً: قوله - تعالى -:( أو تسريح بإحسان ) هذا في شأن النساء، وإمساكهن بالمعروف، أو تسريحهن بإحسان.
ولكن، لا يبعد أن يتعدى ذلك المعنى إلى معانٍ أخرى، فَيَشْملَ كلَّ مَنْ يُتعامل معهم من الناس؛ فمن ذلك أن يَعْمَلَ لديك موظف في شركة، أو مدرسة، أو أي قطاع؛ فيمكثَ عندك فترةً من الزمن طالت أو قصرت، ثم بعد ذلك تقتضي مصلحتُه أن ينتقلَ إلى ميدان أو مجال آخر، وهذا من حقه مالم يُخِلَّ بشرط من الشروط.
فهل يعني ذلك أن تَصْرِمَ حبالَ الودِّ معه؟ وهل يلزمُ أن تسيءَ إليه، وتفسرَ انتقاله بقلة المروءة، ونكرانِ الجميل؛ إذ كيف يزهد بك، وقد أحسنت إليه، وارتقيت بكفاءته؟
وهل يلزم من الافتراق، والانتقال الذي تقتضيه سُنَّةُ الحياةِ وطبيعةُ العمل - أن يكون ذريعةً لنشر الغسيل، ونيل كل واحد من الآخر؟
الجواب لا؛ فأهل الكرم، وأولو الألباب، وذوو المروءات يربأون بأنفسهم عن تلك الخُطَّة؛ فيحسنون إلى من تحت أيديهم، ويَقْضُونَهم حقهم كاملاً غير منقوص، ولا يرون أنهم حكرٌ عليهم لا يفارقونهم إلا إلى القبور.
فإذا قضى الله بالفراق، أو الانتقال - أَحْسَنُوا التسريح والتوديع، وأَشْعَرُوا من يعمل معهم ويريد الانتقال عنهم بمحبتهم له، وحرصهم على مصلحته؛ فينتقل صاحبهم بنفس رضية، وذكريات جميلة، ودعوات صادقة، وصفح عن الزلات، وتذكر للحسنات.
بل ربما كان ذلك دافعاً له للعدول عن رغبته، أو الرجوع مرة أخرى إذا الفرصة واتته.
وبذلك تطيب النفوس، ويحفظ الود، ولا ينسى الفضل.
أما إذا كانت الأخرى فإن الخسارة فادحة للطرفين، سواء كانت مالية، أو معنوية، أو كليهما.
ثانياً: قوله - تعالى - في شأن المرأة المعلقة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً:( فتذروها كالمعلقة ) : لا متزوجة ولا مطلقة؛ وذلك لما في التعليق من المفاسد الكثيرة.
وفي هذا إشارة إلى المبادرة إلى الحسم، وإصلاح الشأن إما بالوفاق، أو الفراق، بعد أن تُتخذ الوسائل المشروعة.
ولعل ذلك المعنى لا يقف عند مسألة الزوجية، بل ربما يتعداه إلى أمورٍ كثيرة من شأنها أن تزيد المشكلات تعقيداً، أو تنشئها إن لم تكن موجودة أصلاً.
وما سبب ذلك إلا التعليق الذي لا مسوغ له؛ فتجد أن أمراً ما بين اثنين كاتفاقٍ في شأنٍ، أو موعد، ويكون عند أحدهما القرار والحسم، والآخر ينتظر ما يُسفر عنه الأمر؛ فيتباطئ الأول، ويلتقي صاحِبَهُ دون أن يشعره بما كان، أو بما سيكون، وربما مضت الشهور، أو السنين والحال كما هي.
وقل مثل ذلك في شأن قضايا الميراث، والنزاعات حول العقار أو مجاري السيول، أو المشكلات بين الأقارب.
فاللائق في مثل هذه الأحوال التي لا يسوغ فيها التروي أن تحسم الأمور، وألا تظل معلقة؛ حتى يعرف كل طرفٍ ما له وما عليه، ولأجل ألا يبقى في النفوس أثرٌ يزداد مع الأيام سوءاً.
ثالثاً: في قوله - تعالى -: فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ) : إخلاصٌ، وشهامةُ خاطرٍ، وبُعْدٌ عن حبِّ الظهور، وتركٌ لطلب المقابل.
ومع ذلك ظهر فضله في الحال عند والد الفتاتين، وجاءه الخير وهو في ظله: ( إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) .
وفي قوله: ( رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ) إشارة إلى أن الإحسان للخلق سبب لإحسان الخالق وإجابته الدعاء.
رابعاً: في قوله - تعالى -: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) بيان أن العفو والصفح عن الخلق من أسباب المحبة، ومن أعلى مقامات الإحسان.
خامساً: في قوله - تعالى -: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ) الممتحنة:7، إرشاد إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يُفْرِط في العداوة، وألا يقطع حبال الصلة مع المخالفين أو المناوئين.
بل يحسن به أن يعتدل في ذلك، وأن يجعل فرصة للصلح والتقارب ولو كانت ضئيلة، فلربما انقلبت تلك العداوة إلى مصالحة ومسالمة، وقد جاء في الأثر: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".
سادساً: في قوله - تعالى -:( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلى أهلها ) النساء:58، إرشاد إلى أداء الأمانات، وإشارة إلى استحضار الأجر المترتب على ذلك؛ فالقيام بالأوامر الربانية من موجبات رضا الخالق - جل وعلا -.
وكثير من الناس لا يستحضر إلا القليل من معاني تلك التأدية، ويغيب عن باله أمور يسيرة يقوم من تلقاء نفسه؛ من نحو أداء الحقوق، وإعطاء الأجير أجره، وسداد الديون المتعلقة به، وإعطاء العاملين عموماً حقوقهم المادية والمعنوية؛ فذلك من أداء الأمانات، ومما تنال به الدرجات، وتحط السيئات.
سابعاً: في قوله - تعالى -: ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) فاطر:43، زجر وتهديد لمن فسدت مقاصده، وساءت نواياه.
وفيه حث على إصلاح المقاصد، وإحسان النوايا، وذلك يتضمن سوء العاقبة للأول، وحسن المآل للثاني.
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
تعديل التعليق