تأملات في سورة العصر الجزء الثاني

مبارك العشوان
1437/06/28 - 2016/04/06 05:16AM
إن الحمد لله…أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس وأطيعوه وحاذروا غضبه ولا تعصوه؛ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
عباد الله: كان الحديث في خطبة مضت عن شيء من دروس وفوائد سورة العصر، وحديث اليوم عن دروس أخر من هذه السورة العظيمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
يقسم الله تبارك وتعالى بالعصر وهو: الدهر كلُّه ليله ونهاره أن الإنسانَ في خسر، وهلَكة ونقصان؛ أي كلُّ الناس خاسرين، إلا من استثناهم الله جلّ وعلا في هذه السورة، يقول الإمام السعدي رحمه الله: والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات، ثم ذكرها رحمه الله. أهـ
فلنحرص رحمكم الله غاية الحرص على هذه الصفات؛ لنفوز بالجنان ونسلم من الخسران.
أول تلك الصفات عباد الله: الإيمان التام والتصديق الجازم بكل ما أمر الله بالإيمان به، ويدخل في ذلك أصولُ الإيمان وقواعدُ الدّين، المذكورة في حديث جبريل عليه السلام، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: ( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ).رواه مسلم. الصفة الثانية: العمل الصالح، ويشمل أفعالَ الخير كلَّها، الظاهرةَ والباطنة، القولية، والفعليه، المتعلقةَ بحق الله تعالى، والمتعلقة بحقوق عباده.
والعمل لا يكون صالحا ولا مقبولا؛ إلا إذا تحقق فيه أمران لا يغني أحدهما عن الآخر .
الأول: إخلاصهُ لله عز وجل. والثاني: المتابعة فيه لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك 2 أي: أخلصُه وأصوبُه.
الإخلاص عباد الله شرط لقبول العمل، وهو: أن يقصد بعمله التقرب إلى الله، رغبة ورهبة ومحبة وتعظيما، وينقي أعماله من قصد ثناء الناس، أو المنزلة في قلوبهم، أو تحصيل شيء مما في أيديهم، أو اتقاء مذمتهم؛ قال تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } الزمر 11ـ 15 الإخلاص ـ رحمكم الله ـ هو محل الاهتمام ، وهو مناط السعادة أو الشقاء، والثواب أو العقاب، والقبول أو الرد؛ ففي الحديث:
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم قال الفضيل رحمه الله: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا له أعمالكم؛ قبل أن تُرَدَ عليكم وتكونَ سببا في خسرانكم؛ فقد ردت أعمال قوم على أصحابها هي من أفضل الأعمال لما خلت من الإخلاص لله عز وجل، بل كانت سببا للعذاب والعياذ بالله؛ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَــةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَــالَ: بَلَــى يَــا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ , فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ )، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: ( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ ). أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
لما سمع معاوية رضي الله عنه هذا الحديث قال: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى بكاء شديدا حتى ظنوا أنه هالك. ثم قال صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هود 15 ـ 16 بارك الله...


الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد: فإن الشرط الثاني لصلاح العمل وقبوله: المتابعة بأن يكون العمل على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران 31 وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم ، ولمسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح
عباد الله: إن أقوالَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعالَه وتقريراته، كل ذلك من سنته، وقد جاءت أحاديثه صلى الله عليه وسلم ببيان كل صغيرة وكبيرة من هذا الدين.
قال عن الصلاة: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه ابن حبان
وقال في الحج: ( لتأخذوا مناسككم ) رواه مسلم
وبين أحكام الزكاة والصيام، ونقل الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذا الدين بكل دقة، وبلغوه للناس، فجزاهم الله خير الجزاء.
ولم يبق على المسلم أيها الناس إلا أن يتعلم أمور دينه وعبادته ليعبد الله على بصيرة؛ وليسأل أهل العلم عما لا يعلم: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } الأنبياء 7
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح والثبات على دينك حتى نلقاك.
عباد الله: وللحديث عن هذه السورة صلة في خطبة أخرى إن يسر الله تعالى.
ثم صلوا ... اللهم أعز الإسلام ... عباد الله: اذكروا الله...
المشاهدات 1179 | التعليقات 0