تأملات في سورة الحجرات«5»

أمير محمد محمد المدري
1438/04/26 - 2017/01/24 07:16AM
تأملات في سورة الحجرات«5»

الحمد لله، ما تعاقب الجديدان وتكررت المواسم، أحمده سبحانه وأشكره شكر التقي الصائم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عامل بها وعالم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله حميد الشِّيم وعظيم المكارم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه كانوا على نهج الهدى معالم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إلهي:
إني دعوتُك والهموم جيوشها نحوي تطارد
فأفرج بحولك كُربتي يا من له حُسن العوائد
فخفي لطفك يُستعان به على الزمن المعاند
أنت الميّسر والمسبب والمسهّل والمساعد
يسّر لنا فرجا قريبا يا إلهي لا تباعد
ثم الصلاة على النبي وآله الغر الأماجد
وعلى الصحابة كلهم ما خر للرحمن ساجد



أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).
عباد الله:
مع سورة الحجرات مع سورة الأخلاق، مع سورة الآداب واللقاء الخامس والنداء الخامس قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].
أيها المؤمنون، لقد ذُكِر الظن في القرآن الكريم في ستٍّ وخمسين موضعًا، منها تسعة وأربعون جاء في سياق الذم، وسبعة مواضع في سياق المدح، وأما الموضع السادس والخمسون فجاء في وصف حال المحتضَر عند موته في قوله تعالى: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) [القيامة: 28] (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة: 29] (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة: 30]، فلم يُذكَر فيه ذمّ ولا ثناء، إنما هو وصفُ حال.
ولعل هذا الحصر لهذه الكلمة وتَكرارها في القرآن على هذا النحو يشير إلى أن أغلب الظن مما يذمّ ولا يمدح. حدَّث أبو هريرة ا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» [رواه البخاري]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك؛ دمه وماله وأن لا يظنَّ به إلا خيرًا»، وقد ثبت عنه أن قال: «إذا ظننتم فلا تحقِّقوا».
أيها المؤمنون، كثيرًا ما يطرق أسماعنا في مجالس المسلمين العامة والخاصة أن فلانًا يقصد كذا، وفلانًا نوى كذا وفلان أراد من فعله أو قوله كذا، سوءُ ظنٍّ مَقيت يؤجِّج مشاعر الحقد والكراهية، يهدم الروابط الاجتماعية، يزلزل أواصر الأخوة، يقطع حبال الأقربين ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع.
جاء في السنة النبوية أن رجلاً أساء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم لما وزّع الغنائم، واتهم النبي المصطفى والرسول المجتبى بعدم العدل والإخلاص، فقال: اعدل يا محمد، فما عدلت، هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، فدفعه سوء ظنه وفعله القبيح وسوء خلقه وقلة فقهه لمقاصد الشريعة ومصالح الدين، دفعه ذلك على أن استعجل في الحكم، وحكم بجهل على أكمل إنسان وأعدل بني عدنان، والمرء إذا لم يعلم فعليه أن يسأل ويستفسر، ولا يجري وراء الظنون.
خرج النبي عليه الصلاة والسلام يوماً في الليل حتى يوصِل إحدى زوجاته إلى دارها فمر به رجلان من الأصحاب فلما رأيا رسول الله ومعه امرأة، أسرعا في مشيهما فنادى عليهما عليه الصلاة والسلام وقال: «على رسلكما إنها صفية»، قالا: سبحان الله يا رسول الله أنشكّ بك؟ قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلبيكما شرا» [أخرجه الشيخان].
عباد الله: إذا تسرّب سوء الظن إلى النفوس أدّى بها إلى الاتّهام المتعجّل وتتبّع العورات وملاحقة الهفوات والتجسّس الدنيء؛ ولذا ترى من يسيء الظنَّ يقول: سأحاوِل أن أتحقّق، فيتجسّس وقد يغتاب وقد يذكر أخاه بسوء، فيرتكب ذنوبًا مترادِفة ومعاصيَ قاصِمة.
الظنّ ـ عباد الله: ـ مبنيّ على التخمين بسبب كلمةٍ أو عمل محتمل، والظنّ يجعل تصرّف صاحبه خاضعًا لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم حتى تجده يحمل أطنانًا من التّهم بناها خياله وكلّستها أوهامه نتيجةَ سوء ظنّه بأخيه، بل إنّ تحيّة الإسلام إن كانت محفوفةً بسوء الظنّ كانت شتيمةً منكرة، وإن الابتسامة إن كانت مقرونة بسوء الظنّ فُسّرت استهانة واستهزاءً، والعطاء والمدح يُفسّران على وجهٍ قد يقود إلى المعارك والاصطدام.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، دل سياق الآية على الأمر بصون عِرض المسلم غايةَ الصيانة وعدم الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقّق، قيل له: (وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12]، فإن قال: تحققتُ من غير تجسّس، قيل له: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12].
وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» [رواه أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي مرفوعًا].
كما جاء عن الزبير رضي الله عنه قال: «حرست أنا و عمر ليلة - و عمر رضي الله عنه كان يعس ليلاًَ في المدينة ويتسمع الأخبار، ويتعرف على حال الناس في الليل، وقد يتصدق بدون أن يعلم به أحد، وقد يعرف أخبار الناس- فقال عمر: هذا بيت فلان - سماه- مجافىً عليهم الباب، وهناك سراج ولغط وشرب فما ترى؟ فقال له الزبير: أرانا يا أمير المؤمنين أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله عن التجسس وقد تجسسنا، قال: فتركهم عمر وانصرف».
وعلى كلٍ فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر له ما ظهر وليس من حقه أن يتتبع بالتجسس فيفسد أحوال الناس ما دام الأمر مستتراً، بخلاف ما إذا ظهرت آثاره بأصوات أو روائح.
اللهم أحفظنا من كل سوء وحسِّن أخلاقنا يارب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله تعظيماً لشانه، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه.
وبعد عباد الله:
إنما المؤمنون إخوة، فلا تتبعوا العورات، ولا تصيدوا السقطات، ولا تبحثوا عن الزلات.
عبد الله كُن كالنحلة لا تخرج إلا طيباً ولا تقع إلا على طيباً تسقط على الورد والزهور، ولا تكن كالذباب حيث يسقط على القاذورات والخبائث، لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً.
تأمّل كيف أمرك الإسلام بستر أهل المعصية في الدنيا لتستر في القيامة فمن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، هذا مع من تحقق وقوعه في المعصية، فالأجدر والأولى بك فيمن لم تثبت عليه المعصية أن ترحمه من لسانك، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وعارٌ على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.
وما أروع الحياة في مجتمع بريء من الظنون.
و إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وعُرف منه الأمانة وحُسن الأخلاق، فظنُّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطي الشبهات والمجاهرة بالخبائث، ولذا قال أهل العلم: «إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، ولا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح».
قال ابن القيم رحمه الله: « الكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه»؛ ولهذا لم يُحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، كما في حديث التوبة المعروف، وذلك لأنه لم يقصد تأليه نفسه.
أيها الإخوة: ليس من منهج السلف الصالح تأويل الألفاظ وليّ المعاني والفرح بالعثرات ومعاملة المسلمين بسوء الظن.
إن ظاهرة إساءة الظن بالمسلمين قد انتشرت في زماننا، وأصبحت آفة تهدد الترابط والوحدة بين أفراد المجتمع المسلم، فالزوج يسيء الظن بزوجته والزوجة كذلك والجار بجاره والأخ بأخيه.
سوء الظن كم رُوِّع به أناس، وظُلِم به أقوام، وهُجِر به صلحاء دون مسوِّغ شرعي، كما قيل: « وأرى العداوة لا أرى أسبابها»، كل ذلك بسبب أسانيد منقطعة، وسلاسل مظلمة، ظنٌّ آثم، فغيبة نكراء، فبهتان وافتراء، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58].
أيها الإخوة، إذا علمنا وأيقنا أن سوء الظن آفة مهلكة فلا بد من العمل على العلاج لئلا يستشري الداء ويهلك الحرث والنسل.
ومن العلاج أولاً إحسان الظن بالناس، تجنّب سوء الظن بهم، فكّر طويلاً قبل أن تحكم أو تتهم، ولأن تخطئ بحسن الظن أفضل من أن تخطئ بالتسرع بسوء الظن، قال عمر ا: «لا تظنن بكلمةٍ خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً».
من العلاج ثانياً: التماس المعاذير للناس.
ثالثاً: ترك تتبع العورات والتماس الزلات.
رابعاً: التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى.
اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم أعز دينك وأعلي كلمتك وانصر جندك يا رب العالمين.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين..

المرفقات

تأملات في سورة الحجرات-الجزء الخامس.doc

تأملات في سورة الحجرات-الجزء الخامس.doc

المشاهدات 806 | التعليقات 0