تأملات في آية تعدد الزوجات:
أيمن عرفان
1439/01/16 - 2017/10/06 13:08PM
أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نقرأ القرآن وأن نتدبر فيه، فقال –عز وجل-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص29]. اخترت لكم اليوم آية من كتاب الله عز وجل لنقرأها ونفهم بعض ما فيها من معاني، ونتدبر فيها، واخترت هذه الآية بالذات لأنها من الآيات التي تثير جدلا داخل المجتمع المسلم وخارجه، ففي الخارج يعترضون على الحكم الذي تتضمنه الآية ويقولون أن الآية فيها ظلم لقطاع عريض في المجتمع ألا وهو قطاع المرآة، وفي الداخل نجد أن الكثيرين منا يتعاملون مع هذه الآية بأهوائهم، كل منا له رأي فيأخذ من الآية كلمة تخدم رأيه، وهذه كارثة، لأنها تعكس طبيعة العلاقة التي أصبحت بيننا وبين كتاب الله، أصبح البعض منا حين يأتون إلى كتاب الله لا يأتون إليه ليعالج مشاكلهم بقدر ما أصبحوا يأتون إليه بأهوائهم لأجل أن يجدوا مبررات لتلك الأهواء. هذه الآية هي الآية الثالثة من سورة النساء حيث يقول الله -عز وجل-: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}.
تعالوا بنا نبدأ بالتأمل في كلمات الآية قبل أن نبدأ في التدبر فيها، روى البخاري ومسلم عن عُرْوَة بْن الزُّبَيْرِ: (أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، قَالَتْ: هِيَ اليَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ، إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ). قوله تعالى: "وإن خفتم" شرط، وجوابه "فانكحوا". أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن "فانكحوا ما طاب لكم" أي غيرهن. "ما طاب لكم من النساء" معناه ما حل لكم؛ واكتفى بذكر من يجوز نكاحه؛ لأن المحرمات من النساء كثير.
"مثنى وثلاث ورباع" الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام؛ من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الآية على أربع. ولم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وروى أبو داود عَنْ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: (أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ, فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا). فالآية جاءت لتحدد وتقيد وتقنن لتعدد الزوجات وليس العكس.
"فإن خفتم ألا تعدلوا" في القسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين، "فواحدة" فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة. وذلك دليل على وجوب ذلك، "أو ما ملكت أيمانكم" يريد الإماء. "ذلك أدنى ألا تعولوا" أي ذلك الزواج بالأربع فقط أو واحدة فقط أو الاكتفاء بملك اليمين أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا.
ونتدبر قليلا في الآية فتستوقفنا أمور: (1) ردا على هؤلاء الذين يقولون أن الآية فيها ظلم للمرأة، الآية نزلت كما في بيئة جاهلية امتهنت الظلم والاعتداء على الآخرين وخاصة تلك الفئات التي يمكن أن ينظر إليها ذلك المجتمع الجاهلي إلى أنها فئات ضعيفة ومنها فئة اليتامى وفئة النساء، لأنه ليس لهم ظهر ولا سند يعينهم على العيش في خضم هذا المجتمع الجاهلي، فأرادت هذه الآية أن تصحح وضعا اجتماعيا قائما على الظلم والعدوان. وتدبروا في كلمات الآية، على مرتين ذكرت كلمة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) إذن لم يحدث عدم القسط بعد وإنما كل الذي حدث هو خوف، حالة نفسية، ولكن القرآن العظيم لشدة حفاظه على قيمة العدالة أراد سبحانه وتعالى أن يربينا وأن يعلمنا أنه حتى في حالة خوفك من وقوع ظلم أو عدم قسط فعليك أن تأخذ بكل الاحترازات التي تمنع من وقوع هذا الظلم وعدم القسط. تدبروا (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) القرآن يطالبك في مرحلة التهيؤ النفسي وهو الخوف أن لا تقوم بهذا العمل، يالعظمة القرآن وعظمة تشريعاته! فهو سبحانه يعلّم هذه النفس كيف تحترز للشيء قبل وقوعه، كيف تفكر بمآلآت القرارات والأفعال قبل اتخاذها. فإذا وجدت أن المآلآت سلبية وخفت فعلًا وخاصة فيما يتعلق بالظلم عليك أن تجعل بينك وبين الظلم حائلًا وحاجزًا فلا تقترب منه، سدا للذريعة.
(2) نقطة لا فتة للنظر في إعجاز الكلمة في القرآن هنا في الآية الواحدة استعمل ربنا تبارك وتعالى (تقسطوا) في اليتامى وفي قضية إباحة التعدد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) هناك فرق بين القسط والعدل في الاستعمال القرآني في القسمة {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن9]. القسط هو الحظّ والنصيب، نصيب محدد تمامًا. فاستعمال القسط في قضية اليتامى لأن الأمر يتعلق بالأنصبة وبالحقوق المالية لليتيمة، ولكن حين جاء بقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) في قضية إباحة التعدد العدل هنا مساواة في مختلف الأحكام المتعلقة بالزوجتين، إذا تزوج الإنسان من أكثر من زوجه فعليه أن يتحرى العدل في كل شيء وليس في الحقوق المالية فقط، فالوضع هنا مختلف. وهذا يقودنا إلى تأمل آخر.
(3) قول الله -عز وجل-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فواحدة) تحري الإنسان للعدل حين يكون عنده أكثر من امرأة لا يقف فقط عند قضية الحقوق المادية ما يتعلق بسكن ومبيت وما شابه، قضية تحقيق العدالة بمعنى ما يحقق الاستقرار الأُسري للمرأتين وللرجل والأولاد وللأسرة، تحقيق استقرار، حل مشكلة وليس صناعة مشكلة جديدة، نحن نتكلم عن استقرار أُسري، نتكلم عن مقاصد جاء القرآن لتحقيقها. القضية ليست هل تشترط موافقة الزوجة الأولى أم لا تشترط، هل تعلم أم لا تعلم، القضية ليست حكمًا شرعيًا، القضية قضية تحقيق مقاصد الاستقرار، القرآن لا يريد أن يصنع أُسرًا مفككة، وعليه فإننا نقول للرجل: إن كان بإمكانك أن تقيم فعلًا وتفتح بيتًا زوجيًا من خلال الزواج بامرأة أخرى وتحقق فيه استقرارًا، وتحافظ على هذا المستوى من الاستقرار في الأسرة الأولى ومع الزوجة الأولى، وأنت مدرك تمامًا لمهمتك كخليفة على الأرض، ومدرك لحجم المسئولية التي على عاتقك، فافعل، وإلا فواحدة. فقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من تزوج بزوجتين ولم يعدل بينهما يعاقب، روى النسائي بإسناد صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ».
(4) تأمل وتدبر آخر، وهو سؤال: إذا وضعنا إشارة مرور في تقاطع مروري وقلنا للناس لا تتجاوزوا الإشارة الحمراء، ولكن الذي حدث أن هناك أناس يتجاوزون الإشارة الحمراء فتقع الحوادث بناءًا على ذلك، فما الحل؟ هل الحل أن نقوم بإزالة الإشارة؟ أم الحل أن نعود الناس على الالتزام بالقوانين؟ ولله المثل الأعلى، ربنا تبارك وتعالى وضع تشريعا يصلح لكل زمان ومكان إذا التزم به الناس، ولكن للأسف هناك تجاوزات، القرآن جاء ليعالج واقعًا إنسانيًا غير مثالي، هناك طروف هناك ملابسات لبعض المكلفين رجالًأ ونساء، هناك ظروف يمر بها المجتمع بكل فئاته: حروب، أمراض، اختلافات في قضايا معينة تقتضي أن يتزوج الإنسان بامرأة أخرى ولأن القرآن ليس كتابًا جاء يتكلم على مُثُل وإنما جاء ليعالج واقعًا، القرآن جاء من عند الخالق الذي يعلم احتياجات النفس البشرية وما يصلح لها فلذلك أباح هذه القضية في سياق الشروط التي وضعها من العدل والقدرة، ولكن بعض المسلمين يتجاوز هذا الأمر بممارسات غير صحيحة لا يقبل بها الشرع الذي جاء ليحقق العدل وينهى عن الظلم، فهل الحل أننا نلغي هذا التشريع أم أن الحل أننا نفكر في كيفية الترقي بالناس والترقي بالمكلفين رجالًأ ونساء لأجل الخضوع لهذه القيم الربانية؟!
(5) كثير من النساء في زماننا هذا ترى أن الحياة رجل، وهذا تصور خاطئ، الحياة مزرعة توصلنا إلى الآخرة توصلنا إلى رضى الله عز وجلّ، بمعنى آخر على المرأة وعلى الرجل كذلك تحديد الأولويات في الحياة، سلم الأولويات: رضى الله سبحانه وتعالى، الإنسان العاقل رجلًا كان أو امرأة قد يعرض له في طريق الحياة أي شيء لأن هذه الحياة في طبيعتها دار ابتلاء فكل ما يعرض لنا لا ينبغي أن يشكل عائقًا بالنسبة لسيرنا في هذه الحياة، الغاية واضحة، أما الانشغال بكثرة الصغائر والقيل والقال وفعل ولم يفعل وظلم ولم يظلم والدوران في فلك هذه التفاصيل والجزئيات وفي فلك الرجل والزوجة الثانية أو ثالثة أو ما شابه هذا لا يليق بإنسان لديه وقت محدود جدًا ومحسوب عليه بالثانية ولديه مهمة لا بد أن ينفذها على أتم وجه وأحسن طريقة ممكنة يلقى بها الله عز وجلّ، فحديثنا للمرأة: طالما أنه لا يظلمك ولا يمنعك حقوقك فلا ينبغي أن ينغص عليك حياتك هل تزوج أم لم يتزوج. مهما يكن الموقف الذي يمر به الإنسان هو بحاجة إلى زاد الصبر الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتزود به.
(6) بعض المتفلسفين يقول إن القرآن حين أباح التعدد جعله مشروطًا بإمكان العدل، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. ونفى إمكان العدل في آية أخرى من السورة نفسها، وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، فكأنه بمجموع النصين يكون التعدد غير جائز، لانتفاء شرطه. والجواب عن هذه الشبهة ظاهر للعيان، فالعدل في الآية الأولى غير العدل في الآية الثانية، فالمشروط من العدل هو العدل المادي، في المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمبيت. والعدل المنفي هو الميل القلبي وما يتبعه، وهو غير مكلف به، ولا مطالب به لأنه لا يستطيعه وذلك واضح من تكملة الآية، (ولن تستطيعوا أن تعدلوا) تسووا (بين النساء) في المحبة (ولو حرصتم) على ذلك (فلا تميلوا كل الميل) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة (فتذروها) أي تتركوا الممال عنها (كالمعلقة) التي لا هي أيم ولا هي ذات بعل (وإن تصلحوا) بالعدل بالقسم (وتتقوا) الجور (فإن الله كان غفورا) لما في قلبكم من الميل (رحيما) بكم في ذلك. الذي يريد أن يعرف الفارق بين هذين النوعين من العدل في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ينظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه في المبيت حتى مات، روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ. فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا). إذا حتى في مرضه لم يترك العدل بينهن في المبيت إلا بعد أن أذنَّ له. وفي الوقت نفسه يروي لنا الإمام الترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قِيلَ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا». إذا لا يؤاخذ الإنسان على عدم العدل في المحبة لأنها من الله عز وجل. وخرج الحاكم في المستدرك على شرط مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ». يَعْنِى الْقَلْبَ.
https://youtu.be/4ZL9ai2oxzs