تأملات في آيات القيامة في القرآن

د. منصور الصقعوب
1438/08/08 - 2017/05/04 06:05AM
(اللقاء الحق) تأملات في آيات القيامة في القرآن

الخطبة الأولى
يعيشُ الناس في دنياهم غافلون سادرون, كلٌ قد أخذته دنياه, وفي غمرة الحياة, لربما غفلت قلوبُ كثيرٍ من الناس عن الحقيقة, فشغلتها دنياها, وألهاها تكاثرها, وأغفلها إعراضها, بينما تبقى القلوب المتيقظة لا تنسى تلك الحقيقة, فيا ترى أيُ حقيقة هذه؟.
إنها يا كرام حقيقةُ ذلكُمُ اللقاء, الذي عمّا قريب سيأتي, وما غفل قلبٌ عنه إلا حُرِم, وما آمن به أحدٌ واستشعر قربه إلا غَنِم, إنه اللقاء الذي تنساه كثير من القلوب وهو منها قريب, تلهو قلوبهم, وفي الدنيا ينشغلون, ويلهون, وهم في غفلة معرضون, قرر الله ذلكم اللقاء بقوله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)
كم تأخذنا المستجدات, كم تَشْغَلُنا الحوادثُ الجاريات, كم تَصُدّنا هذه عن استشعار قرب ربّ البريات, فدعونا في هذه الخطبة نتذاكر كيف ذكر الله قضية اليوم الآخر في القرآن, علّ القلوب أن تعتبر برقائق القرآن, وأن تتعظ بعظات الرحمن.
معشر الكرام: لقد كان من مقاصد القرآن التذكير بيوم التلاقي (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاقِ...) ولعمري إنه لمقصد عظيم, ما أحرى القلوب إلى تذكّره, لأنها متى ما غفلت آثرت الدنيا على الآخرة, وحق فيهم قول رب العزة (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورائهم يوماً ثقيلاً)
لقد قرر الله في القرآن أن ذلكم اليوم يأتي بغية, سيأتي يومُ الرحيل ويومُ قيام الساعة والناسُ في غفلة, والله أعلم بأي شيء سيكون الناس مشغولين.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)
(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً)(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) نعم, ستأتي بغتة, والناس عنها منشغلون, تقوم الساعة وهذا يصلح حوضه, وهذان يتبايعان –كما في الحديث- فقمنٌ بالموفق أن يكون على أُهبة, فهو ما بين ساعة رحيلٍ بغتة, أو قيام الساعة بغتة.
يا من بدنياه اشتغل وغرّه طول الأمل
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل
يا كرام: ويصوّر القرآنُ مشهدَ ذهولِ الناس من القيام من القبور لرب العالمين فيقول (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)
إنه مشهد الذل والانكسار, يقفه كل ظالم أمام الجبار, ينظر إلى ربه وإلى النار, ذليلاً منكّساً رأسه (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) نظر مسارقة, نظرٌ من طرف خفي, بل إن ثمة وجوهاً في ذلك اليوم تصير كالليل البهيم من الغمّ والهمّ, والحزن والكآبة, وصف المولى وجوههم فقال (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) فهل رأيت وجهاً كالليل, إنك ستراه هناك من ذلّ أقوامٍ, فرحماك يا ربنا رحماك.
أخبر ربنا أن الناس سيطول في ذلك الموقف مكثهم, وينتظرون ربهم ليفصل بينهم, في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة, فإذا أذن ربنا بالقضاء, جاء ربك والملك صفاً صفاً, فبدأت الملائكة تتوافد, تباعاً تباعاً, حتى تُحيط بالعباد فلا مناص ولا مهرب, ثم يجيءُ المولى سبحانه للقضاء بين العباد, فلا تسل حينها عن هيبة المكان, ورهبة الموقف, عندها سترون قلوباً من شدة الخفقان ستبلغ الحناجر هلعاً وفزعاً (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ), الأفئدة هواء, والأصوات قد خشعت للرحمن فلا تسمع إلا همساً, الجميع مطرق لعظمة العظيم سبحانه, والوجوه كلها عنت للرحمن, وقد خاب من حمل ظلماً.
يا مؤمنون: من هول الموقف هناك سترون الأمم تجثوا على الركب (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ* وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً* كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا* الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
في ساحة العرض الهائلة، تجتمع الأجيال الحاشدة, التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير, وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة, في ارتقاب الحساب المرهوب, إنه مشهد مهيب, مهيبٌ بجمعه, حيث تتجمع فيه الأمم كلها في صعيد واحد, ومهيبٌ بهيئة الناس فيه حيث الكل جاثون على الركب.
ومهيبٌ بما وراءه من حساب, ومهيبٌ قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر، والمنعم المتفضل، الذي لم تُشكر أنعمه ولم تُعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين!
ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة, وقد وجلت قلوبهم وطال انتظارهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيعلمون حينها أنْ لا شيء سيُنسى أو يضيع! وكيف وكل شيء مكتوب, وعِلم الله لا يندّ عنه شيء ولا يغيب؟! ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة، على مدى الأجيال واختلاف الأجناس فريقين اثنين, فريقين اثنين يجمعان كل هذه الحشود: الذين آمنوا, والذين كفروا, فهاتان هما الرايتان الوحيدتان, وهما الحزبان: حزب الله, وحزب الشيطان.
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» ..
قد استراحوا من طول الارتقاب، ومن القلق والاضطراب, وأما الفريق الآخر فلهم التأنيب الطويل، والتشهير المخجل، والتذكير بشرّ الأقوال والأعمال, حيث قال «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَإِذا قِيلَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» ! فالآن كيف ترون الحال؟! وكيف تذوقون اليقين؟!
ثم يقول ربنا بعدها معلناً على الملأ شيئاً مما يقع لهؤلاء (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)
ثم يعود إليهم بالترذيل والتأنيب وإعلان الإهمال والتحقير والمصير الأليم (وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. وَمَأْواكُمُ النَّارُ. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)
ثم يختم الحديث بإعلان مصيرهم الأخير, وهم متروكون في جهنم لا يخرجون ولا يطلب إليهم اعتذار ولا عتاب «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ..
فتغلق الأبواب, وتوصد المغاليق, وتقفل على أهلها, فما أعسره حينها عليهم من يوم, وما أعظمه من موقف.
اللهم ارحمنا برحمتك, واسترنا يوم العرض عليك
الخطبة الثانية:
عباد الله: في يوم القيامة أخبر ربنا سبحانه أن الموازينَ ستتغير, اليوم ربما اختلّت الموازين, فرُفِع الأسافل, وذلّ الرفيع, اليوم ربما كِيل المديحُ لمن يستحق القدح, وذُمّ من هو أهلٌ للمدح, اليوم ربما رأيت التقي يَقُمّ الطُرقات, والشقيَ يصدّر في المحافل, ويصوِّر معه الأسافل, اليوم ربما رأيت الرجولة تُنسب لمن لا يستحقها, لا ديناً, ولا أخلاقاً, في حين أن الرجال الحقيقين على الحدود والمعارك لا يوسمون بذلك, كل هذا هنا, أما هناك فستستقيم الموازين, فالرفيع اليوم ربما كان هناك وضيعاً, بينما وضيع اليوم ربما كان هناك في أعلى مراتب الرفعة, لا عجب فقد قال ربنا عن القيامة أنها ( خافضة رافعة), فموفق من كانت الآخرة رافعته, ومخذولٌ من كانت الآخرة خافضته.
الرفعة هناك ستكون بما عملت هنا, صلواتك, صدقاتك, أعمالك, علاقتك بخالقك, ترفعك عند خالقك, والرفعة هناك مختلفة, إنها رفعة ليس بعدها انخفاض, وعز ليس من وراءه ذلّ, فاللهم ارفعنا عندك وارزقنا أعالي جنتك
يا مؤمنون: في يوم القيامة سيأتي كل امرئ بما عمل, سيجازى كل أحد بما قدّم, البخيل الذي شح بالزكاة سيطوق بما بخل (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الغال من أموال المسلمين, الآخذ من بيت مالهم, المتلاعب بميزانياتهم, الموظف الغاش لأمانتهم سيأتي بما أخذ هناك (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
الذين يكذبون اليوم على الناس في وعودهم, وأقوالهم ما ظنهم حين يقفون عند رب الناس (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
ولئن وجد المتلاعبون اليوم من يجادل عنهم, لئن وجد المفسدون اليوم من يبجلهم, وبحسن المقال يذكرهم, ويدافع عنهم, ففي القيامة لن يجادل أحدٌ عن أحد, فاستعد لأن تجد لأعمالك جواباً, وتحرّ أن يكون الجواب صواباً (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
يا كرام: اليوم ربما رأيتم الكفار والمنافقين يسخرون من المؤمنين, يلمزونهم بتمسكهم, يتندرون بهم على ما هم عليه من تدين, إلا أن الغد سيكون مختلفاً, سيضحك المؤمنون, وهم على الأرائك متكئون (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)) فما أروعه من منقلب, وما أحلاه من مجلس, على المؤمنين.
وبعد يا كرام: فهذه نتف يسيرة, من ذكر القرآن ليوم القيامة, اليوم الذي غفلنا عنه وانشغلنا, اليوم الذي سمى الله به في القرآن عدة سور, القارعة, الحاقة, القيامة, الواقعة, الحشر, التغابن, التكوير, الانفطار, الانشقاق, الزلزلة, وغيرها, فقمن بمن خاف مقام ربه, وطمع في ثواب مولاه أن يكون ذلكم اليوم منه على بال, وأن يتذكره على كل حال, وكذا كان نبينا عليه السلام, كانت الشدائد تذكره الآخرة, كان نعيم الدنيا يذكّره نعيم الجنة, ولا عجب فهي الدار الباقية, ولقد قال العلي الأعلى ( بل تؤثرن الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى ) اللهم أحي قلوبنا من الغفلة, وارزقنا الاستعداد ليوم النُقلة.
المشاهدات 1355 | التعليقات 0