تأخر نزول الغيث

أسامة محمد موسى
1438/02/03 - 2016/11/03 06:48AM
تأخر نزول الغيث

أيها الإخوة الفضلاء ..
إن المؤمن الصادق الذي تشرّف بالعبودية لله دون أحدٍ سواه ليتفكّر في نِعَم الله الخارجةِ من الأرضِ والنازلةِ من السماء ليشكُره عليها ويزيدَ قرباً من بارئه ومولاه، وكما أنه يتفكّر في النّعم الحاصلة فإنه يتفكّر أيضاً في النعم المنحبسة وسبب انحباسِها .. ولا شكّ أنه قد حُبست وتأخرت عنا نعمةٌ من نعَم الله ورحمةٌ من رحماتِه، وهي الأمطارُ التي تغيث العباد وتُبهجُ المخلوقات وتخضرّ بها الأرض .. وهي رحمةٌ من رحماتِ الله كما قال الله: "وهو الذي ينزّل الغيثَ من بعد ما قنطوا وينشرُ رحمتَه" فالمسلمُ يتفكّرُ في سببِ انحباسِ هذه الرحمة، وانقطاعِ هذه النعمة..
عبادَ الله .. إنه لا شكّ ولا ريب أن ذنوب العبادِ سببٌ رئيس لكلّ نقصٍ حاصلٍ في الخيرات والأموال والأحوال والأبدن والممتلكات، فاللهُ جل وعلا يقول: "وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ" وقال تعالى: "ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فهذه قاعدةٌ عامةٌ يجب على كلّ مؤمنٍ أن يتفكّر بها على الدوام، فكلما تعرّض الناسُ للبلاء ونقص النِّعم فهو ليس نقصاً في جودِ الباري جلّ شأنُه وعظُم عطاؤه وفضلُه إنما ليتذكروا قول الله: "فبما كسبت أيديكم" وقد أُثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قولُه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، وقال تعالى:"وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون"
وإذا أردتُم أن تعرفوا التشخيصَ الدقيقَ لبعض الذنوبِ الخاصّة التي تمنَع نزول المطرِ من السماء، فتدبّروا معي جيداً قولَ الذي لا ينطقُ عن الهوى في وصفِ تلك الذنوب التي غرقَ الناسُ بها -والعياذُ بالله- ، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "يا معشرَ المهاجرين! خمسُ خِصالٍ إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذُ باللهِ أن تدركوهنَّ: لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعلِنوا بها إلَّا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضت في أسلافِهم الَّذين مضَوْا، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعوا القطْرَ من السَّماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم يَنقُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلَّا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا من غيرِهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُمْ أئمَّتُهم بكتابِ اللهِ تعالَى ويتخيَّروا فيما أنزل اللهُ إلَّا جعل اللهُ بأسَهم بينهم" يالهُ من وصفٍ لا يخرجُ إلا من فمِ نبي! إنها كلماتُ النبوة، التي تضعُ اليد برحمةٍ على الداء، وتشخّصُ بعصمةٍ الدواء..
وحتى نتعرّف على داءِنا في تأخر المطَر، فقد جاء في هذا الحديث أمران يمتنعُ بهما القطرُ من السماء, و يحصل الجدب والقحط في الأرض: أولُهما في قوله ﷺ : "ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم" تطفيف الموازين، فإن كان الأمر له استوفى حقَّهُ بالكامل، وإن كان الأمرُ لغيرِهِ بخسَهُ حقَّه.. فيا معشرَ التُّجار! إنكُم بغشّكم وجشعكُم تمنعونَ عنا القطرَ من السماء، إنكم بتلاعُبكم تحرمون الأمة من رحمةِ الله، فهذا ليسَ معصيةً فردية إنما يجبُ أن نأخذ على أيديكم بكلّ ما أوتينا من وسائل وقوة، فاتقوا الله في عبادِ الله، ارحموا مَن في الأرض ليرحمَنا جميعاً مَن في السماء..
وأما الأمرُ الثاني –أيها الإخوة- الذي يمتنعُ بسببهِ المطر فهو قول رسول الله: " ولم يمنَعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعوا القطْرَ من السَّماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا" يا الله! إنه لأمرٌ مهول، فالجزاءُ من جنسِ العمل، والمنعُ بالمنع، فمن منعَ زكاةَ مالِه مُنعَ عنهُ المطر ولم يُمنح هذا المطر إلا بسببِ البهائم .. اللهم إنا نعوذ بك من الهوان! كم تضخمت الأموالُ في أيدي بعضِ الناس، وكم منعوا الزكاة الواجبةَ التي هي ليست من حقهم بل هي "حقٌ معلوم، للسائل والمحروم" فيا من تبخلون بإخراجِ زكاةِ مالِكُم، ويا من تتكاسلون عن حسابِ هذه الفريضةِ الواجبة، إنكم بمنعِكُم الفقراء والمحرومين منها تمنعون عنا المطرَ من السماء ..
معاشر الإخوة الفضلاء.. ثمّ إن الله أرشدنا عند احتباس المطر إلى علاجٍ نافع، به يستنزلُ الغيثُ مدراراً من السماء، ألا وهو الاستغفار، فكما أن الذنوبَ عامةً وتطفيفَ الكيل ومنعَ الزكاةِ خاصةً سببٌ للقحط والجدب فإن الاستغفار العامّ للناس من الذنوبِ التي منعت المطر سببٌ لرحمةِ الله العامةِ للعباد، فقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ"
فالإكثار من الاستغفار والتوبة سبب لنزول المطر، وقال سبحانه: ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع وأدَرّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وتتخللها الأنهار الجارية.
أيها الأفاضل.. وإن من أسبابِ نزولِ المطرِ بعد الانقطاعِ، التضرّع إلى الله بالدعاء من عباده الصالحين، وأولياءه المتقين فهو الذي "يجيب المضطر إذا دعاهُ ويكشفُ السوء"
فهذا إمامُ الأنبياء, وخيرُ الأتقياء, محمدٌ صلى الله عليه وسلم, يدْخَلُ عليه رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وهو قَائِمٌ يَخْطُبُ, فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَقَالَ له: يَا رَسُولَ اللهِ, هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ, فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا, فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا, اللَّهُمَّ اسْقِنَا, اللَّهُمَّ اسْقِنَا, قَالَ أَنَسُ بن مالك رضي الله عنه: وَلَا وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا قَالَ: فَطَلَعَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ, فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ, قَالَ: فمَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ ستّةَ أيّام, ثُمَّ دَخَلَ الرَّجُل فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ, وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ, فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ, فَادْعُ اللهَ أَنْ يُمْسِكَهَا, قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا, اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ, وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ, وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ" قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
إنهُ الله الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء، ولْنتأمل في حال الصالحين المخلصين, وكيف أنَّ الله تعالى يجيب دعاءهم, ويكشف ضرّهم.
فقد خرج الناس يستسقون، وفيهم بلال بن سعد رحمه الله فقال: يا أيها الناس ألستم تقرون بالإساءة؟ قالوا: نعم! قال: اللهم إنك قلت: (ما على المحسنين من سبيل), وكلٌّ يقر لك بالإساءة فاغفر لنا واسقنا, فسقوا وأُمطروا.
وصدق الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
بل إنَّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه. قال محمد بن المنكدر رحمه الله: كانت لي سارية في مسجد رسول الله ﷺ أجلس أصلّي إليها بالليل، فقَحط أهل المدينة سنة، فخرجوا يستسقون فلم يُسقَوْا، فلما كان من الليل صلّيتُ العشاء في مسجد رسول الله , ثم جئت فتساندتُّ إلى ساريتي، فجاء رجلٌ أسودُ فقير, يعمل بإصْلاِح الْأَحْذِيَة, فتقدم إلى السارية التي بين يديّ وكنتُ خلفه، ولم يرني, فقام فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: أيْ ربّ, خرج أهلُ حَرمِ نَبِيِّك يَسْتَسْقُون فلم تَسقهم، ويسألونك فلم تُعطهم, فأنا أُقسم عليك لَمَا سقَيتهم.
قال ابن المنكدر: فقلت: والله مجنون, كيف يقسم على الله تعالى؟!. قال: فمَا وضع يده حتى سمعتُ الرعد، ثم جاءت السماء بالمطر, فلما خرجتُ من المسجد جعلت أخوض بالماء.
ألم نذكُر قبل ذلك هُنا قول رسول الله: "ألا أخبركم بخيرِ عبادِ اللهِ ؟ الضعيفُ المستضْعَفُ ، ذو الطِّمرَينِ ، لايُؤبَه له ، لو أقسمَ على اللهِ لأَبَرَّه" من الذي يفْزعُ إليه المكروبُ ، ويستغيثُ به المنكوبُ ، وتَصْمُدُ إليه الكائناتُ ، وتسألهُ المخلوقاتُ ، وتلهجُ بذكِرِه الألسُنُ وتُؤَلِّهُهُ القلوب؟ إنه اللهُ لا إله إلاَّ هو.
اللهم إنا نسألُك من فضلك ورحمتِك التي لا يملكُها إلا أنت أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها الفضلاء .. يقول الحقّ جل وعلا: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ" فبركاتُ السماءِ والأرضِ مرتبطةٌ بتقوى الله جل وعلا، فاتقوا الله يا عبادَ الله في مطاعِمِكُم ومشارِبكم فلا تدخلوا أجوافكم إلا حلالاً طيباً، واتقوا الله في أبنائكم، واتقوا اللهَ في أنفسِكم
نحن ندعو الإله في كلّ كربٍ ... ثم ننساه عند كشف الكروبِ
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ ... قد سددنا طريقها بالذنوبِ
ثم اعلموا يا عباد الله أنه قد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الاستسقاء عند احتباس المطر وذلك بالصلاة والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه: منها أنه استسقى يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته. ومنها أنه وعد الناس يوماً يخرجون فيه إلى المصلى، فصلى بالناس ركعتين وخطب ودعا، مما يدل على أنه مطلوب من المسلمين جميعاً عند امتناع المطر أن يحاسبوا أنفسهم ويتوبوا إلى ربهم، لأن ذلك بسبب ذنوبهم
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً, هنيئاً مريئاً، سحاً طبقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل, تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
المشاهدات 1340 | التعليقات 0