تأثير القرآن في أعدائه وخصومه

د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/02/09 - 2017/10/29 15:27PM
تأثير القرآن في أعدائه وخصومه
د. محمود بن أحمد الدوسري

29/4/1438              

      الحمد لله ... بلغ تأثير القرآن العظيم مبلغاً خرق به العادة المعهودة من تأثير الكلام في النُّفوس، واستيلائه على قلوب المخاطَبين استيلاءً كالقهر وما هو بالقهر، وفعله في قلوبهم كالسِّحر وما هو بالسِّحر، لا يختصُّ ذلك بالأنصار دون الخصوم، ولا بمحالفيه دون مخالفيه، ولقد أثَّر في الأعداء كما أثَّر في الأتباع.  إخوتي الكرام .. وحديثنا اليوم عن تأثير القرآن في أعدائه وخصومه, ومن ذلك:

      1- تأثُّر عتبة بن ربيعة بالقرآن:
      عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: اجتمعتْ قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلَمَكُم بالسِّحر والكهانة والشِّعر، فليأتِ هذا الرَّجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلِّمْه ولينظرْ ماذا يردُّ عليه.
      - فجاءه عُتبة بن ربيعة(1) وكلَّمه كلاماً طويلاً، حتَّى إذا فرغ عتبة، قال له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «فَرَغْتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 1-5] .
      واستمرَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ حتَّى بلغ قولَه تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .
     فأمسكَ عُتبة على فيه، وناشده الرَّحم أن يكفَّ عنه، ثم قام عُتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
       - وكان فيما قال لهم عُتبة بن ربيعة: يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرَّجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ نبأ... قالوا: سَحَرَكَ واللهِ يا أبا الوليد بلسانه(2).
       معشر الفضلاء .. هكذا كان أثر سماع القرآن في أعدائه يُعتبر مفاجأة مذهلة، لم تعتدها آذانُهم ولا عقولُهم، ولم يعهدوا في ثقافتهم مثل هذا الخطاب الذي فاق ـ في بلاغته وتأثيره - كلَّ ما سمعته آذانهم من قبل - شعراً كان أو نثراً.
       ومن تأثير القرآن العظيم في أعدائه وخصومه:
       2- تأثُّر زعماء المشركين بالقرآن:
      زعماء المشركين مع عنادهم كان يُسارق بعضُهم بعضاً، فربَّما خرج أحدُهم في جُنْح اللَّيل المظلم ما يُخرجه إلاَّ استيلاء القرآن على مشاعره، يبحث عَمَّن يتلو القرآن في هدأة اللَّيل، وقد أرخى سدوله؛ فهذا أبو سفيان ابن حرب، وأبو جهل بن هشام، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة؛ ليستمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلِّي من اللَّيل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتَّى إذا طلع الفجر تفرَّقوا، فجمعهم الطَّريق فتلاوموا، وقال بعضُهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثمَّ انصرفوا... وحصل في اللَّيلة الثَّانية ما حصل في الأُولى... وحين التقوا في اللَّيلة الثَّالثة، قال بعضُهم لبعض: لا نبرح حتَّى نتعاهدَ ألاَّ نعود، فتعاهدوا على ذلك ثمَّ تفرَّقوا.
      أيها الأحبة .. هكذا كان تأثير القرآن في الأعداء، يخلع منهم القلوب، فيطير النَّوم من عيونهم، ويبحثون عن سكن لها حتَّى إذا ما وجدوه وكادوا أن يستكينوا له أخذتهم العزَّة بالإثم، فارتدُّوا على أدبارهم ما يمنعهم إلاَّ العناد.
      ولهذا حين سأل الأخنس أبا جهل عن رأيه فيما سمعه من النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ماذا سمعت!! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرفَ، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتَّى إذا تجاذبنا على الرُّكب وكنَّا كفرسَي رهان، قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوَحْي من السَّماء، فمتى نُدرك مثل هذه!! والله لا نؤمن أبداً ولا نصدِّقه(3). هكذا العناد والحسد يُوصل صاحبه إلى نار جهنم وبئس المصير.
      ومن تأثير القرآن العزيز في خصومه:
      3- تأثُّر الطُّفيل بن عَمْروٍ بالقرآن:
     تحكي لنا كتب السِّيرة قصَّةَ رجل من اليمن من قبيلة دَوس قَدِم مكَّة في العام الحادي عشر من النبَّوة، ألا وهو الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي رضي الله عنه، فاستقبله أهل مكَّة قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجلَّ تحيَّة وأكرم تقدير، وقالوا له: «إنَّك قَدِمْتَ بلادنا، وإنَّ هذا الرَّجلَ - وهو الذي بين أظهرنا - فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسِّحر يُفَرِّقُ بين المرءِ وابنه، وبينَ المرء وأخيه، وبين المرءِ وزوجه، وإنما نخشى عليكَ وعلى قومك ما قد حلَّ علينا، فلا تُكَلِّمْه، ولا تَسْمَعْ منه، قال: فواللهِ ما زالُوا بي، حتَّى أجمعتُ ألاَّ أسمعَ منه شيئاً، ولا أُكَلِّمَه حتَّى حشوتُ في أذنيَّ - حين غدوتُ إلى المسجد - كُرْسُفاً؛ فَرَقاً من أن يَبْلُغَني شيءٌ من قوله. قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم قائمٌ يُصلِّي عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُسمِعَني بعضَ قوله، فسمعتُ كلاماً حَسَناً، فقلتُ في نفسي: واثكل أمِّياه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يَخفى عليَّ الحَسَنُ من القبيح، فما يمنعُني أن أسمع من هذا الرَّجل ما يقول؟ فإن كان ما يقولُ حَسَناً، قبلتُ، وإن كان قبيحاً، تركتُ. قال: فمكثتُ حتَّى انصرف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، فتبعتُه حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ: يا محمد! إنَّ قومَك قد قالُوا لي: كذا وكذا، فَواللهِ ما بَرِحُوا يُخوِّفوني أمرَك حتَّى سددتُ أذنيَّ بِكُرْسُفٍ لئلاَّ أسمعَ قولَك، ثمَّ أبى الله إلاَّ أن يُسمِعَنيه، فسمعتُ قولاً حَسناً، فاعرضْ عليَّ أمرك، فعرضَ عليَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلامَ، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه، ولا أمراً أعدلَ منه، فأسملتُ، وشهدتُ شهادةَ الحقِّ»(4).
 
الخطبة الثانية
       الحمد لله ... ومن تأثير القرآن المجيد في خصومه وأعدائه:
       4- تأثُّر جُبير بن مُطعَم بالقرآن:
      عن جُبير بن مُطعَم رضي الله عنه، قال: «سَمِعْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ  * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35-37] . كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيْرَ»(5). قال ابن كثير رحمه الله: «وكان جُبَيرٌ - لمَّا سمع هذا - بعدُ مشركاً على دين قومه، وإنَّما كان قَدِمَ في فداء الأُسارى بعد بدر، وناهيك بمن تُؤَثِّرُ قراءتُه في المشرك المِصرِّ على الكفر، فكان هذا سبب هدايته، ولهذا كان أحسن القراءات   ما كان عن خشوعٍ من القلب»(6).
       ومن تأثير القرآن الكريم في خصومه وأعدائه:
       5- حادثة سجود المشركين مع المسلمين:
       أيها المسلمون .. إذا كنَّا قد عرضنا لأثر القرآن على أعدائه في صور فردية، تصدر عن أفراد بعينهم، فليس أبلغ ولا أعمق في الدَّلالة على مدى أثر القرآن على سامعيه من أعدائه من تلك الصُّورة الجماعيَّة، حيث ضرب لنا كفَّار قريش مثلاً واقعيّاً يبيِّن أثر القرآن العظيم على قلوبهم - رغم كفرهم - فلم يتمالكوا أنفسهم عندما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «النَّجم» وسجد، فسجدوا وهم مشركون، وهم يمارون في الوَحْي والقرآن، وهم يجادلون في الله ورسوله، وإنَّما سجدوا تحت وطأة القرآن، وسلطانه على الكون كلِّه.
فعن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «سَجَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بالنَّجْمِ، وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمونَ والمُشْرِكُونَ، والجِنُّ والإنْسُ»(7).
       6- تأثُّر أهل المدينة بالقرآن:
       صدق القائلون: «فُتحت الأمصار بالسِّيوف، وفُتحت المدينة بالقرآن»(8), فقد كان القرآن الكريم هو السِّلاح الحاسم في تحويل أهل المدينة - خزرجِهم وأوسِهم - من الشِّرك والوثنيَّة إلى الإسلام والقرآن.
      ففي بيعة العقبة الأُولى دار هذا الحوار بين النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ونفر من خزرج المدينة - وكانوا ستَّة نفر: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج. قال: «من موالي اليهود؟» - أي: حلفائهم - قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلِّمكم؟» قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا وصدَّقوا(9).
      وبعد ذلك أرسل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مصعبَ بنَ عميرٍ، وعبدَ اللهِ ابنَ أمِّ مكتومٍ رضي الله عنهما إلى المدينة؛ ليعلِّما النَّاسَ القرآن(10).
       الدعاء ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، كان من عتاة المشركين، وأشدِّهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى                  المؤمنين حرباً وإيذاء، كان مِمَّن دعا عليهم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بأعيانهم. انظر: البداية والنِّهاية (3/273).

(2) انظر: دلائل النُّبوة، لإسماعيل بن محمد الفضل التَّيمي الأصبهاني (2/220-222) (رقم 258)؛ ومسند أبي يعلى (3/350) (رقم 1818)؛ ومصنَّف            ابن أبي شيبة (3307) (رقم 36560). وقال عنه الهيثمي في «مجمع الزَّوائد» (6/20): «رواه أبو يعلى، وفيه الأجلح الكندي، وثَّقَهُ ابنُ معين            وغيره، وضعَّفه النسائي وغيره، وبقيَّة رجاله ثقات». وفي رواية أُخرى: أن الذي سمع من النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم سورة فُصِّلت وَحَدَثت        معه هذه القصَّة هو الوليد بن المغيرة. انظر: تفسير الطَّبري (28/155-157)؛ الدُّر المنثور (7/308).

(3) انظر: سيرة ابن إسحاق (4/169)؛ والسِّيرة النَّبوية، لابن هشام (2/157)؛ ودلائل النُّبوة (2/206)؛ الدُّر المنثور (5/299)؛ وتفسير ابن كثير (3/45)؛          والجواب الصَّحيح لمن بدَّل دين المسيح، لابن تيميَّة (5/379)؛ والخصائص الكبرى، للسُّيوطي (1/192).

(4) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/624 ـ 625). وانظر: السيِّرة النبوية، لابن هشام (2/226)؛ ودلائل النبوة، للبيهقي (5/360)؛ ودلائل النبوة،                  للأصبهاني (1/212)؛ وتاريخ مدينة دمشق (25/13)؛ والبداية والنهاية (3/99).

(5) رواه البخاري، كتاب التَّفسير، باب: سورة الطُّور (6/58) (ح 4854).

(6) فضائل القرآن, (ص 194).

(7) رواه البخاري، كتاب التَّفسير، باب: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}, (3/1545), (ح 4862).

(8) الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى, (1/217).

(9) انظر: السِّيرة النبوية، لابن هشام (2/277)؛ دلائل النبوة، للبيهقي (2/434)؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/220)؛ تاريخ الإسلام، للذَّهبي            (1/290)؛ صفة الصَّفوة، لابن الجوزي (1/120).

(10) انظر: السِّيرة النبوية، لابن هشام (2/434)؛ الكامل في التَّاريخ، لابن الأثير (2/67)؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/260).

 

 

 

المرفقات

القرآن-في-أعدائه-وخصومه

القرآن-في-أعدائه-وخصومه

المشاهدات 1179 | التعليقات 0