بُيُوتُ الرَّحْمَة

                                                   بُيُوتُ الرَّحْمَة

                                                1440/2/3هــ

                                                 الخطبة الأولى

أمَّا بعد:

كانتْ مناقبُه أكثرَ منْ أنْ تُحصَى، وفضائلُه أربى منْ أنْ تُعَدّ، فهو أحدُ السابقينَ إلى الإسلام، وأحدُ العشرةِ المبشرينَ بالجنَّة، وصاحبُ بئرِ رُومَة، ومُجَهِّزُ جيشِ العُسْرَة، بيدَ أنَّه رضيَ اللهُ عنهُ كدّرَ عليهِ صفوَ هذه المناقبِ غيابُه عنْ حضورِ أعظمِ مشاهدِ الإسلامِ، كانَ قلبُه يحترقُ ألمًا وأسى على غيابِه، كيفَ وقدْ اطلعَ اللهُ على أهل بدرٍ فغفرَ لهم، كيفَ وشهودُ بدرٍ صارَ في الناسٍ منقبةً تذكرُ، وفضيلةً تُشكر، لكنَّه تغيَّبَ عنها لعذرٍ عظيم، وهو تمريضُه لزوجِه بنتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمْ فلمَّا عَلِمَ منه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُزنَه على تخلفِه عن غزوةِ بدر، بشَّره قائلًا: (إنَّ لك أجرَ رجلٍ ممَّن شهدَ بدرًا وسهمَه) رواه البخاريُّ.

وكَمَا كانَ في هذه البشارةِ النبويةِ مسلاةٌ لعثمانَ رضيَ اللهُ عنه فإنَّها بشرى لكلِّ قائمٍ على مريضٍ يشاطره لحظاتِ الألمِ، ويقاسمه آهاتِ المرض:

                         نبّئْتُ أنّك معتلٌّ فقلتُ لهمْ

                                                     نَفْسِي الفِدَاءُ لَهُ منْ كلِّ مَحْذُورِ

                         يَا لَيْتَ عِلّتَه بي غيرَ أنَّ لَه

                                                       أجرَ العَلِيلِ وأنِّي غيرُ مأجُورِ!

أيُّها الفُضَلاء:

ليسَ المرضُ ابتلاءً للمريضِ فحسْب، بلْ إنَّه امتحانٌ يمتدُ ليشملَ ذويه وأهلِه، فوالدُك الذي يرقدُ على السرير، أو أمُّك الَّتي أضناها المرض، أو ابنُك الذي تقطعَ قلبُك لأناتِه، أو ابنتُك التي تهشَّمَ قلبُك لبكائِها، أو زوجتُك التي أضحتْ طريحةَ الفراش= اختبارٌ لإيمانِك أيُّها الصابر، وامتحانٌ لوفائِك وعهدِك، ومسبارٌ كاشفٌ عنْ صدقِ المحبةِ والوفاء، فما أسهلَ ادعاءَ الحبِ في أيامِ الرخاء، وما أصعبَها في أيامِ الضراء.

أيُّها الكَرِيم!

لئن ابتليَ قريبَك بالمرضِ فقدْ ابتليتَ بالصحة، ولئن ابتلىَ حبيبَك بالضعف، فقد ابتليتَ بالقوة: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ].

أخي المبارك!

استلامُك لتقريرِ مريضِك لا يعني شهادةُ الوفاةِ لبيتِك، وإعلانُ الحزنِ لذويك، بل هو ابتلاءٌ لك، ونجاحُك فيه مرقاةٌ لنجاحِك في امتحانِ الرخاء، ولكَ في عروةَ بن الزبيرِ أسوةٌ حين بُتِرت رجلُه وفقدَ ابنُه، فقال حامدًا شاكرًا: (لَئِنِ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ، وَلَئِنْ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ).

وهو كذلك اختبارٌ حقيقيٌ لحسنِ العهد، والحياةُ شوكٌ وورد، ومنْ سره زمنٌ ساءَته أزمان، ودوامُ الحالِ منَ المحال، وليسَ منْ أخلاقِ الرجالِ ومروءةِ الصالحين أنْ ينعمَ الرجلُ بزوجِه في صحتِها ويتبرمَ بها عندَ مرضِها، وليسَ منْ خلقِ الصالحاتِ أنْ تسعدَ مع زوجِها شابًا صحيحَ البدنِ وتضيقَ به ذرعًا إذا داهمَه المرض، وأوجبُ منْ صبرِ الأزواج، صبرُ الابنِ على مرضِ والديه، وصبرِ الوالدين على مرضِ أبنائِهم، وبحسبِ القرابةِ يعظمُ حقُّ المريض، وكلَّما عظمَ الحقُّ= تأكَّدَ الصبر، وتحتَّمتِ الإعانة، وتعيَّنتِ الخدمة.

يا من ابتليتَ بمريض!

إياكَ إياكَ والتضجرَ منه؛ أو ملله فإنَّك لا تدري منْ أيِّ الأبوابِ تغشاكَ رحمةُ الله، فلربَّما هذا المريضُ هو بابُ النجاةِ لكَ وأنتَ لا تدري، حَدَّثَ أَبُو بَكْر الورَّاق، قَالَ: كَانَتْ لي بنتٌ مُبتلاة، وكَانَ لَهَا نحو عَشرِ سنين، قالَ: وكنتُ أتمنَّى موتَها فماتت، قال: فأُرِيتُها فِي النوم، وكأنَّ القيامةَ قدْ قامت، وكأنَّ صبيانًا يأخذونَ بأيدي آبائِهم فَيدخلونَهُم الجنَّة، قال: فقلتُ لبنتي: خُذِي بيدِي أدخليني الجنَّة، فقالتْ لي: لَا..! أنتَ كنتَ تتمنَّى موتي!

أيُّها القائمونَ على المرضى:

وأشدُّ منَ ألمِ الجراحاتِ وتتابعِ المواعيدِ على المريضِ هوَ ضجرُ أهلِه وذويه، وتملُّلهم إيَّاه، وإحساسُه بأنَّه غدا عبئًا على أهلِه، يصدِّقُ ظنَّه صفحاتُ وجوهِهم، ونظراتُ عيونِهم، وفلتاتُ ألسنتِهم، ولهذَا عظمتْ وصيةُ اللهِ بالوالدين عندَ كبرِهما: [إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا] حيثُ مظنةُ الوهنِ والمرض، وقدْ كانَ لجابرَ بن زيدٍ رحمه الله ابنةٌ مكفوفةٌ، فما سُمعَ قط يتمنَّى موتَها، يحتسبُ فيها.

ولئنْ عظمَ أجرُ صبرِ المريضِ على مرضِه، فلأجرُكم على خدمتِه وراحتِه= فضيلة! ذلك أنَّ صبَره أقربُ إلى صبرِ الاضطرار، وصبرُكم أقرب إلى صبرِ الاختيار.

إنَّ هذا المريضَ الذي يتأوّه يا عبادَ الله، هوَ بابُ رحمةٍ فتحَها اللهُ لك، وخيراتُه عليكَ جامعة، وبركتُه نافعة، ودعاؤُه مجابٌ بإذنِ الله، رَوَى ابنُ ماجه في سننِه من حديثِ عمرَ رضيَ اللهُ عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم:  «إذَا دخلتَ على مريضٍ فمرْه فليدعُ لكَ فإنَّ دعاءَه كدعاءِ الملائكة»، ولـمَّا صحَّحَ النوويُّ إسنادَ هذا الحديثِ قال: (يستحبُّ طلبُ الدعاءِ منَ المريض).

فأبشرْ بالرحمةِ يا من ضممتَ في بيتِكَ مريضًا، فالراحمونَ يرحمهم الرحمن، ومنْ كانَ في عونِ أخيه كانَ اللهُ في عونِه، ومنْ فرجَ عنْ مؤمنٍ كربةً منْ كربِ الدنيا فرجَ اللهُ عنه منْ كربِ يومِ القيامة، وكلُّ هذه الأجورِ يا أهل المرضى حاصلةٌ لكم فقرُّوا عينًا بها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157).

                                                  الخطبة الثانية

أمَّا بعد، أيها الأولياء:

أبوابٌ كثيرةٌ من الخيرِ فُتحت عليكم، وبشائرُ متنوعةٌ خصَّكم اللهُ بها، فطيبُوا نفسًا بمريضِكم، ولقدْ حفظَ اللهُ تعالى للصالحةِ امرأة أيوبَ عليهِ السلام إحسانَها العظيمَ لزوجِها في مرضِه، فنوَّه بها في كتابِه، وحَفِظَ معروفَها، وسطَّر قصتَها.

أيُّها القائمونَ على شؤونِ المرضى!

إنَّكم بصبرِكم واحتسابِكم، وإعانتِكم لذويكم تسطرونَ أروعَ ملحمةٍ في البرِ والوفاء، وإنَّ محنتَكم بمريضِكم مبطنةٌ بمنح، ومتدثرةٌ بهباتٍ وعطايا، وها هنَا بشاراتٌ متنوعة، وأحاديثٌ مشوقة، تسليكم وترفعُ من همتكم، وتطيبُ نفوسَكم.

فأولُ هذه البشائرِ أنَّ تمريضَكم وقيامَكم بحقوقِ المريض= إحسانٌ لا يضيع، واللهُ يحبُّ المحسنين واللهُ لا يضيعُ أجرَ المحسنين، ومنْ أحسنَ للناسِ= أحسنَ اللهُ إليه ورزقَه محبته ورحمته: [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ].

ومن البشائرِ أن ما عندَ اللهِ من الثوابِ لأهل البلاءِ في الآخرة، ما يغبطُهم أهلُ العافيةِ عليه، روى الإمامُ الترمذيُّ في جامعِه منْ طريقِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ)، وحسَّن إسنادَه الإمامُ الألباني.

ومنَ البشائرِ أنَّ خدمةَ هؤلاء المرضى بابُ رزقِ ونصرٍ وفي الحديث الصحيح: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟!)، فهم بركةٌ علينا بدعائِهم، وصدقِ عبادتِهم، وتعلقِ قلوبِهم بالله، وهمْ قناديلُ رحمةٍ في بيوتِنا، وينابيعُ بركةٍ في دورِنا، وسلُوا عمنْ فقدوا كيفَ غدتِ الدارُ بعد رحيلِهم؟!

سلوهم عنْ دعواتٍ افتقدوها من والديهم ومرضاهم، يجدونَ بركتَها توفيقًا في مسيرتِهم، وتسديدًا في حياتِهم، وهناءً في عيشِهم.

إنَّ هذه البشائرُ أيُّها الإخوةُ في الله لابدَّ لها من ثمن، وثمنُها الإحسانُ في خدمةِ المريض، والقيامِ بأمرِه، وإنَّ منْ أعظمِ الإحسانِ في خدمتِه مواكبةُ العلمِ التجريبيِّ الحديثِ في تمريضِ المريضِ، وقد استجدَّ في زمانِنا أمراضٌ متنوعةٌ عافنا اللهُ وإياكم منها، وهيَ تتطلبُ منَ الأولياءِ أنْ يكونُوا على قدرٍ منَ الاطلاعِ والتواصلِ معَ المراكزِ المتخصصةِ للعلاج، والاستشارةِ والاستخارةِ والدعاء، وهنَا نهمسُ في أذنِ الأسرِ بالاعتناءِ باكتشافِ هذه الأمراضِ مبكرًا، ويحتسبُوا الأجرَ في مساندتِهم ومتابعةِ أحوالِ مرضاهم، ويبقى التفاؤلُ وحسنُ الظنِ باللهِ سيدَ الموقف، فمنْ رحمِ الألمِ يولدُ الأمل، فانثرُوا الأملَ وازرعُوا الفأل، وبشّرُوا المرضى، واحتسبُوا الأجر.

اللهم إنا نسألك صِحَّةً في إِيمَانٍ، وَإِيمَانًا في حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجَاحًا يَتْبَعُهُ فَلاحٌ، وَرَحْمَةً مِنْكَ، وَعَافِيَةً وَمَغْفِرَةً مِنْكَ وَرِضْوَانًا.. يا ربَّ العالمين.

المرفقات

الرحمة-4

الرحمة-4

الرحمة-5

الرحمة-5

المشاهدات 2054 | التعليقات 1

جُزيتَ الجنّة.. و والديك.. يا شيخ عبد اللطيف