بيوت أصحاب الدنيا وأصحاب الآخرة

عبدالله يعقوب
1432/08/07 - 2011/07/08 02:21AM
الحمد لله جعل الدنيا دارَ ممر، والآخرةَ دارَ المقر. فلا مهرب ولا مفر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد به وكفر.
وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوثُ إلى جميع البشر.
بالحنيفية السمحة، والملة الواضحة، فلا لبس ولا غَرر.
اللهم صل وسلم وبارك.. على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله الغُرَر، وعلى صحابته ذوي المفاخر والمحاسن كما شهد التنزيل والأثر، الذين جاهدوا في سبيل الله فما وهن عزمهم عن الجهاد وما فتر. وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الظَفَر.. بجنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أما بعد.. فاتقوا الله تعالى حق التقوى.. وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه علا ومن أعرض عنه غوى، ولم يضر الله شيئاً. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
عباد الله.. يقول الحق سبحانه وتعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
إنها الحقيقة.. التي لا مراء فيها.. ليس فيها شك ولا جدال..
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
أيها المسلمون.. إن من الناس من يكد ويكدح وينصب.. للمال، يجمعه بعرقه وسهره وتعبه وتفكيره.. وهو المنقطع الفاني، والمضمحل الزائل، ويُعرض عن الأعمال الصالحة الباقية السارة النافعة عند الله تعالى. وإن جاءها فبالقليل من الجد والنشاط والإخلاص. وفي هذه الآية الكريمة نص صريح إلى أن المالَ والبنين.. زينةٌ دنيوية تخلق وتبلى وتفنى. وأن الذي يبقى للإنسان نفعُه وأثره مضاعفًا عند الله تعالى هي الباقيات الصالحات. من صلاة وصدقة وصوم وحج وعمرة وقراءة قرآن وذكر وتسبيح وتهليل، وطلب علم وتعليم نافعين، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وبر وإحسان وصلةِ رحمٍ وغير ذلك.
ذم الله الدنيا وحذر من بهرجها، وعراها من زينتها وزخرفها، ليتصورها الناسُ حق التصور، ويعرفوا باطنها وظاهرها فيقارنوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. فقال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً).
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مر بجديٍ ميت، فأخذ بأُذنه فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب انه لنا بشيء، فقال صلى الله عليه وسلم: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».
أيها الناس.. مع كثرة النصوص الشرعية المحذرة من الدنيا والركون إليها، إلا أن كثيراً من الناس غفلوا عن ذلك، واتبعوا أهواءهم.. فعمروا الدنيا الفانية، وخربوا الآخرة الباقية، والقليل القليل من الناس الذين عمروا الآخرة الباقية، وهاكم طرفاً من أخبار أولئك القوم..
لما بنى الخليفة الأموي الناصرُ لدين الله الأندلسي مدينةَ الزهراء.. ساق إليها الأنهار، ونقب لها الجبل، وأنشأها مدورة، وعدة أبراجها ثلاث مئة برج، وشرفاتها من حجر واحد، وقسمها أثلاثا: فالثلث المسند إلى الجبل قصوره، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، وكانوا اثني عشر ألفا بمناطق الذهب، يركبون لركوبه، والثلث الثالث بساتين تحت القصور.
وعمل مجلسا مشرفا على البساتين، صفَّح عمده بالذهب، ورصَّعه بالياقوت والزمرد، واللؤلؤ، وفرشه بمنقوش الرخام، وصنع أمامه بحيرة مستديرة ملاها زئبقا، فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، وقعد في هذه القبة المزخرفة بالذهب والبناء البديع الذي لم يسبق إليه، وجلس عنده جماعة من الأعيان، من رؤوس دولته وأمرائه، فقال لهم: هل بلغكم أن أحدًا بنى مثل هذا البناء؟ فقال له الجماعة: لم نرَ ولم نسمع بمثله، وجعل جميعُ من حضر يثنون على ذلك البناء، ويمدحونه، وأثنوا وبالغوا، والمنذرُ بن سعيد البلوطي القاضي، ساكت.. مطرق.. لا يتكلم. فالتفت إليه السلطان وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟
فقال: واللهِ ما كنت أظن يا أمير المؤمنين أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكِّنه من قيادك هذا التمكين.. مع ما آتاك الله، وفضَّلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
فقال الخليفة: انظر ما تقول، وكيف أنزلني منازل الكافرين؟
فقال: إن الله تعالى يقول: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ، وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).
فنكّس الناصر رأسه طويلاً، وبكى، ثم قال: جزاك الله عنَّا خيرًا وعن المسلمين، وأكثر في المسلمين مثلك، الذي قلتَ هو الحق، ثم قام عن المجلس، وأمر بنقض سقف القبة، ونزع الذهب والجواهر..
رحمة الله على الجميع.
أما أصحاب الآخرة.. فشأنهم عجيب، وخبرهم غريب.. أقوام سكنت أبدانهم الأرض، وحلّقت أرواحهم في السماء، قنعوا بالقليل.. مع القدرة على الكثير.. رغبةً في الثواب الجزيل، وخوفاً من الجليل.
عن عبيد بن عمير أنه قال لأم المؤمنين عائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة ذريني أتعبد الليلةَ لربي) قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات والأرض) الآية كلها. رواه ابن حبان.
ويدخل رجل على أبي ذر في داره فلا يرى شيئاً يرد العين. فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: إن لنا داراً أخرى نحول إليها متاعنا. يعني الآخرة.
وهذا عمر بن الخطاب.. حِينَ قَدِمَ الشَّامَ، قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَنْزِلِكَ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِمَنْزِلِي؟ قَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ. قَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَعْصُرَ عَيْنَيْكَ عَلَيَّ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ مَتَاعُكَ؟ فَإِنِّي لَا أَرَى إِلَّا لِبَدًا وَشَنًّا وَصَحْفَةً، وَأَنْتَ أَمِيرٌ... أَعِنْدَكَ طَعَامٌ ؟ فَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى إناء فَأَخَذَ مِنْه كُسَيْرَاتٍ، فَبَكَى عُمَرُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ إِنَّكَ سَتَعْصُرُ عَيْنَيْكَ عَلَيَّ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَكْفِيكَ مِنَ الدُّنْيَا مَا بَلَّغَكَ الْمَقِيلَ، قَالَ عُمَرُ: غَيَّرَتْنَا الدُّنْيَا كُلَّنَا غَيْرَكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ناصحاً وموجهاً ومذكراً: أيها الناس.. إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وإِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ، أَلَّا وَإِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا.. قد اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطًا، وَالتُّرَابَ فِرَاشًا، وَالْمَاءَ طِيبًا؛ أَلَا مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ شَارِدٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ رَجَعَ عَنِ الْحُرُمَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ؛ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ، أَمَّا اللَّيْلُ؛ فصافون أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، يَجْأَرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، رَبَّنَا رَبَّنَا! يَطْلُبُونَ فِكَاكَ رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا النَّهَارُ؛ فَعُلَمَاءُ حُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، ويقول خُولِطُوا، وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمُ أَمْر عَظِيم.
فاتقوا الله ربكم.. وخذوا من الفاني للباقي.. اعمروا آخرتكم ولو كان بخراب دنياكم..
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
أقول ما تسمعون...
المشاهدات 5074 | التعليقات 4

بارك الله فيك أخي على هذه الخواطر التي تصف حالنا وحال قوم سابقين .كلنا مشى على هذه الارض واستقى من مائها واستنشق هواءها ومشى في مناكبها .لكن شتان بين مشي الجسد والروح هناك وبين من مشى جسده وروحه يلهث وراءها وهي زائلة


جزاك الله خيرا


هذا أكثر ما يحتاجه العامة من الناس اليوم
بوركت يا أبا معاذ فعلا خطبة مؤثرة
جعلها الله في ميزان حسناتك
وتابعنا بالجديد


نسال الله العظيم الا يحرمك الاجر والمثوبة على الخطبة الرائعه