بين يدي رمضان

بين يدي رمضان

ألقيت في جامع حمراء الأسد بالمدينة النبوية

بتاريخ 27/ شعبان/ 1442

عبد الله بن عبد الرحمن الرحيلي
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله المحمود بسائر الألسنة، الممدوح في سائر الأزمنة، الغفور الذي يبدِّل السيئة بالحسنة، القيّوم الذي لا يأخذه نوم ولا سنة.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحكم دينه وبيَّنه.

وبشر بالجنات عبادَه ﴿الَّذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18]

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نبي أوضح لنا سننه، ولنا فيه أسوة حسنة.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد فاحمدوا الله تعالى أن منَّ عليكم بأجل نعمه فجعلكم مسلمين؛ وأرسل لكم أفضل رسله نبينا محمدا سيد ولد آدم أجمعين، وخصكم بدين الإسلام، خير دين للعالمين؛ ومنَّ عليكم بمواسم فاضلة للسائرين؛ يتقرب فيها المتقون لعلام الغيوب، ويطرحون عن ظهورهم الخطايا والذنوب.

 

إنه سوق المتجرين وغنيمة المفلحين، شهر هو سرور العابدين، وفرصة التائبين.

 

شهر عظيم لا تحصى فضائله، وموسم كريم لا يحاط بفوائده.

 

إنه شهر الخيرات والبركات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر بقدومه أصحابه فيقول: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ،

 تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ،

لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ) .

 

إنكم أيها المؤمنون مقبلون في شهركم على خيرات تتوالى؛ أعلاها عبادة الصيام لله تعالى. فـ"من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"

 

و "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".

 

و "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان".

 

 ينال الصائم سعادة الدنيا ونعيم الآخرة: فـ"للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

 

و" إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون، فيقومون فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد"

 

إن ثياب الصيام قد تولاه المولى الكريم؛ قال صلى الله عليه وسلم " كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي "

 

عباد الله.. إنكم مقبلون على شهر القرآن؛ ﴿شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ ﴾ [البقرة: 185]

 

فأكثروا فيه من تلاوة القرآن العظيم؛ مقتدين فيه بنبيكم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يلقاه جبريل كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن .

 

إنه شهر الصدقة والإحسان.

شهر يجود الله فيه على عباده بالمغفرة، ومن جاد على عباد الله جاد الله عليه بأضعاف مضاعفة.

 

وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم أجودَ ما يكون في رمضان ؛ كان أجودَ فيه بالخير من الريح المرسلة .

 

إنه شهر القيام؛ والانطراحِ بين يدي الملك العلام، والتلذذِ بالمناجاة والناس نيام.

" من قام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه "

و " من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".

 

إنه شهر الفوز بالجنان والرضوان؛ والعتق من النيران؛

فلله في كل ليلة منه عتقاء من النار .

 

إنه شهر يرفعكم الله به درجات لا تخطر لكم على بال .

تأمَّلوا هذا الحديث الذي أخبر فيه طلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه -، عن رجُلَين قدِما على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إسلامُهما جميعًا - أي: في وقتٍ واحدٍ -، وكان أحدَهما أشدَّ اجتِهادًا من صاحبِه، فغزَا المُجتهِدُ منهما فاستُشهِد، ثم مكثَ الآخرُ بعده سنة، ثم تُوفِّي.

 

قال طلحةُ: فرأيتُ فيما يرى النائِمُ كأني عند بابِ الجنة، فإذا أنا بهما، وقد خرجَ خارِجٌ من الجنة، فأذِنَ للذي تُوفِّي الآخر منهما، ثم خرج، فأذِنَ للذي استُشهِد، ثم رجعَ إليَّ، فقال: ارجِع فإنه لم يأنِ لك بعدُ. فأصبحَ طلحةُ يُحدِّثُ به الناس، فتعجَّبُوا لذلك - أي: تعجَّبُوا كيف أن الذي لم يُجاهِد ولم يُستشهَد دخلَ الجنةَ قبل صاحبِه .

 

فبلغَ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من أيِّ ذلك تعجَبون؟". قالوا: يا رسولَ الله! هذا كان أشدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِد في سبيل الله، ودخلَ هذا الجنةَ قبلَه! فقال - عليه الصلاة والسلام -: "أليسَ قد مكَثَ هذا بعدَه سنة؟". قالوا: بلى، "وأدركَ رمضانَ فصامَه؟". قالوا: بلى، "وصلَّى كذا وكذا سجدة في السنة؟". قالوا: بلى، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فما بينَهما أبعَدُ ما بين السماء والأرض".

 

الله أكبر .. بينهما أبعَد ما بين السماء والأرض.

فضائل عظيمة متوالية؛ وخيرات جليلة متتالية !

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ : يا باغيَ الخيرِ أقبلْ ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ )

 

نعم (يا باغيَ الخيرِ أقبلْ ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ)

يا طالبا للخيرات أقبل فهذا أوانها؛ ويا منتظرا للنفحات هذا زمانها؛ ويا باغيا للرحمات هذا إبَّانها؛ فأقبِلوا واستكثِروا وانعَموا، واحرصِوا واجتهِدوا واغْنَموا.

 

ويا باغي الشر أقصر! فهذا زمان التوبة والأوبة، تب إلى الله وأقلع عن المعصية؛ ولا تقنط من رحمة الرحيم؛ الذي يقول بين آيات الصيام في كتابه الكريم ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ﴾ [البقرة: 186]

 

فاغتنِموا شهركم أيها المؤمنون؛ وأودِعوا فيه من الصالحات ما تستطيعون؛ فإن السعيد من عرف شرفَ أيامِ رمضانَ فاغتنمها؛ والشقي من أعرض فيه عن رحمة ربه فحُرِمَها.

صحَّ عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له".

 

لقد صعد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوما المنبر فقال: آمين؛ فسأله الصحابة عن سبب تأمينه؛  فقال: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ

 

اللهم بلغنا شهر رمضان؛ وأعنا فيه على الصيام والقيام وسائر الخيرات.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا، واختم لنا بالصالحات.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيز الغفار، جعل مواسم الخيرات نُزُلا لعباده الأبرار.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له ؛ أغاث العباد من واسه فضله المدرار.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار.

 

أما بعد ؛ فاتقوا الله عباد الله؛ وسلوا الله من فضله وعطاياه.

 

عباد الله.. بين يدي شهر رمضان : سلوا الله تعالى أن يبلغكم إياه حتى التمام، وأن يوفقكم فيه للصالحات ويطهركم من الآثام؛ فمن سأل الله بصدق، فإنه حري بالإجابة.

 

كان السلف يسألون ستة أشهر أن يبلغهم رمضان؛ وكان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلًا".

 

واعقدوا صادق نياتكم على اغتنامه بالذكر والتلاوة والقيام والصدقة؛ فمَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ.

تعلموا أحكام الصيام؛ وحلوا صومكم بالسنن والآداب.

 

أقبِلوا على شهركم بتوبة نصوح صادقة؛ وإنابة إلى الله في جميع أوقاته متواصلة.

 

أقبِلوا على شهركم بقلوب راجية للصالحات؛ واعلموا أن الذنوب تَحْرِمُ العبد من استغلال مواسم الخيرات.

 

وتعرَّضوا لنفحات المولى الكريم؛ ففي الحديث: "اطلُبُوا الخيرَ، وتعرَّضُوا لنفَحَات الله؛ فإن لله نفَحَاتٍ من رحمته يُصيبُ بها من يشاء"

 

ثم صلوا وسلموا عباد الله؛ على نبينا محمد رسول الله.

 

يا أيهــا الراجي عظـيـمَ المطلبِ

فُـزْ بالصلاة وبالسلام على النَّبِيْ

 

كـم مذنبٍ بعـدَ الصــلاة ذنوبُـهُ

حُطَّـتْ فعــاد كأنـه لـم يُــذْنِبِ

 

ومُثَقَّــلٍ بالْهَــمِّ كـلُّ همــومِــهِ

وَلَّتْ وأعقَبَهــا صـفـاءُ المَشْـرَبِ

 

يا مُـسْـلِمَــا صلـى عليه مُسَلِّمـاً

لا تَعْــدُ ســنتَــهُ ولا تَتَـجَنَّـبِ

 

صلـى عليـك الله يـا مَـــنْ نُـورُهُ

شمسٌ على طول المدى لم تَغْرُبِ

 

المرفقات

1618141666_خطبة بين يدي رمضان.docx

1618141669_خطبة بين يدي رمضان.pdf

المشاهدات 783 | التعليقات 0