بينَ نملتينِ

محمد بن سامر
1442/11/14 - 2021/06/24 05:16AM

بين نـملتين-15-11-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

    إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

أما بعد: فيا إخواني الكرام:

هاتانِ قصتانِ لنـملتينِ مع نبيينِ من أنبياءِ اللهِ-عليهم الصلاةُ والسلامُ-، فتأملوا في النهايةِ المختلفةِ لكلِّ قصةٍ على أُمَّةِ النَّملِ لاختلافِ تَصرُّفِ كلِّ من النـملتينِ.

الأولى: هي تلك النَّملةُ التي ذكرَها اللهُ-تعالى-في كِتابِه، بلْ وسمى بها سُورةً من سُورِ القرآنِ الكريمِ، يقولُ-تعالى-في سورةِ النملِ: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ) جُمعَ له جُنودُه الكَثيرةُ الهائلةُ، من بني آدمَ ومن الجِنِّ والشَّياطينِ ومن الطِّيورِ والوُحوشِ والرِّيحِ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) مُوَزَّعُون منظَّمونَ غايةَ التَنظيمِ في سَيرِهم، في صُفوفٍ مُرتَّبةٍ، وسَيرٍ حَثيثٍ، وانضباطٍ دقيقٍ، في مَشهدٍ مَهيبٍ، تنشرحُ له صدورُ أولياءِ اللهِ، وتَفزعُ منه قلوبُ أعداءِ اللهِ، (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ)، هبطوا هُبوطًا مفاجِئًا من أعلى الجبلِ إلى الوادي المليءِ بالنَّملِ، (قَالَتْ نَمْلَةٌ) بعدَ أن انتبهتْ ورأتْ ذلك الجيشَ العظيمَ، فصاحتْ: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) كلماتٌ معدوداتٌ واضِحاتٌ بليغاتٌ، لـمّا أحسّتْ بسليمانَ وجنودِه، بادرتْ بإخبار النملِ وتحذيرِهم، ونادتْهم بقولِها (يا)، ونبَّهتْهم بـ (أيُّها النملُ)، وأمرتْهم (ادخلوا)، وأرشَدتْهم وبينتْ وجهتَهم (مَسَاكِنَكُمْ)، وأكدّتْ بـ(نونِ التَّوكيدِ) سببَ تنبيهِها وتحذيرِها، ونُصحِها وإنذارِها (لا يحطمنَّكم)، وبيَّنتْ لهم من سَيُحَطِّمُهم (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، وعَذَرَتْ سليمانَ وجُنودَه (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، لا يفعلونَه متعمدينَ قاصدينَ، لأنَّ أنبياءَ اللهِ-تعالى-لا يظلمونَ، ولا يقتلونَ إلا بحقٍّ.

سمعَ سليمانُ-عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-كلامَها: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).

هذا الموقفُ ذكرَهُ اللهُ للمؤمنينَ ليتدبروه ويعلموا أن كُلَّ ما ذكرَه في كتابِه حقٌ، وأنَّ فيه هِدايةً وذِكرى، وموعظةً وعِبْرَةً، فيأتي السُّوالُ: ماذا يستفيدُ الـمُسلمُ من قصةِ هذهِ النـملةِ؟

فيقالُ: ألم ترَ إلى هذه التَّضحيةِ النَّادرةِ، والمُغامرةِ المُدهِشةِ، والمُبادَرةِ المُذهِلةِ، من نـملةٍ صغيرةٍ ترى جيشًا عظيمًا يَهبطُ عليهم من فوقِ الجَبلِ، وتخيلَّوا كم تحتاجُ هذه النملةُ الصَّغيرةُ حتى تَصلَ إلى مسكنِها من الوَقتِ، ومع ذلك وقفتْ شجاعةً حازمةً، وآثرتْ نجاةَ قومِها على نجاتِها، ولم تحتقرْ نفسَها وصوتَها الضَّعيفَ مقارنةً بحَجمِ الوادي الفَسيحِ، الَّذي يتَّسعُ لهذا الجيشِ الكبيرِ، فنادتْ وحذَّرتْ وأنذرتْ بما استطاعتْ من قوةٍ، فكانتْ سببَ نجاتِهم، وسببًا في انتباهِ نبيِّ اللهِ سليمانَ-عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-لهم، وضَحِكِهِ وإِعْجَابِهِ بـموقفِ النملةِ الجريْء ونُصحِها لقومِها!

فأينَ هذا الموقفُ من كثيرٍ من البشرِ مِمَّنْ لا يُبالي بأمَّتِه ولا بقومِه ولا وطنِه، فتجدْه يرى الأخطارَ والمنكراتِ، تُحيطُ بالجميعِ من جميعِ الاتِّجاهاتِ، ولِسانُ حالِه: نَفْسي، نَفْسي، ولا يُنادي في قومِه اثبتوا على دينكمْ، ويَعتقدُ أنه ينجو إذا كانَ صالحًا فقط، ولا يعلمُ المِسكينُ أن المجتمعَ لا ينجوا إلا إذا كانَ فيه صالحونَ مُصلحونَ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، ولم يقلْ صالحونَ، ولا يدري أن الفِتنةَ إذا جاءتْ فلنْ تتركْ أحدًا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، بل تُصيبُ الجميعَ، فأينَ الموعظةُ والنَّصيحةُ؟ وأينَ التربيةُ الصَّحيحةُ؟ أيُعقلُ أن تكونَ النَّملةُ أفضلَ من كثيرٍ من البشرِ؟!

أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فأما النَّملةُ الأخرى: فقد ذكرَ قِصَّتَها رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-فقالَ: "نَزَلَ نَبِيٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَـمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ"، وقدْ كانَ الحرقُ جائزًا في شريعةِ ذلك النَّبيِّ-عليه السَّلامُ-ثمُ حُرّمَ في شريعتِنا؛ قَالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-: "لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ".

هل رأيتُم؟ نـملةٌ مُتَهوِّرةٌ، في تَصرُّفٍ طَائشٍ، تسببتْ في حرقِ أمَّةٍ من الأممِ المُسَبِحةِ بحمدِ ربِّها: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).

في هذا الزَّمانِ نحنُ نعاني من بشرٍ كهذه النملةِ، أعلنوا الحربَ على اللهِ ودينِهِ، وأنبياءِ اللهِ وشرعهِ، والعلماءِ والدُعاةِ، والصالحينَ والمصلحينَ، والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ، فكيفَ ينتصرون؟!

ماذا يُريد الَّذينَ ينشرونَ الفُجورَ والفسادَ؟، وماذا يستفيدُ الَّذينَ يُشوِّهونَ صُورةَ البلادِ؟، لماذا يتنافسونَ على ما يُخالفُ دينَهم؟ لماذا يدفعونَ المجتمعَ إلى طريقٍ يُغْضِبُ ربـَهم؟ ألمْ يقرؤوا تحذيرَ اللهَ لهمِ بذكرِ عاقبةِ العاصينَ قبلَهم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فهل ننتظرُ أن تتسبَّبُ نملةٌ أُخرى في حرقِ أمَّةٍ أخرى من الأممِ تُسبِّحُ اللهَ؟ أن يتسببَ فاسدٌ بهلاكِ المجتمعِ والناسِ حولَه؟!

يا حيُ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، أسألكَ بأسمائِك الحسنى، وصفاتِك العلى، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمهم واجعلهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمين، اللهم إنَّي أسألك لي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ والظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).

اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.

المرفقات

1624511806_بين نـملتين-15-11-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1624511811_بين نـملتين-15-11-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 1240 | التعليقات 0