بين نملتين

هلال الهاجري
1442/11/13 - 2021/06/23 03:29AM

إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَاأَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:

أيها الأحبةُ في اللهِ، سأُخبرُكم اليومَ بقِصَّةِ نملةٍ مع نبيٍ من الأنبياءِ، ثُمَّ سأُخبرُكم بقِصَّةِ نملةٍ أُخرى مع نبيٍ من الأنبياءِ آخرَ، وتأملوا في عاقبةِ كُلِّ واقِعةٍ على أُمَّةِ النَّملِ وذلك لاختلافِ تَصرُّفِ كلِّ نَملةٍ.

الأولى: هي تلك النَّملةُ التي ذكرَها اللهُ تعالى في كِتابِه بلْ وسمى بها سُورةً من سُورِ القرآنِ الكريمِ، يقولُ تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ)، أيْ: جُمعَ له جُنودُه الكَثيرةُ الهائلةُ من بني آدمَ، ومن الجِنِّ والشَّياطينِ ومن الطِّيورِ والوُحوشِ والرِّيحِ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ)، أيْ: يُردُّ أولُّهم على آخرِهم، ويُنظَّمونَ غايةَ التَنظيمِ في سَيرِهم، فهم في صُفوفٍ مُرتَّبةٍ، وسَيرٍ حَثيثٍ، وانضباطٍ دقيقٍ، في مَشهدٍ مَهيبٍ، تنشرحُ له صدورُ الأصدقاءِ، وتَفزعُ منه قلوبُ الأعداءِ، (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ)، والتعبيرُ (بعلى) يَدلُّ على هُبوطٍ مُفَاجِئٍ من أعلى الجبلِ إلى الوادي المليءِ بالنَّملِ، (قَالَتْ نَمْلَةٌ) بعدَ أن انتبهتْ ورأتْ ذلك الجيشَ العظيمَ، فصاحتْ بصوتِها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، كلماتٌ معدوداتٌ، واضِحاتٌ، بليغاتٌ، فهي أحسّتْ (بسليمانَ وجنودِه)، وبادرتْ (بالإخبارِ والتَّحذيرِ)، ونادتْ (بقولِها يا)، ونبَّهتْ (بأيُّها)، وأمرتْ (ادخلوا)، وأرشَدتْ ووجَّهتْ (مَسَاكِنَكُمْ)، ونهتْ (لا يحطمنَّكم)، وأكَّدتْ (بنونِ التَّوكيدِ)، ونَصحتْ وأنذرتْ (يحطمنّكم أنتُم)، وبَالغتْ (يحطمنَّكم كُلَّكم)، وبيَّنتْ من سَيحطِمُهم (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، وأَعذرتْ لسليمانَ وجُنودِه (وهم لا يشعرون)، فلا يفعلونَه عن عَمدٍ ولا قَصدٍ، لأنَّه نبيٌ من أنبياءِ اللهِ تعالى فلا يَقتلُ شيئاً بغيرِ حقٍّ.

سمعَ سليمانُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كلامَها: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).

هذا الموقفُ يا عبادَ اللهِ، لم يذكرْه اللهُ تعالى في كتابِه عَبثاً، وإنما أرادَنا أن نتدبَّرَه كما نتدَبَّرُ سائرَ الآياتِ، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، فالَّذينَ آمنوا يعلمونَ أن كُلِّ ما ذكرَه اللهُ تعالى في كتابِه حقٌ، وأن فيه هِدايةً وذِكرى وموعظةً وعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَلْبَابِ، فيأتي السُّوالُ: ما الَّذي يُمكنُ أن يستفيدَه المُسلمُ من هذه النَّملةٍ؟.

فنقولُ: ألم ترَ إلى هذه التَّضحيةِ النَّادرةِ، والمُغامرةِ المُدهِشةِ، والمُبادَرةِ المُذهِلةِ، من نملةٍ صغيرةٍ ترى جيشاً عظيماً يَهبطُ عليهم من فوقِ الجَبلِ، وتخيلَّوا كم تحتاجُ هذه الصَّغيرةُ حتى تَصلَ إلى مسكنِها من الوَقتِ، ومع ذلك وقفتْ بُكلِّ شجاعةٍ وحزمٍ وآثرتْ نجاةَ قومِها على نجاتِها، ولم تحتقرْ نفسَها ولم تيأسْ من صوتِها الضَّعيفِ مع حَجمِ الوادي الفَسيحِ الَّذي يتَّسعُ لهذا الجيشِ الكبيرِ، فنادتْ وحذَّرتْ وأنذرتْ بما استطاعتْ من قوةٍ، فكانتْ سببَ نجاتِهم وانتباهِ نبيِّ اللهِ سليمانَ عليه السَّلامُ لهم، والَّذي أعجبَه ذلك الموقفَ الجريءَ ونُصحَ النَّملةِ لقومِها حتى (تَبَسَّمَ ضَاحِكًا).

فأينَ هذا الموقفُ من كثيرٍ من البشرِ مِمَّنْ لا يُبالي بأمَّتِه ولا بقومِه ولا وطنِه، فتجدْه يرى الأخطارَ والمنكراتِ، تُحيطُ بالجميعِ من جميعِ الاتِّجاهاتِ، ولِسانُ حالِه: نَفْسي، نَفْسي، ولا يُنادي في قومِه (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)، ويَعتقدُ أنه ينجو إذا كانَ صالحاً، ولا يعلمُ المِسكينُ أن القريةَ لا تنجوا إلا إذا كانَ فيها مُصلحونَ ناصحونَ، كما قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، ولم يقلْ صالحونَ، ولا يدري أن الفِتنةَ إذا جاءتْ لم تتركْ أحداً، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، بل تُصيبُ الجميعَ، فأينَ الموعظةُ والنَّصيحةُ؟، وأينَ التربيةُ الصَّحيحةُ؟، أيُعقلُ أن تكونَ النَّملةُ أفضلَ من كثيرٍ من البشرِ؟.

بارَكَ اللهُ لِيْ وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ .. أَقُوْلُ قَوْلِيْ هذا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي أَرسلَ رَسولَه بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُخرجَ النَّاسَ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ بإذنِ ربِّهم إلى صِراطِ العزيزِ الحميدِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلَّمَ تَسليماً كثيراً .. أما بعد:

فأما النَّملةُ الأخرى، فقد ذكرَ قِصَّتَها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ كما في الحديثِ: (نَزَلَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ)، وإن كانَ الحرقُ جائزاً في شريعةِ ذلك النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلقد جاءَ في دِينِنا ما يَنهى عنه كما قَالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: (لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ).

هل رأيتُم؟، نملةٌ مُتَهوِّرةٌ، في تَصرُّفٍ طَائشٍ، تسببتْ في حرقِ أمَّةٍ من الأممِ المُسَبِحةِ بحمدِ ربِّها: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).

في هذا الزَّمانِ نحنُ نعاني من نملٍ لا يقرصُ نبيَّاً فحسبْ، بل يقرِصُ الدِّينَ كُلَّه وما فيه من شرائعَ وتعاليمَ، ويلدِغُ أهلَه من علماءٍ ودُعاةٍ وصالحينَ والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ، واللهُ تعالى يقولُ في الحديثِ القُدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ)، فكيفَ بمَن خصمُه ربُّ السمواتِ والأرضِ؟.

ماذا يُريد الَّذينَ ينشرونَ الفُجورَ والفسادَ؟، وماذا يستفيدُ الَّذينَ يُشوِّهونَ صُورةَ البلادِ؟، لماذا يتنافسونَ على ما يُخالفُ دينَهم ومُجتمعَهم الصَّالحَ المُحبَّ لكلِّ خيرٍ وصلاحٍ؟، لماذا يريدونَ أن يُلبسونا ثوباً لا يُناسبُ ما نعتقدُه من الهدى والفلاحِ؟، لماذا يدفعوننا دَفعاً إلى طريقٍ لا يُرى في نهايتِهِ نورُ الصَّباحِ؟، وكأننا لا نقرأُ القرآنَ ولا نعرفُ عاقبةَ الذُّنوبِ؟، وكأننا لم نَسمعْ كلامَ علَّامِ الغيوبِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فهل ننتظرُ أن تتسبَّبُ نملةٌ أُخرى في حرقِ أمَّةٍ أخرى من الأممِ تُسبِّحُ؟.

اللهمَّ انصرْ دُعاةَ الخيرِ وأئمةَ الهُدى والمجاهدينَ في سبيلِك والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ هيئ لهذه الأمَّةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أَهلُ معصيِتك، ويُذلُّ فيهِ الكفرُ وأهلُه، ويُؤمرُ فيه بالمعروفِ ويُنهى فيه عن المنكرِ، اللهمَّ من أرادَ بلادَنا وولاةَ أمرِّنا وعلماءَنا والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ بسوءٍ فأشغلْه في نفسِه واجعلْ تدبيرَه تدميراً عليه يا ربَّ العالمينَ، اللهم وَلِّ على المسلمينَ خيارَهم، وأبعدْ عنهم شرارَهم في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها إنَّك على كلِّ شيءٍ قديرٍ.

المرفقات

1624419046_بين نملتين.docx

1624419055_بين نملتين.pdf

المشاهدات 2920 | التعليقات 0