بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
أيها المؤمنون: روى الإمام مسلم في صحيحه أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً -أَيْ يُغْمَسُ غَمْسَةً- ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا -أَيْ شِّدَّةً وَبَلَاء- فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ"(رواه مسلم).
هَذَا الحَدِيْث أخبر بها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، يخبر فيه بالنعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي، النعيم نعيم أهل الجنان، والبؤس والشقاء لأهل النار يوم المعاد. حَدِيْثٌ فيه تسلية لِلْمُؤْمِنِيْنَ الصَّابِرِيْنَ على أيام الشِّدَّة، ووَعِيْدٌ لِلْعُصَاةِ والكافرين مِنْ أولي النعمة المترفين.
المؤمن يتعقد جازما من قلبه بأن الحياة الحقيقية في الدار الآخرة، وَأَنَّهُا هي دَارُ الجَزَاءِ، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)؛ ما فيها من الجنة والنعيم أو النار والبؤس والشقاء.
ومن يحدد مصير العبد في الآخرة ومآله هو العَمَلِ فِي هَذِهِ الدُّنْيا، والساعات التي يقضيها العبد في هذه الحياة، إِمَّا عمل يوصل إِلَى جَنَّةٍ نَعِيْمهَا مُقِيْم، أَوْ نَارٍ عَذَابهَا أَلِيْم، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وفي الحديث السابق يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل الكفر فيغمس غمسة في النار، أنعم من سكن هذه الأرض منذ خلق الله آدم عليه السلام إلا أن يرث الله الأرض ومن عليها، أنعم أهلها من أهل الكفر، الذين تمتعوا بأموال الدنيا وذهبها وحليها بحلالها وحرامها، وتنعموا بقصورها ومراكبها، وبنسائها وخدمها، وبأطيب طعامها وألذ شرابها، تمتعوا في الدنيا بالحلال والحرام، يؤتى بأنعم أهل الأرض. ولك أن تتخيل كيف استمتع أنعم أهل الأرض بملاذ الدنيا ومتعها. فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟، هل مر بك نعيم قط؟ بمجرد صبغة واحدة في النار ينسى كل شيء، وينقشع عنه كل وَهم، فيقول ويحلف: لا والله يا رب. يعني: ما رأيت شيئاً من النعيم، ولا مر بي خير قط، فما رأى من العذاب المؤلم في النار، وما شاهد من النكال نسي كل نعيم مرّ به في عمره كله، بغمسة واحدة نسي كل لذة عاشها ونعيم قارفه. فيقول: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ. يحلف ويقسم أنه ما تنعم أبدا.
وبهذا ندرك أن هذه المتع التي في هذه الحياة الدنيا أنها كالأحلام سرعان ما تزول وتنقشع، ثم بعد ذلك ينساها الإنسان ولا يبقى منها شيء. ولذلك لو أراد الإنسان أن يتذكر في سني عمره الأولى كم مرة أكل أكلة يلتذ بها، وكم مرة شرب شربة يلتذ بها، وكم مرة قام بأمور يأنس بها ويسعد، نسي ذلك.
وفي الحديث أيضاً يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، أبأس المسلمين ممن عاش عمره كله في عناء ومشقة. فما لقي هذا البائس من أهل الجنة من بعد آدم ﷺ إلى قيام الساعة من العناء والآلام والأمراض والقهر والذل والمهانة والتشريد والتفكك والحبس والفقر حين يصبغ صبغة في الجنة ويقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟، هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط.
هذا البؤس الطويل الذي في الدنيا هو بالنسبة للإنسان طويل في أيام الدنيا، لكنه بالنسبة للآخرة لا شيء. وإن الشدائد على المؤمن لتنسى أكثرها في الدنيا قبل يوم القيامة، فكم هو الضمأ الذي لحق من صام رمضانات سالفة، فلا يجد منه الآن شيء، وكم هي مشقة تلك الركعات قد ذهب عناؤها، وكم هي المصائب والآلام قد اختفت ولم يبق منها إلى ذكرها. ونحن لا زلنا في الحياة الدنيا.
عباد الله.. فمن حَبَسَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا عن المُحَرَّمَات، وَصَبَرَ على الطَّاعَات: اِسْتَرَاحَ بَعْدَ المَمَات، وَانْقَلَبَ إِلَى ما أَعَدَّ اللهُ لَهُ مِنَ النَّعِيْمِ وَاللَّذَّة، وَنَسِيَ بَعْدَهَا كُلَّ بُؤْسٍ وَمَشَقَّة، قال ﷺ: "الدُّنْيَا: سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ"(رواه مسلم).
وعلى العاقل أن يعتبر بِالْعَوَاقِبِ؛ فَإِنَّ الجَنَّةَ لا يُوْصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرِ المَشَقَّةِ والتَّعَب، وَلا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ بَابِ الصَّبْرِ عَلَى المَكَارِه، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعَاقِبَةَ هَانَ عَلَيْهِ الْبَلاءُ، قال ﷺ" "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَوَات"(رواه مسلم)، فالطريق إلى الجنة مليء بالتعب والمشقة، ففيه بعد عما حرم من الملذات، وترك للممنوعات والمحرمات، وفيه أداء يومي للصلوات، وطاعة وذكر وإحسان وعبادات، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، فما عِنْدَ اللهِ غالٍ وعظيمُ القَدْرِ، ولا يَنالُه إلَّا مَنْ اجْتَهدَ في تَحصيلِهِ وسعَى له، "ألَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ"، جَنَّةُ اللهِ لا تُنالُ بالأماني ولا بالتَّمنِّي، ولكِنْ بالعملِ والاجْتِهادِ، وبرَحمةِ اللهِ تَعالَى.
وإذا دخل أهل الجنة الجنة َنْسَوْا بَعْدَهَا كُلَّ مِحْنَةٍ ومشقة وتعب مَرَّ بِهِمْ في الدُّنْيَا الفَانِيَة، (وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)
وَفِي الحَدِيْثِ الصحيح: "مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ: لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ"(رواه مسلم).
فأهل الجنة في نعيم دائم، وقرار مقيم، نعمة متجددة، لا يَرى فيها بُؤسًا أبدًا، فأهل الجنة لا تَبلَى ثِيابُهم، فثِيابَهم لا تَزالُ جَديدةً، لا يُؤَثِّرُ فيها اللُّبسُ كَثِيابِ الدُّنيا. ولا يَهْرَمُ مَن يَدخُلُها ولا يَشِيخُ ولا يَعجَزُ. بلْ يَظَلُّ شابًّا؛ لا يَخافونَ المَوتَ ولا الضَّعفَ ولا الهَرَمَ.
أيها الكرام.. َإِذَا كَانَتْ غَمْسَةٌ وَاحِدَةٌ في الجَنَّة، تُنْسِي المُسْلِمَ كُلَّ بُؤْسٍ عَاشَهُ في الدُّنْيا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكُوْنُ الجَنَّةُ دَارَهُ وَقَرَارَه، قال تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ). قالَ المُفَسِّرُوْن: "إِنَّ أَيَّامَكُمْ هَذِهِ أَيَّامٌ خَالِيَة: أي أَيَّامٌ فَانِيَة، تُؤَدِّي إِلَى أَيَّامٍ بَاقِيَة؛ فَاعْمَلُوا في هَذِهِ الأَيَّام، وَقَدِّمُوا فِيْهَا خَيْرًا"
وَأما لَذَّةَ الحَرَام فهي والله قَصِيْرَةٌ زَائِلَة، وَلَكِنَّ آثَارَهَا طَوِيْلَة بِاقِيَة، إِلَّا أَنْ يَتْبَعَهَا المُسْلِمُ بِتَوْبَةٍ مَاحِيَة صادقة؛ لِتَسْلَمَ لَهُ العَاقِبَة.
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا *** مِنْ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا *** لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
وإِذَا كَانَتْ لَذَّةُ الحَرَامِ والعِصْيَان، وَسَنَوَاتُ النَّعِيْمِ والطُّغْيَانِ، قَدْ ذَهَبَتْ كُلُّهَا بِلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ في النَّار؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُوْنُ مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدَ الآبِدِيْن؟! (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية
عِبَادَ الله: الجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَل؛ فَمَنْ متع نَفْسَهُ بالمُحَرَّمَات، وَتَقَلَّبَ في المُنْكَرَات والآثام، فسيلحقه الندم والأسى يوم المعاد، ولات ساعة مندم، (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)
ومن ألزم نفسه على الصراط، وانقاد لأمر الله، وترك هواه، وعمل بما يرضي الله، فالجنة قد هيأت له وأعدت، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ*فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ*وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ*وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ*يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ*وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ*وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ*قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ*فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ*إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).