بين نار القسوة وبرد الرحمة
شايع بن محمد الغبيشي
بين نار القسوة وبرد الرحمة
إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ : فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
إخوة الإيمان تأملوا هذا القصة، عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وعائشة رضي الله عنها: قالت: جاء أعرابيّ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّكُمْ تُقَبِّلُونَ الصِّبيان، ولا نُقَبِّلُهم؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ؟ » أخرجه البخاري، ومسلم.
عباد الله إن القصة السابقة تكشف خلق القسوة الذي اكتسبه الأعرابي الأقرع بن حابس رضي الله عنه من طبيعة الصحراء فهاهو يستنكر تقبيل النبي صلى الله عليه و سلم للحسن بن علي ويستنكف أن يكون ممن يقبل الأطفال فقد علمته الصحراء أن القسوة في التربية تخرج رجلاً قوي الشكيمة شديد البأس، وأن الرقة والرحمة تورث الضعف والخور، وغاب عنه أنها تورث الضغينة وتفرق الشمل وتشتت الأسرة وتحرم من رحمة الله، فأراد محمد صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة أن ينتزع هذا الخلق المشين من قلبه فقال: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ ؟ ) ويالها من عبارة قوية تستقبح قسوة القلوب وتعد ذلك نوعاً من الحرمان، ثم يعيد النبي صلى الله عليه وسلم الكرة على قلب الأقرع فيقول: (من لا يرحم لا يرحم ) من الذي يستغني عن رحمة الله ؟
إن القصة تكشف خطر القسوة على البناء الأسري وأنها معول في هدم الأسرة وتفرقها، تملأ القلوب بغضاً وكراهية، فلا تعاطف ولا تراحم ولا محبة ولا وداد .
وعندما تحدث الله عن أول بناء للأسرة على سبين الامتنان بين أن هذا البناء إنما يكون بلبنات المودة والرحمة فقال سبحانه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]
وقال سبحانه عن علاقة الأبناء بوالديهم {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]
قال المناوي رحمه الله: ومن لم يعط حظه من الرحمة غلظ قلبه وصار فظًا، لا يرق لأحد ولا لنفسه، فالشديد يشد على نفسه ويعسر ويضيق، فهو من نفسه في تعب، والخلق منه في نصب ...
وهاكم عباد الله بعض صور القسوة من خلال شكايات بعض من اكتووا بها:
· أم تشتكي من قسوة أبنائها فتقول أشتاق لرؤيتهم تمر الأيام والأسابيع وكل مشغول بزوجه وأولاده وعمله وتناسوا أن هناك قلباً يشتاق إليهم وعينان تريد أن تكتحل برؤيتهم، كم من ليلة تذكرتهم فيها فكان سميري الزفرات والدموع .
· أبٌ يقول كبر سني وخارت قواي واصبحت وحيداً في حاجة إلى العطف والاحسان، وأبنائي كل واحد منشغل عني بحياته، أكثر ما يؤلمني سؤال الناس أين أبناؤك عنك؟ أعتذر لهم بلساني وقلبي يكذّب تلك الأعذار ليتهم يعلمون كم تعبت وتغربت وسهرت وعرقت من أجلهم.
· زوجة تقول: زوجي كثير الخصام لأتفه الأسباب يقيم الدنيا ويقعدها، كريم جواد لكن مشكلته في سرعة الغضب وكثرت الخصام والقسوة في التعامل، صحيح أنه سرعان ما يعتذر ولكن غضبه وقسوته عليّ وعلى أبنائي تجعلنا نتضجر من تلك الحياة مع حبنا الشديد له، ليته يعلم بما نعانيه
· أخرى تقول: زوجي غريب عن البيت يقضي أكثر أوقاته خارج البيت، اشعر أنني أعيش في سجن، لم اسمع منه كلمة حب، كثير الشجار والخصام ...
· زوجة مغترب تقول: زوجي مغترب عني بالأعوام وإذا اتصل بي لا يخلو اتصاله من العتاب يتجاهل أني احتاج إليه احتاج إلى قربه افتقد رؤيته، النساء حولي ينعمن برؤية ازواجهن وأنا يمر علي العام تلو العام لم اكتحل برؤيته .
· ذكر لي أحد الإخوة المغتربين أن زوجته إذا اتصل عليها تقول له لا اريد مالاً أريدك أنت وتختم اتصالها بالبكاء وكفيلي لم يسمح لي بالسفر إلا بعد شهرين فماذا افعل ؟
· أبن يشتكي: ابي يشتمني يعنفني يضربني أمام إخوتي، احتمي بأمي ومع ذلك لا يتورع عن ضربي وتقبيحي والسخرية مني فلا تملك أمي إلا انت تشاركني البكاء كرهت الحياة أتساءل: أبي لماذا تريدني أن اكرهك؟
· سُأل أحد السجناء عن سبب دخوله السجن: فقال أبي سامحه الله الذي كان يغذيني القسوة مع الطعام والشراب كرهت أسرتي كرهت البيت، امتلأ قلبي حقداً على المجتمع الذي أعيش فيه ...
· شاب في الثانوية يقول زارني زميلي يوماً فتمازحت مع أبي وتعاركنا عراكاً شديداً وامتلأ المجلس بالأنس والضحك فقال لي زميلاي ليت أبي مثل أبيك ليته يعاركني وضمني إلى صدره إنني أخاف من نظراته رغم حبي الشديد له.
· سألت طفلاً يوماً: أين والدك قال ببراءة طفولية: الحمد لله أبي مسافر، قلت له: كيف تفرح بسفر أبيك فقال: نرتاح من المشاكل ولو يومين.
اللهم املأ بيوتنا بالرحمة والمحبة والوداد والرفق، وانزع من قلوبنا البغضاء والقسوة والفظاظة يا حي يا قيوم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
عباد الله تلك صور واقعية تكشف بعض الناس وكشف قبح القسوة والفضاضة وخطرها على الأسرة والمجتمع وتوجب على المربين أن يجهدوا في اقتلاع القسوة من البيوت وزرع الرحمة والمحبة فيها، للسلامة من أثار القسوة المدمرة يقول احد المربية عن آثار القسوة على الأسرة : كراهية الأطفال لمنازلهم وأسرهم، وعدم الرغبة في البقاء فيها، أو استمرار حياتهم مع والديهم أو ذويهم، ومن هنا يفرون إلى الشوارع والطرقات، حيث يجدون حرية أوسع وأكبر، الأمر الذي يعرضهم إلى الكثير من ألوان الانحرافات السلوكية والفكرية المختلفة، أو أن يمارسوا ألواناً من السلوك المضاد للمجتمع ، يُعَدّ التشرد والإجرام أبرزها وأوضحها .
والقصص تكشف أيضاً :أن الرحمة أعظم ما ينبغي أن يعامل به المرء من يخالطهم و أنه لا ينال رحمة الله حتى يعاملهم بذلك و لذا قال صلى الله عليه و سلم : ((من لا يرحم لا يرحم ) وما اجمل قول ابن القيم رحمة الله : من رفق بعباده رفق به ومن رحم خلقه رحمه ومن أحسن إليهم أحسن إليه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ومن سترهم ستره ومن صفح عنهم صفح عنه ومن تتبع عورتهم تتبع عورته ومن هتكهم هتكه وفضحه ومن منعهم خيره منعه خيره ومن شاق شاق الله تعالى به ومن مكر مكر به ومن خادع خادعه ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه .
المرفقات
1672268610_بين نار القسوة و برد الرحمة.docx