بين قلبين
عاصم بن محمد الغامدي
1438/08/16 - 2017/05/12 08:40AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بسط الأرضَ الفسيحة، وقدَّر الأعمالَ الحسنة والقبيحة، وأقام على وحدانيته البراهينَ الصريحة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يُسَبِحُ لَهُ مَن فِي السَماواتِ والأرضِ والطَيرُ صافّاتٍ كُلٌ قَد عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسبِيحَه}، وصلى الله وسلم على خير خلقه، وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، أما عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرِّ والعلن، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عباد الله:
العلاقة بين المسلمين من ركائز الدين، فمن أول ما بدأ به الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه حين وصل المدينة، مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، حتى ذابت العصبياتُ الجاهلية، وسقطت فوارق النسبِ واللونِ والوطنِ، وألغيت الطبقية بين أفراد المجتمع.
وكان من أبرز آثار تلك المؤاخاة ازديادُ التلاحمِ بين المسلمين، وتقاربُ قلوبِهم ونفوسِهم، حتى قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، فكرَه النبي عليه الصلاة والسلام إضرارهم بإخراجِ رقبة مالهم من أيديهم، فَقَالَ لهم: «لاَ»، فَفهم الأنصار رضي الله عنهم مقصد النبي عليه الصلاة والسلام فجمعوا بين مصلحتهم ومصلحة إخوانهم وقالوا للمهاجرين: تَكْفُونَا المَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. [رواه البخاري].
بل كان الأنصاري يبذل لأخيه أكثر من ذلك، فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخى بَيْنَ عبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا».
ولم يكن هذا البذلُ حالَ سعدِ بن الربيع رضي الله عنه بمفردِه، بل هو حال الأنصار كلِّهم، فقد مدحهم الله تعالى في كتابه الكريم بحب إخوانهم، وإيثارهم على أنفسهم، وسلامة صدورهم، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
عباد الله:
مفتاحُ الجنةِ الإيمان، ومفتاح الإيمانِ المحبةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
والمحبة بين المؤمنين تقتضي ترابط قلوبهم، وصفاءها لبعضهم، حتى يحبَّ كلُّ واحد منهم لأخيه في دينه وصحته وعلمه وراحته وكل شؤونه ما يحبه لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». [رواه البخاري ومسلم].
والمحبةُ في الله أساسها التعاون على تحقيق مقصود الله في الأرض، فإذا رأيت محبتك لأخيك تزيد بما تراه من عبادته، وتنقص بما تراه من قلتها، فاعلم أنها محبة لله، وإن رأيتها لا تتغير مع تغير حال طاعته وعبادته، فراجع قلبك ومحبتك.
والمحبةُ عقدُ تصافٍ بين القلوب، يقتضي إلغاءَ الروابطِ التي تؤثر على رابطة المحبة الإيمانية، اعتصامًا بحبل الله المتين، ومن ركائز هذا العقدِ بذلُ النصيحةِ للمسلمين، ونصرتُهم وتلمسُ حاجاتِهم، ومشاركتُهم أفراحَهم وآلامَهم.
آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -وكان ذلك قبل فرضِ الحجاب- فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَسلمانَ طَعَامًا، فَقَالَ له سلمانُ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ سلمان: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ له سلمان: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، ثمَّ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى أبو الدرداء النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ». [رواه البخاري].
والمحبةُ بحاجة إلى دُربةٍ وتعوُّد، ومن أفضل ما يُعَوِّدُ به الإنسان نفسه على المحبة، إفشاءُ السلام، وتصفيةُ قلبه من الأدواء، وإعلانُ محبَّتهم.
أخذَ رَسُولَ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه، وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أن تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ». [رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب].
والزيارة في الله سبب للمحبة وترابط القلوب، عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رجلا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له، على مدرجته، ملكًا فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه". [رواه مسلم].
ومن المحبة في الله، الدعاء لأخيك، والفرح لفرحه، والتألم لألمه، ونصحه، وتعليمه، والذبُّ عنه، وقبولُ نصيحته، وإدخالُ السرور على قلبه بما لا يخالف شرع الله سبحانه.
أيها المسلمون:
نحن بحاجة إلى إثارة هذه المعاني في نفوسنا، وبثِّها بين أولادنا وأهلنا، فقد كثرت في زماننا المشتتات، وزادت بين القلوب المنفرات.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، أما بعد، عباد الله:
فليس من المحبة في الله الحبُّ العاطفي المفرغ من الجوانب الإيمانية العملية، ولا التماس العذر للمحبوب في كل الأحوال وكأنه معصومٌ لا يخطئ، ولا زيادةُ تدليل الأولاد وإهمالُ تربيتهم الصحيحة، ولا نصرةُ الظالم، أو إعانتُه على ظلمه بتخطيط أو تأييد أو مكر، فالحب في الله حبٌ خالصٌ، يستظل به المتحابون في ظلِّ الرحمن يوم لا ظلَّ إلا ظله، ويغبطهم على مكانتهم النبيون والشهداء، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ". [رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعن أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ رحمه الله قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ بالشَّامِ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا، وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بكَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ. فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ. فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ". [رواه أحمد بإسناد صحيح].
فاملؤوا قلوبكم بمحبة إخوانكم، وتأسوا بسيرة الخيار من قبلكم، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.[/align]
الحمد لله الذي بسط الأرضَ الفسيحة، وقدَّر الأعمالَ الحسنة والقبيحة، وأقام على وحدانيته البراهينَ الصريحة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يُسَبِحُ لَهُ مَن فِي السَماواتِ والأرضِ والطَيرُ صافّاتٍ كُلٌ قَد عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسبِيحَه}، وصلى الله وسلم على خير خلقه، وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، أما عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرِّ والعلن، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عباد الله:
العلاقة بين المسلمين من ركائز الدين، فمن أول ما بدأ به الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه حين وصل المدينة، مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، حتى ذابت العصبياتُ الجاهلية، وسقطت فوارق النسبِ واللونِ والوطنِ، وألغيت الطبقية بين أفراد المجتمع.
وكان من أبرز آثار تلك المؤاخاة ازديادُ التلاحمِ بين المسلمين، وتقاربُ قلوبِهم ونفوسِهم، حتى قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، فكرَه النبي عليه الصلاة والسلام إضرارهم بإخراجِ رقبة مالهم من أيديهم، فَقَالَ لهم: «لاَ»، فَفهم الأنصار رضي الله عنهم مقصد النبي عليه الصلاة والسلام فجمعوا بين مصلحتهم ومصلحة إخوانهم وقالوا للمهاجرين: تَكْفُونَا المَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. [رواه البخاري].
بل كان الأنصاري يبذل لأخيه أكثر من ذلك، فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخى بَيْنَ عبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا».
ولم يكن هذا البذلُ حالَ سعدِ بن الربيع رضي الله عنه بمفردِه، بل هو حال الأنصار كلِّهم، فقد مدحهم الله تعالى في كتابه الكريم بحب إخوانهم، وإيثارهم على أنفسهم، وسلامة صدورهم، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
عباد الله:
مفتاحُ الجنةِ الإيمان، ومفتاح الإيمانِ المحبةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
والمحبة بين المؤمنين تقتضي ترابط قلوبهم، وصفاءها لبعضهم، حتى يحبَّ كلُّ واحد منهم لأخيه في دينه وصحته وعلمه وراحته وكل شؤونه ما يحبه لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». [رواه البخاري ومسلم].
والمحبةُ في الله أساسها التعاون على تحقيق مقصود الله في الأرض، فإذا رأيت محبتك لأخيك تزيد بما تراه من عبادته، وتنقص بما تراه من قلتها، فاعلم أنها محبة لله، وإن رأيتها لا تتغير مع تغير حال طاعته وعبادته، فراجع قلبك ومحبتك.
والمحبةُ عقدُ تصافٍ بين القلوب، يقتضي إلغاءَ الروابطِ التي تؤثر على رابطة المحبة الإيمانية، اعتصامًا بحبل الله المتين، ومن ركائز هذا العقدِ بذلُ النصيحةِ للمسلمين، ونصرتُهم وتلمسُ حاجاتِهم، ومشاركتُهم أفراحَهم وآلامَهم.
آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -وكان ذلك قبل فرضِ الحجاب- فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَسلمانَ طَعَامًا، فَقَالَ له سلمانُ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ سلمان: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ له سلمان: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، ثمَّ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى أبو الدرداء النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ». [رواه البخاري].
والمحبةُ بحاجة إلى دُربةٍ وتعوُّد، ومن أفضل ما يُعَوِّدُ به الإنسان نفسه على المحبة، إفشاءُ السلام، وتصفيةُ قلبه من الأدواء، وإعلانُ محبَّتهم.
أخذَ رَسُولَ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه، وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أن تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ». [رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب].
والزيارة في الله سبب للمحبة وترابط القلوب، عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رجلا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له، على مدرجته، ملكًا فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه". [رواه مسلم].
ومن المحبة في الله، الدعاء لأخيك، والفرح لفرحه، والتألم لألمه، ونصحه، وتعليمه، والذبُّ عنه، وقبولُ نصيحته، وإدخالُ السرور على قلبه بما لا يخالف شرع الله سبحانه.
أيها المسلمون:
نحن بحاجة إلى إثارة هذه المعاني في نفوسنا، وبثِّها بين أولادنا وأهلنا، فقد كثرت في زماننا المشتتات، وزادت بين القلوب المنفرات.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، أما بعد، عباد الله:
فليس من المحبة في الله الحبُّ العاطفي المفرغ من الجوانب الإيمانية العملية، ولا التماس العذر للمحبوب في كل الأحوال وكأنه معصومٌ لا يخطئ، ولا زيادةُ تدليل الأولاد وإهمالُ تربيتهم الصحيحة، ولا نصرةُ الظالم، أو إعانتُه على ظلمه بتخطيط أو تأييد أو مكر، فالحب في الله حبٌ خالصٌ، يستظل به المتحابون في ظلِّ الرحمن يوم لا ظلَّ إلا ظله، ويغبطهم على مكانتهم النبيون والشهداء، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ". [رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعن أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ رحمه الله قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ بالشَّامِ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا، وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بكَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ. فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ. فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ". [رواه أحمد بإسناد صحيح].
فاملؤوا قلوبكم بمحبة إخوانكم، وتأسوا بسيرة الخيار من قبلكم، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.[/align]