بين عمق التأثر والأسى وترك العمل! .. عَليّه الجهني

الفريق العلمي
1440/12/26 - 2019/08/27 11:41AM

ما أعمق الحياة وما أكثر صفحاتها وألوانها التي تُلبسنا إياها!! ونحن معها ما بين ارتسام ابتسامة وتقوسها، ونمو شعور جميل وقطفه، وسعادة روحٍ وشقائها، ولا نعرف لونًا للحياة آخر، فهي دائمًا في تقلب..

 

دعنا ننتقل سويةً على بساط لون بهيِّ من ألوانها، فنتصبَّغ به، ونزيلهُ من أرواحنا بكل خفة!

حديث اليوم، ليس حديثُ صابغ ألوان على عمارة قيد البناء، في أحد الأزقة، وإنما حديثٌ قد يُصبغ بأرواحنا دونما إذن منا! فإما يزيدُها إشراقًا أو عتمة، كما هو شأن الأصبغة ..

 

كن على يقين أنك ستصطبغ بلون يليق بك، تنثرُ على قسماته لامعاً تتألق به، ما أن يراك الرأي من بعيد إلا ابتسم وأشرق لشروقك!

 

تعودنا على جمود المعاني، وعلى شدة الألفاظ والأحكام الشرعية، وليست هي الدين ولا الدين بهذا الشكل القاتم؛ لذلك تراني أُحاول أن أُقدم لك بمُقدمة تليق به: (الألوان - الأصباغ - الشروق - الابتسامة - اللمعة - البناء ... إلخ)، هذا هو الدين حينما تراه بعيّن المصلح والإصلاح، ليس هو على الإطلاق : (العتمه - الحرب - الجمود - الحرمان - الحرام ... إلخ)، وإنما هو كما تراه أنت!، أنت تُجمِّله، وأنت تُسيء له! .. لا يأخذنا الحديث بعيدًا عن الألوان وجمالها.

 

دعنا نعود أدراجنا قليلاً، ودعنّي أفترض أنه جاءك، على الواتساب أو التويتر أو قرأت في كتاب أو شاهدت في التلفاز، أو في أي مكان كان، المهم أنك رأيت مقطعاً أثارك وأثّر بك وفيك، أيما تأثير!

 

هب أن هذا المقطع دينيّ، ولفرط تأثرك، توجهت سريعًا لإرساله ومشاركته مع أقرب صديق، أو لربما لكل من عرفت، عله يُلامس فيهم الشعور الذي لامسك، فتسكته! يعصف بهم كما عصف بك، يجذبهم كما جذبك وهزك واصطبغ فيك دون إذن منك!

 

قد يكون هذا المقطع بصيغة نصّ لأحد الكُتاب المعروفين، أو لفذّ مغمور، أو حديث لسيد المرسلين، أو لعله نصُّ لرب العالمين-جلَّ جلاله-؛ وما أكثر نصوصه -جلَّ وعلا- نقرؤها ليل نهار ولا نصطبغ بصبغها المُتفرِّد عن جميع الأصباغ! وما أجمل نصوص الوحيين عن غيرهما من النصوص حينما يخالطُ لونها لونك!

 

‏على أية حال دعنا نكمل حديثنا، هبْ أن ما شاهدته كما أسلفنا كان "مقطعاً عن مشاهد يوم القيامة" وما يتخلله من قوارع تفزع لها القلوب الحية!

 

وما أكثر ما تمر على نواظرنا الآيات والمشاهد ولا نتأثر بها!

 

دعني أعرض عليك شيئاً منها، يقول الله -عزَّ وجلَّ- في ذكر مشاهد يوم القيامة وما يسبقه من الأهوال:

(يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)[المعارج: 8]؛ أي: الفضة المذابة، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)[المعارج: 9]؛أي: الصوف المصبوغ، (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)[المعارج: 10]؛ أي: لا يسأل قريب عن حال قريبه لاشتغاله بنفسه عنه.

 

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)؛ أي: ذهب نورها، (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)؛ أي: تهاوت من السماء، (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ)؛ أي: أُزيلت عن مواضعها، (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)؛ أي: أُهْمِلَتْ وهي أعزَّ ما يملكه العربي ورمزه في قديم الزمان، لفرط روعه أهملها! (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)؛ أي: وإذا الوحوش على تعددها وأشكالها حُشِرت، (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)[التكوير: 1 - 6]؛ أي: وإذا البحار فُجِّرت "اجتمعت من كل صوب، الهادىء والأطلسي والهندي..إلخ، وكل مايخطر ببالك صارت مجتمعه ببحر واحد!

 

 وفي مشهد آخر مُشابِه له (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ)؛ أي: تساقطت، الشمس -القمر- عطارد-الزهرة.. إلخ، تساقطت لكأنما هي حجارة رُمِيت بالسماء فعادت إليك!، يا لله يا لهول المطلع والموقف وشدته، سنن الكون تبدلت بلمح البصر، لا الشمس هي الشمس التي تعرفها ولا البحر هو البحر الذي تعرفه، ولا السماء هي السماء التي اعتادت عيناك عليها!

 

نكتفي إلى هنا ولو تحدثنا لطال بنا المقال والمقام..

 

دعني أشدك معي كما شدتني سورة -عبس-، قال عزَّ من قال: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 33-37].

(إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) الداهية العظيمة وهي نفخة البعث يومها : (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ)، دعنا نقف هنا قليلاً!!

 

حينما يحزنك أمر ويهولك ويتعبك، أتذهب لأخيك لتشاركه همك ويشدُّ من أزرك أم تفر وتهرب منه!!؟

 

(وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) أمك الرؤوم التي منذ فتحت عينيك على هذه الدنيا ما تركتك وحدك، تفديك بنفسها! المهم أن لا يمسك الونى والأذى بجانبها ..، وأبوك الذي منذ طرق صوتك أذنيه، أخذ العهد على نفسه أن لا يتوانى في خدمتك وتوفير سبل العيش الكريم لك! وما أكثر مشاهد برهما لك! أيُحسن بك بعد كل هذا الإحسان أن تفر منهما! بدل أن تفر إليهما!!؟

 

(وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فررت من أخيك ومن أمك وأبيك، أتفر من زوجك وبنيك، الذين تسكن إليهم بعد يوم طويل شاق ترى في أعينهم القرار لروحك وجسدك المنهك! أتفر منهم؟!

 

ممَ تهرب يا أخي؟ ما الذي دهاك؟! تأملَّ معي أرجوك، هربت من أخيك من أمك و أبيك من زوجك وأولادك؟! ما الذي أفزعك؟ هؤلاء أهلك وعشيرتك الأدنون! أين تفر؟!

 

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لكل منهم ما يشغله عن الآخر، من شدة الكرب في ذلك اليوم؟!

 

هل فكرت يوماً بهذه المشاهد ؟! هل صادفت هروباً أقسى من هذا؟!

 

هل جلست يومًا خاليًا تأملت شدة هذا اليوم وحالك فيه!!؟

 

هل استعددت له؟ أم أنه لم يتجاوز مدَّ بصرك في صفحات كتابه -جلَّ جلاله-!

 

هل كنت يوما بين زوجك وأولادك أو أخيك أو صديقك على مائدة يعلوها الحب والقرب والفداء، وجال ببالك هذا اليوم! وحالك فيه! فأطرقت رأسك وعينيك وعلمت أنهم (مَتَاعُ) بهذه الدنيا وأنك سوف تفرُّ منهم، مع شدة حبك لهم!!

 

هنا تعلم حقيقة قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) .

 

في سورة عبس بعد هذه المشاهد التي تنخلع لها القلوب، عرج بعدها إلى ذكر من حاز الفوز الأعظم فقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ).

أكنت تظن بعد هذا الروع والهروب، أن يسفر وجهك ويضيء، أن تضحك وتفرح؟!

 

أيعقل أن يأتي بعد كل هذا الخوف والعتمة، هذا الأمان والضياء!! نعم يأتي برحمته –عز وجل-؟! فاعمل كي تكون بعد هذا الهول ضاحكًا مستبشرًا!

 

ولا تكن كحال المجرم في سورة المعارج، يود لو أن يقدم أولاده وزوجه وأخاه وعشيرته الأقربين للعذاب بدلاً عنه! ومن في الأرض جميعا من الإنس والجن وغيرهما، ثم يسلمه هذا الافتداء وينقذه من النار!

 

ولكن هيهات هيهات فليس الأمر كما تمنى! ثم يأتيك بذكر النار وحرها -وقانا الله وإياكم برحمته منها-، والعرض عليها!!

 

هب أن ما و صلك وطرق حواسك، كما أسلفنا الذكر عن مشاهد يوم القيامة، ففزعت وأفزعت من حولك، علك تطمئن !!

ولكن لنقف قليلاً ونتأمل ما أنت أيها القارئ فاعل بعد هذا الفزع والتأثر، قلي بربك وأجب بينك وبين نفسك ما أنت صانع!

سأجيبك أنا!

ستبقى مدة قليلة ساعةً على الأقل تزيد أو تنقص، ثم يخبو تأثرك ويبهت لونك الذي اصطبغت بهِ بسبب هذا المقطع! وتمضي وتنسى وتلهو وأنت في الحقيقة تقترب لتلك المشاهد! وما أعددت لك زادًا يقيك! لن أكثر عليك الوعظ، كما يفعل الواعظون ولكن أستجدي بك ضميراً داخلك، أشعرك بالأسى لحالك وهزَّك! حافظ عليه أن لا يموت.

 

نحن اليوم في زمن التأثر والأسى والضمير الباكي بلا عمل! ركِّز على آخر كلمة "بلا عمل" لن أطيل عليك الحديث فاذكر أهمية العمل، وحجمه وقدره بالدين والحياة وبكل شيء، أنت "بلا عمل" لن تغادر مطرحك لو مضت عليك القرون وقرعت أذنيك آلاف المواعظ، ستبقى أنت أنت مالم تعمل!!!

 

تسألني يا أخي بعد أن قرعت أذنيك الموعظة ولامستك، ما الواجب عليَّ القيام به؟!

أولاً: أشكر لك ضميرك الحي وخشيتك اليقظة، ووالله إن الأمر جلل والغفلة والشهوات قد أحاطت بنا فأماتت منا الضمير والشعور! فما دام ضميرك يقظاً فهذا مؤشر على فلاحك! ولكن انتبه أن يخبو وأن تميته بكثرة عرض الفتن والشهوات عليه فلا يتأثر بعد ذلك!

 

ثانياً: حافظ على مستوى التأثر والإيمان في قلبك! ذهبت فأرسلت المقطع، تأثر غيرك وربما عمل وأعدَّ العدة؟! ولكن أنت؟! أولى بها منه! -أعد عدتك- تذكر أنها رسالة الله لك وما أكثر رسائله! يريد أن يوقظك، أن يقربك لكي يضحكك في يوم البكاء، ويؤمنك يوم الفزع الأكبر، ويكون لك كل شيء!! يوم تفر من كل شيء!

 

الله ربك قريب منك يراك ويسمعك ويعد لك فأعنه على نفسك!.

 

رابعاً : العمل العمل العمل، تأثرت حزنت وأحزنت ثم ماذا؟! نسيت، غفلت، عصيت!! فلا زاد إيمان ولا نقص!

 

عدت لتأخير الصلوات! ووادي "الويل" الذي لو أدخلت الجبال به لذابت من شدة حره! ينتظرك!

 

عدت لقطع رحمك ونسيت كلاليب الصراط تنتظرك.

 

هجرت القرآن، وما علمت أنه نورك الذي تمشي به على ظهر جهنم.

 

قل لي بربك ما فائدة التأثر بلا عمل؟!، ما نفع الأسى بلا هدى!! وأين من شاركتهم ذلك المقطع عنك في تلك الأحوال عصمني الرحيم برحمته وإياك منها.

 

خامساً: تفقد حالك، أسرع بإصلاح الخطأ، قُصَّ عنق المعصية بالتوبة، أتبع الحسنة السيئة تمحها، لن أطيل عليك النصح افتح محرك البحث "يوتيوب" ترى العجب وانظر إلى حالنا ترى الأعجب!، وما ذاك إلا أنَّ أكثرنا المواعظ والحديث بلا عمل، نسكته بالتأثر والأسى الذي ما يلبث أن يمضي ويتركك بلا قيمة!!

 

هذه صبغة مقطع مرّ بك ولون من ألوان الحياة، فلا تدعه يغادرك دون أن تضيف عليه لمستك وتضيء قلبك بلمعته.

 

يقول عزَّ من قائل ومنتهى المنال والمطلب للعباد في هذه الدنيا: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[البقرة: 138]؛ ما معنى الصبغة هنا؟ هي دين الله –عزَّ وجلَّ- هي هويتك! التي تمشي بها إليه بين هذه الجموع الغفيرة إليه.

لماذا سمى الله الدين بالصبغة؟! لظهور أعماله وسمته على المسلم، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب!

 

يجدر بكل منا أن يسأل نفسه، إلى أي مدى تظهر صبغة الإسلام وسمته عليِّ؟! هل تظهر جليه في تعاملاتي وأخلاقي وهمتي واهتماماتي؟ أم أنا بحاجة إلى أن أجدد صبغ نفسي به من جديد!!؟

 

أعتذر لك أطلت الحديث عليك في زمن السرعة، تفقد يا أخي صبغتك ولونك! أشرق بدينك، ودعه يشرق من خلالك!.. والسلام.

 

المصدر/ صيد الفوائد

المشاهدات 505 | التعليقات 0