بين حياتين
شايع بن محمد الغبيشي
بين حياتين
الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشر الأنبياء وخاتم المرسلين لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد: عباد الله أوصيكم بلزوم تقوى الله حتى نلقاه قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ))
تأملوا عباد الله قول أهل الجنة بعد أن دخلوها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 34، 35]
فمن هدايات هذه الآية أن دار الدنيا يشوبها الحزن والنصب واللغوب ولذا لا بد للعبد من أن يوطن نفسه فيها على المنغصات والكروب والأقدار المؤلمة.
جبلت على كدر وأنت تريدها ،،، صفواً من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ،،، متطلبٌ في الماء جذوة نار
فالعيش نوم والمنية يقظة ،،، والمرء بينهما خيال سار
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت ،،، منقادة بأزمة الأقدار
هذه سنة الله في الحياة {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: ٣٥]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٥]؛ وواجبنا تجاه هذه الابتلاءات:
أولاً: الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، قال سبحانه:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: ١٥٥، وقد كان من دعائه النبي صلى الله عليه وسلم: «وأسألك الرضا بعد القضاء».
قال الشافعي: دع الأيام تفعـل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضـاء
ولا تجـزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقـاء
ثانياً: اعتقاد أن الشر ليس إلى الله فلا ينسب إليه سبحانه فهو يبتليك ليعافيك، ويمرضك لينجيك، ويضيق عليك ليرفعك في الآخرة، وينزل عليك الكرب ليستخرج عبوديتك له. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «والخير كله في يديك، والشر ليس إليك» ألقي يوسف في الجب وبياع في السوق وخدم في قصر العزيز ودخل السجن، ليصبح عزيز مصر وينال الملك والسؤدد فابتهل إلى ربه قائلاً: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101]
وألقت أم موسى وليدها في اليم خوفاً من فرعون وجنده، فالتقطه آل فرعون وقاموا على تربيته وحمايته، ورجع إلى أمه لا خوف عليه ولا وجل، بل رد إليها وتولت تربيته ورضاعته {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40]
وخرج من مصر خائف يترقب وتوجه تلقاء مدين غريباً لا يعرف أحد سقى للفتاتين وفي ظل الشجرة لهج إلى ربه {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فنال الأمن والمسكن والعمل والزوجة وبعد طول الاغتراب نال الاصطفاء {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ونال الاختيار: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ونال الاصطناع { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ونال المحبة والصنع على عين الله{{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وشواهد هذا الدرس كثيرة كثيرة فكم في طيات الكرب من فرج وكم في طيات المحن من منح.
ثالثاً: التفاؤل بالخير وتغيّر الحال وعدم اعتقاد دوامه:
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
وكم أمــر تُســاءُ له صــباحاً وتأتــيك المســـرة بالعـشي
قال أبو الدرداء رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}: من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين.
وعبيد بن عمير: من شأنه أن يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويشفي سقيماً.
لذلك كان القنوط من رحمة الله ضلالاً وكفراناً، {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: ٥٦]، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].
فدوام الحال من المحال، والله يغير أحوال العباد من قدر إلى قدر بما لا يفطن إليه عقل، وربما أتى الخير من حيث كان الشر، وخرجت المنحة من رحم المحنة، وانطلق الفرج من مضيق الشدة،
ولَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله واشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد:
عباد الله ومن هدايات الآية أن الحياة الحقيقية والنعيم العاري عن التنغيص والهموم والتعب والنصب إنما يكون في جنة الله قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لهي الحياة الحقيقية: الدائمة النعيم، الباقية السرور والحبور؛ الجديرة بأن تسمى حياة لأنه لا موت فيها ولا تنغيص
سؤل بعض الصالحين: "متى يجد العبد طعم الراحة؟"، قال: "عند أول قدم يضعها في الجنة"
وقد دخل عمر رضي الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ ) رواه البخاري.
متى ندرك يا عباد الله أن دارنا الحقيقية هي جنة المأوى التي ينبغي أن نعمل لهم فإذا فارقنا الحياة انتقلنا إليه {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها **** إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها **** وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها
واعمل لدار غدا رضوان خازنها **** والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها **** والزعفران حشيش ثابت فيها
أنهار ها لبن محض ومن عسل **** والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الاغصان عاكفة **** تسبح لله جهرا في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها **** بركعة في ظلام الليل يحيها
المرفقات
1689630543_بين حياتين.pdf