بين القطرة واليم

شايع بن محمد الغبيشي
1444/12/26 - 2023/07/14 00:54AM

بين القطرة واليم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد:

 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1])

ماذا لو أن عبداً من عباد الله جُلبت له كل نعم الدنيا فملك أفخم وأفخر القصور وأجمل الدور، أُجريت له الأنهار وعملت له الحدائق والبساتين، وجمع أمول الدنيا من نقود ومجوهرات وذهب وفضة وأجري عليه الخدم، وتزوج أجمل نساء الدنيا، وعاش مئة عام يرتع في هذا النعيم ويتمتع في صحة وعافية ورخاء وقُرة، يتقلب ما بين نعيم الملبس والمشرب والمسكن والمنكح لو عاش كذلك فما نسبة هذا النعيم إلى نعيم الآخرة؟

يجيب على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يحلف يميناً فيقول: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع؟» رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد

قال النووي رحمه الله: ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر

تأمل :يدخل أصبعه في اليم في بحر متلاطم فبماذا يخرج من ذلك اليم؟ يخرج بقطة تبلل أصبعه، فالقطرة هي الدنيا وذلكم البحر المتلاطم هو الآخرة .

ما النسبة إخوتي الكرم ؟ ما نسبة الدنيا إلى الآخرة ؟ هذا هو مقياس الدنيا إلى الآخرة يحلف عليه محمد صلى الله عليه وسلم .

لو أن الذي عاش مئة عام في الدنيا يلتذذ بنعيمها ؟ ما نسبة عيشه إلى بقائه في القبر؟ البقاء في القبر مئات الأعوام وما نسبة العيش مائة عام إلى الوقوف في عرصات يوم القيامة ؟

يجيب على ذلك ربنا جل وعلا فيقول : {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ([2])

ثم ما نسبة العيش مائة عام إلى المصير والنهاية إما إلى جنة وإما إلى نار، خلود الأبد {خالدين فيها أبداً }. إن هذا المثل النبوي يخاطب عقل المسلم إلى أن يقف مع نفسه وأن يجعل الدنيا في ميزانها الحقيقي، وأن يعلم أنه مهما مُتّع، مهما رتع في اللذة مهما نُعّم فإن هذه الدار مشوبة بالكدر وهو منها راحل .

إن من دروس هذا المثل هوان الدنيا على الله فالدنيا لا تساوي شيئاً عند ربنا جل و علا لا تساوي بلل الأصبع ولذلك سماها الله متاع قال الله تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} ([3]) وقال جل وعلا : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ([4])

إخوتي الكرام ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالسوق والناس كنفيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: والله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» رواه مسلم، وعن سهل بن سعد، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عندَ الله جناح بعوضةٍ، ما سقى كافراً منها شربةً) رواه الترمذي

 قال الفضل: استدعى هارون الرشيد أبا العتاهية يومًا وقد زخرف منازله، وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم ، فقال : 

عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور

يُسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح إلى البكور

فإذا النفوس تقعقعت ... عن ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنًا ... ما كنت إلا في غرور

قال : فبكى الرشيد بكاء كثيرًا شديدًا ، فقال له الفضل بن يحي : دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته ! فقال له الرشيد : دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.[5]

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:

عباد الله ومن دروس الخبر: عظم مكانة الآخرة وأنها هي دار العبد الحقيقية ومسكنه الحقيقي والعاقل من اشتغل في الاستعداد لها قال تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ([6]) أي حياة العبد الحقيقية. قال الإمام ابن رجب: السابقون بالخيرات بإذن الله فهموا المراد من الدنيا، وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ([7]) .

فالفهم الحقيقي للدنيا أن نعمرها بطاعة الله عز وجل ونستمتع بما فيها من ملذات بعيداً عن معصية الله التي هي الضيق والشقاء والتعاسة، ونتمثل قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ([8])  وما أجمل قول الشاعر:

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ... أن السعادة فيها ترك ما فيها 
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ...  إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ...    وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها ....     فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غدا رضوان خازنها  .... والجار احمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها ....   والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل ....  والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة .... تسبح الله جهرا في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها ... بركعة في ظلام الليل يحييه

 



([1])  [آل عمران : 102].
([2]) [الحج: 47]
([3]) [الرعد: 26]
([4]) [الحديد: 20]
[5] / البداية والنهاية ( 10 / 217 ، 218 )
([6]) [العنكبوت: 64]
([7]) [الملك: 2]
([8]) [القصص: 77]

 

المرفقات

1689285280_بين القطرة واليم.pdf

المشاهدات 562 | التعليقات 0