بين الفلوجة وهيروشيما
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1431/08/02 - 2010/07/14 12:26PM
بين الفلوجة وهيروشيما
سلام الشماع
سجلت مدينة الفلوجة العراقية لنفسها دوراً مشرفاً في مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق بحيث أنها دوخت أعتى قوة في العالم وجعلت سمعتها تتمرغ في التراب.
ورغم أن ذلك لم يكن من دون ثمن، إلا أن الفلوجة الحرة وجدت أن دفع هذا الثمن مهما كان باهظاً هو أشرف وأفضل من الاستكانة لإملاءات الأجنبي الذي وطئ أرض الوطن بدباباته وعبيده وموبقاته و''ديمقراطيته'' المزعومة التي لم تجلب إلا الموت والدمار للعراق.
أريد من خلال هذه الكلمات الدخول إلى الحديث عن دراسة أنجزتها ملك حمدان وجريس بوسبي ونُشرت نتائجها في المجلة الدولية للدراسات البيئية والصحة العامة بازل- سويسرا بخصوص الأوبئة التي يعاني منها سكان الفلوجة، والتي ترجمها الدكتور عبدالوهاب حميد رشيد.
هذه الدراسة أظهرت زيادة في السرطان، سرطان الدم، وفيات الرضع، اضطرابات في الولادات الطبيعية أكثر إضراراً من الإصابات التي أُعلنت للناجين في هيروشيما وناغازاكي العام 1945!! فالسنوات الخمس التي أعقبت هجمات العام 2004 للقوات الأمريكية على المدينة تسببت بمضاعفة أشكال السرطان كافة أربع مرات.
ومن المثير للاهتمام، أن نوع السرطان مماثل للذي أصيب به الناجون في هيروشيما والذين تعرضوا للإشعاع الأيوني الناجم عن إلقاء القنبلة الذرية من الجو وغبار اليورانيوم المتولد عنها.
وبلغ عدد وفيات الرضع 80 وفاة لكل ألف ولادة مقارنة بـ19 وفاة في مصر و17 في الأردن و7,9 في الكويت، إلا أن النتيجة المهمّة تمثلت في نسبة الجنوسية، وهذه النسبة بين السكان في الحالات العادية تشكل دائماً 1050 ذكوراً مقابل 1000 إناث، انخفضت هذه النسبة بحدة بين الولادات في الفلوجة وبنحو مفاجئ بعد العام 2005 إلى 350 ذكوراً فقط، ومعنى ذلك عدم قدرة هؤلاء الأطفال على الحياة.
وبالمثل انخفضت نسبة الجنوسية في هيروشيما بالعلاقة مع الأطفال الناجين، ووفقاً للدكتور بوسبي- أستاذ زائر/ جامعة ألستر، والمدير العلمي لمراجعة الحسابات الخضراء وهي منظمة مستقلة في مجال البحث البيئي فإن ''هذه نتائج استثنائية غير عادية ومثيرة للقلق. و''لخلق تأثير كهذا لابد وأن حصل تعرض لشيء خطر العام 2004 نتيجة الهجوم، ونحن نحتاج لمعرفة ذلك (السلاح المستخدم)''، و''على الرغم من أن الكثيرين يشكّون في استخدام اليورانيوم، لا نستطيع أن نكون جازمين من دون إجراء دراسات أبعد وتحليل مستقل لعينات من المنطقة''.
وقالت ملك حمدان التي نظمت المشروع: ''أنا سعيدة كوننا استطعنا الوصول إلى تأكيد علمي بشأن الأدلة كافة التي لم تكن مؤكدة من السرطان والعيوب الخلقية. ربما يستيقظ المجتمع الدولي الآن''.
لكن الفلوجة البطلة لم تدفع هذا الثمن إلا بعد أن جعلت أمريكا تدفع أثماناً باهظة لعدوانها على العراق ومن ثم احتلاله وتدميره، ولعل أقلّ هذه الأثمان أن مدينة عراقية صغيرة مرغت في الوحل وجه أعظم دولة في العالم بقوتها الغاشمة التي ترهب بها العالم كله.. ووصف ذلك بدقة صوت العراق العالي الشاعر الكبير عبد الرزاق عبدالواحد حينما قال في قصيدته (دمع لبغداد):
دَمعٌ لـِفـَلـُّوجـَةِ الأبطال.. ما حَمَلـَتْ
مَديـنـَة مِن صِفـاتٍ، أو عـَنـاويـن
لـِلـكِبريـاءِ..لأفعـال الـرِّجـال بـِهـا
إلا الـرَّمادي.. هـَنـيـئـا لـِلـمَيـامينِ!
وَمـَرحـَبـاً بـِجـِبـاهٍ لا تـُفــارِقـُهـــا
مـَطـالـِعُ الـشـَّمس في أيِّ الأحـايينِ
لم تـَألُ تـَجـأرُ دَبـَّابـاتـُهـُم هـَلــَعـــاً
في أرضِها وهيَ وَطـْفاءُ الـدَّواوينِ
ما حَرَّكوا شَعرَةً مِن شَيبِ نَخوَتِها
إلا وَدارَتْ عـَلـَيهـِم كـالـطـَّواحـيـنِ!
لكن جرائم أمريكا طالت العراق كلّه من شماله إلى جنوبه ومن شـرقه إلى غربه، حتى الجنوب المقاوم الذي يعمدون إلى إظهاره مسالماً خانعاً راضياً بالاحتلال -حاشا رجاله الشجعان- دفع أثماناً كبيرة نتيجة العدوان، ومعروف أن الجنوب العراقي إذا لم يقاوم فلا مقاومة في البلاد، لأن العراق، تاريخياً، لم يتحرر من الاحتلالات التي شهدها إلا من جنوبه، وإذا لم تحقق انتفاضات الجنوب على الاحتلال وأزلامه إلى الآن أهدافها المرجوة، فإن شرارة من شرارات الجنوب ستلهب العراق يوماً ويطرد المحتل كمثل ما حصل مع الاحتلالات السابقة منذ ما قبل التاريخ إلى الآن.
فإذا أجريت دراسة مماثلة للتي أجريت على الفلوجة في مناطق الجنوب والوسط والشمال فسيظهر منها أن السرطانات والأمراض الخطرة انتشرت في العراق بعد الاحتلال وبسببه انتشار النار في الهشيم بسبب الأسلحة المحرمة التي استخدمتها أمريكا، التي غزت العراق أصلاً بدعوى البحث عن أسلحة محرمة، ثم بان كذب ادعائها.
إن هذا الواقع يدمي القلب..
لكن ما أدمى قلبي أكثر أني رأيت، في صحيفة عربية، صورة لفتاة عراقية لا يتجاوز عمرها العشر سنوات مشردة في الشوارع وتجلس على رصيف وهي تضع على أنفها وفمها كيساً بلاستيكياً مليئاً بمادة الصمغ تشمه بعمق لكي تغيب عن واقعها المؤلم.
وكم من أطفال العراق شردوا بعد أن فقدوا آباءهم وأمهاتهم في أبشع جريمة ارتكبت ضد شعب العراق..
ومازال الضمير العالمي نائماً..
المصدر: صحيفة الوطن البحرينية
سلام الشماع
سجلت مدينة الفلوجة العراقية لنفسها دوراً مشرفاً في مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق بحيث أنها دوخت أعتى قوة في العالم وجعلت سمعتها تتمرغ في التراب.
ورغم أن ذلك لم يكن من دون ثمن، إلا أن الفلوجة الحرة وجدت أن دفع هذا الثمن مهما كان باهظاً هو أشرف وأفضل من الاستكانة لإملاءات الأجنبي الذي وطئ أرض الوطن بدباباته وعبيده وموبقاته و''ديمقراطيته'' المزعومة التي لم تجلب إلا الموت والدمار للعراق.
أريد من خلال هذه الكلمات الدخول إلى الحديث عن دراسة أنجزتها ملك حمدان وجريس بوسبي ونُشرت نتائجها في المجلة الدولية للدراسات البيئية والصحة العامة بازل- سويسرا بخصوص الأوبئة التي يعاني منها سكان الفلوجة، والتي ترجمها الدكتور عبدالوهاب حميد رشيد.
هذه الدراسة أظهرت زيادة في السرطان، سرطان الدم، وفيات الرضع، اضطرابات في الولادات الطبيعية أكثر إضراراً من الإصابات التي أُعلنت للناجين في هيروشيما وناغازاكي العام 1945!! فالسنوات الخمس التي أعقبت هجمات العام 2004 للقوات الأمريكية على المدينة تسببت بمضاعفة أشكال السرطان كافة أربع مرات.
ومن المثير للاهتمام، أن نوع السرطان مماثل للذي أصيب به الناجون في هيروشيما والذين تعرضوا للإشعاع الأيوني الناجم عن إلقاء القنبلة الذرية من الجو وغبار اليورانيوم المتولد عنها.
وبلغ عدد وفيات الرضع 80 وفاة لكل ألف ولادة مقارنة بـ19 وفاة في مصر و17 في الأردن و7,9 في الكويت، إلا أن النتيجة المهمّة تمثلت في نسبة الجنوسية، وهذه النسبة بين السكان في الحالات العادية تشكل دائماً 1050 ذكوراً مقابل 1000 إناث، انخفضت هذه النسبة بحدة بين الولادات في الفلوجة وبنحو مفاجئ بعد العام 2005 إلى 350 ذكوراً فقط، ومعنى ذلك عدم قدرة هؤلاء الأطفال على الحياة.
وبالمثل انخفضت نسبة الجنوسية في هيروشيما بالعلاقة مع الأطفال الناجين، ووفقاً للدكتور بوسبي- أستاذ زائر/ جامعة ألستر، والمدير العلمي لمراجعة الحسابات الخضراء وهي منظمة مستقلة في مجال البحث البيئي فإن ''هذه نتائج استثنائية غير عادية ومثيرة للقلق. و''لخلق تأثير كهذا لابد وأن حصل تعرض لشيء خطر العام 2004 نتيجة الهجوم، ونحن نحتاج لمعرفة ذلك (السلاح المستخدم)''، و''على الرغم من أن الكثيرين يشكّون في استخدام اليورانيوم، لا نستطيع أن نكون جازمين من دون إجراء دراسات أبعد وتحليل مستقل لعينات من المنطقة''.
وقالت ملك حمدان التي نظمت المشروع: ''أنا سعيدة كوننا استطعنا الوصول إلى تأكيد علمي بشأن الأدلة كافة التي لم تكن مؤكدة من السرطان والعيوب الخلقية. ربما يستيقظ المجتمع الدولي الآن''.
لكن الفلوجة البطلة لم تدفع هذا الثمن إلا بعد أن جعلت أمريكا تدفع أثماناً باهظة لعدوانها على العراق ومن ثم احتلاله وتدميره، ولعل أقلّ هذه الأثمان أن مدينة عراقية صغيرة مرغت في الوحل وجه أعظم دولة في العالم بقوتها الغاشمة التي ترهب بها العالم كله.. ووصف ذلك بدقة صوت العراق العالي الشاعر الكبير عبد الرزاق عبدالواحد حينما قال في قصيدته (دمع لبغداد):
دَمعٌ لـِفـَلـُّوجـَةِ الأبطال.. ما حَمَلـَتْ
مَديـنـَة مِن صِفـاتٍ، أو عـَنـاويـن
لـِلـكِبريـاءِ..لأفعـال الـرِّجـال بـِهـا
إلا الـرَّمادي.. هـَنـيـئـا لـِلـمَيـامينِ!
وَمـَرحـَبـاً بـِجـِبـاهٍ لا تـُفــارِقـُهـــا
مـَطـالـِعُ الـشـَّمس في أيِّ الأحـايينِ
لم تـَألُ تـَجـأرُ دَبـَّابـاتـُهـُم هـَلــَعـــاً
في أرضِها وهيَ وَطـْفاءُ الـدَّواوينِ
ما حَرَّكوا شَعرَةً مِن شَيبِ نَخوَتِها
إلا وَدارَتْ عـَلـَيهـِم كـالـطـَّواحـيـنِ!
لكن جرائم أمريكا طالت العراق كلّه من شماله إلى جنوبه ومن شـرقه إلى غربه، حتى الجنوب المقاوم الذي يعمدون إلى إظهاره مسالماً خانعاً راضياً بالاحتلال -حاشا رجاله الشجعان- دفع أثماناً كبيرة نتيجة العدوان، ومعروف أن الجنوب العراقي إذا لم يقاوم فلا مقاومة في البلاد، لأن العراق، تاريخياً، لم يتحرر من الاحتلالات التي شهدها إلا من جنوبه، وإذا لم تحقق انتفاضات الجنوب على الاحتلال وأزلامه إلى الآن أهدافها المرجوة، فإن شرارة من شرارات الجنوب ستلهب العراق يوماً ويطرد المحتل كمثل ما حصل مع الاحتلالات السابقة منذ ما قبل التاريخ إلى الآن.
فإذا أجريت دراسة مماثلة للتي أجريت على الفلوجة في مناطق الجنوب والوسط والشمال فسيظهر منها أن السرطانات والأمراض الخطرة انتشرت في العراق بعد الاحتلال وبسببه انتشار النار في الهشيم بسبب الأسلحة المحرمة التي استخدمتها أمريكا، التي غزت العراق أصلاً بدعوى البحث عن أسلحة محرمة، ثم بان كذب ادعائها.
إن هذا الواقع يدمي القلب..
لكن ما أدمى قلبي أكثر أني رأيت، في صحيفة عربية، صورة لفتاة عراقية لا يتجاوز عمرها العشر سنوات مشردة في الشوارع وتجلس على رصيف وهي تضع على أنفها وفمها كيساً بلاستيكياً مليئاً بمادة الصمغ تشمه بعمق لكي تغيب عن واقعها المؤلم.
وكم من أطفال العراق شردوا بعد أن فقدوا آباءهم وأمهاتهم في أبشع جريمة ارتكبت ضد شعب العراق..
ومازال الضمير العالمي نائماً..
المصدر: صحيفة الوطن البحرينية