بين الأمس واليوم!

عاصم بن محمد الغامدي
1437/04/13 - 2016/01/23 16:27PM
[align=justify]بين الأمس واليوم.
الحمد لله الذي بسط للعالمين فراش نعمه، وضرب عليهم رواق فضله وكرمه، فهم يتقلبون على مهاد نعمائه، ويتفيؤون ظلال جوده وآلائه، شَرعَ لهم الدين ونَهَجَه، وبَلَّغَ إليهم بَراهينَه وَحُجَجَه، لِيجزيَ الذينَ أساؤوا بما عَمِلُوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، أحمده جل ذكره وأشكره، وأتوب إليه تبارك اسمه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فإنما خلقتم للعمل، لا لجمع المال والخول، فيا سعادة من راقب هجوم الأجل، وكان من دنياه على وجل! ويا شقاوة من غره طول الأمل، وامتداد المُهل؛ فوقع في الزلل، وكثر عليه الخطأ والخطل. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون}.
عباد الله:
كثير من آبائنا وأمهاتنا أدركوا زمنَ الجوعِ، وقلةِ ذاتِ اليدِ، وكثرةِ الحاجة، ولحقوا أيامًا كان أقصى مأمولِ الإنسان فيها أن يجد قليلاً من شعير، أو شيئًا من حشف، يسد به جوعه وجوع عياله.
ولم يكن ذبح الكثير من الأنعام، عادةً للناس في مناسبات الزواج ونحوها، إلى عهد قريب، أدركه كثير ممن يعيشون بيننا من أبناء الأربعين والخمسين.
إنما كانت ذبيحة أو ذبيحتين، تقطع بعد طبخها، وتوزع على الحاضرين قطعًا صغيرة، وربما استبقى منها ما يطعمه أهله، أو يأكله في يوم آخر.
ثم تغير الحال بحمد الله، حتى غدا المرء يحتار أحيانًا من كثرة المطاعم، فتراه في آن واحد يفكر في المشوي والمقلي، ويحتار بين الحلو والمالح، وينوع بين الساخن والبارد.
هل كان أحد يتخيل أن يأتي يوم تكثر فيه جمعيات توزيع فائض الطعام في بلادنا؟
أو أن تصل نسبة الأطعمة في نفايات إحدى مدن المملكة إلى أربعين في المئة؟
ألم يكن الكرم عند آبائنا كرم الأخلاق، والطباع، والنفوس؟
فلماذا أصبح عند الكثيرين كرم الطعام والشراب؟
أليس من الجليّ أن سوء العلاقات الاجتماعية في زماننا مرتبطٌ بما نشأ من التكلف الممجوج؟
وغدا الإكثار من الذبح في الولائم عادة، والبعض يصفُّ الجمال مع الخراف لا لحاجة، بل للتباهي والتفاخر.
ووصل الأمر بالبعض إلى التأفف من الطعام أحيانًا؛ لأنه بائت من اليوم السابق!
والمؤسف أن كثيرًا ممن يفعل ذلك عاش قصص الحاجة والجوع التي كانت منتشرة في بلادنا، أو سمع عنها ممن خبرها، ويعجب المتأمل من اطمئنانهم إلى أحوال الدنيا مع علمهم بما كان.
وقبل وقت قريب برز وجهٌ مخيف لكفر النعمة، يُخشى علينا من مغبة السكوت عنه، وعدم الأخذ على أيدي أصحابه.
شخص ينظف أيدي أضيافه بدهن العود والطيب.
وآخر يسكب السمن على أيدي الآكلين.
وثالث يمزق أكياس النعمة أمام ضيوفه، يوهم نفسه أنه يكرمهم.
ولو كان ببعضهم مروءة لاستتر عن هذه التصرفات، وهو يرى إخوانه يموتون في دولٍ مجاورة جوعًا، ولا يجد بعضهم حتى من ورق الشجر ما يقيم أوده.
أيها المسلمون:
{إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا}.
كي لا نكون من المبذرين، فإنا بحاجة ماسة إلى مراجعة حساباتنا مع أنفسنا وأهلينا، حتى لا يغير الله نعمه علينا، فإنه تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وسنته ماضية، وطريقته لا تحابي أحدًا، وقد قال جل جلاله: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.
ومن المسلّم به أن تلك التصرفات لا تمثل ظاهرة بحمد الله، بل هي تصرفات فردية غير مسؤولة، ولكن وسائل التواصل الحديثة قد توهم باعتياد الناس على فعلها، كما أنها عادات دخيلة، ليست من عاداتنا القبلية الأصيلة، ولا ثقافتنا الاجتماعية النبيلة، إلا أنها منذرة بالخطر، ومشعرة بسوء العاقبة، فأراضينا ومزارعنا وبيوتنا وشوارعنا ليست كمنازل سبأ التي جعلها الله آية، جنتان عن يمين وشمال، يأكلون من رزق الله فيها، وبلدهم طيب، وأسفارهم متقاربة، ورغم ذلك أبدلهم الله النعيم بالخراب، لما كفروا بأنعمه، ولم يشكروها.
أفلا يخشى المؤمن على نفسه وماله والخير الذي يراه، وهو يقرأ خبرهم في كتاب الله، ويرى بعينه ما يفعله بعضُ السفهاء؟
أفلا يخاف من تبدل الحال، وهو يسمع قول الله جل جلاله: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.
عباد الله:
إن بعد هذا النعيم حساب، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة"؟ قالا: الجوعُ يا رسول الله. قال: "وأنا والذي نفسي بيده لأَخرجني الذي أخرجكما، قوموا" فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين فلان"؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني. قال: فانطلق، فجاءهم بعِذق فيه بُسْر وتمر ورطب، فقال: كلوا هذا. وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والحلوب" فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوعُ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم".
عباد الله:
مقاومة التبذير والبذخ واجب على قادة المجتمع، وعقلاء الأمة، وأولياء الأمور، والموفق من علم نفسه وأهله دوام الشكر لله تعالى على نعمائه وفضله.
والشكر ثلاثة أقسام، لا غنى لقسم عن الآخر، شكر بالقلب، بالإيمان بالله تعالى، والإقرار بفضله، وصرف العبادة له.
وشكر باللسان بالإكثار من ذكر الله تعالى، وحمده، والاعتراف المستمر بمنه وفضله.
وشكر بالأفعال بعمل الطاعات، وترك المحرمات.
ولولا عظمة الشكر وأهميته، لما صرف الشيطان همته لصد الناس عنه، {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية.
الحمدلله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله تعالى واشكروه، وتوبوا إليه واستغفروه، فبالتقوى تستمر النعم، وبالطاعة تزداد الخيرات، {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا* يرسل السماء عليكم مدرارًا* ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا}.
أيها المسلمون:
إن من شكر النعمة أن يحاسب المرء نفسه وأهله على ما يبقى بعد أكلهم، وأن يرضى بنقصان الطعام عن حاجتهم، ويغضب من زيادته، ويتذكر أن خير الخلق صلى الله عليه وسلم "ما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين"، وفي حديث آخر: "ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض". [أخرجهما مسلم].
بل كان التمر غالبَ قوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: "إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. قال عروة بن الزبير-وهو راوي الحديث-: يَا خَالَةُ! مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ، وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا" [متفق عليه].
ومن شكر النعمة أن يربي الإنسان نفسه ومن يعول على الرضا بالموجود، وحمد الله تعالى على الرزق، فنبينا صلى الله عليه وسلم ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن شكر النعمة رفع ما يسقط منها، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِن أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ" [رواه مسلم].
ومن شكر النعمة إكرامها عن أكياس النفايات، والزائد الذي لا يستفيد منه الآدمي يمكن التصدق به على الحيوانات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر". [رواه البخاري ومسلم].
ومن الشكر أن يتذكر المرء إذا رأى نعمة ربه عليه، حاجة إخوانه القريبين والبعيدين، ويسعى لمساعدتهم بما يستطيع، ونصبَ عينيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما آمنَ بي من باتَ شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به". [رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن].
جعلنا الله من الحامدين الشاكرين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا شكر نعمك الظاهرة والباطنة.
اللهم أرخص أسعارنا وغزر أمطارنا وطهر سرائرنا واقض ديوننا واجمع على الهدى شؤوننا، اللهم إنا نعوذ بك من الغلا والربا والزنا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واكفنا شر أنفسنا وشر الشيطان وشِركه وشَرَكه.
اللهم من أرادنا وديننا وأمننا واستقرارنا بسوء فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيء له البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله إليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر الطغاة والمجرمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن للمرابطين على الحد الجنوبي، وفي فلسطين، وفي بلاد الشام، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم اكشف عنهم الضر والبلاء، والشدة والبأساء.
اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتول جميع أمرهم.
اللهم أطعم جوعاهم، واشف مرضاهم، وفك أسراهم، وداو جرحاهم، واحفظ أعراضهم، وارحم موتاهم.
اللهم جوع من جوعهم، وشتت من شتتهم، وعجل لهم بالفرج، يا رب العالمين.
اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب، الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن دينك، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم من أهل الرفض والإلحاد.
اللهم اكفنا والمسلمين شرورهم، وردهم على أعقابهم خاسئين خاسرين، اللهم أنزل عليهم رجزك وسخطك وعقابك إله الحق، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
عباد الله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.[/align]
المرفقات

بين الأمس واليوم.pdf

بين الأمس واليوم.pdf

المشاهدات 1820 | التعليقات 0