بيت العنكبوت.

عاصم بن محمد الغامدي
1445/07/06 - 2024/01/18 21:18PM

الحمدُ لله وليِّ من اتقاهُ، من اعتمدَ عليه كفاه، ومن لاذَ به وقاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.

عباد الله:

هل رأيتمْ بيتَ العنكبوتِ؟

خيوطٌ متشابكةٌ متعددةٌ، ولأنَّ الفتنَ تتشابكُ وتتعددُ خيوطُها، وتتداخل مع بعضِها، فقد ضرب الله تعالى بيتَ العنكبوتِ لها مثلاً، فإذا استعانَ العبدُ بالله، والتزمَ بأوامره أصبحتْ هذه الفتنُ واهيةً كبيتِ العنكبوتِ، وإذا غفلَ عنها وقعَ في شِرَاكِها، كما تقعُ الحشرةُ في بيت العنكبوتِ فتلتهمُها، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ‌كَمَثَلِ ‌الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

وقد اقتضتْ حكمةُ الله عزَّ وجلَّ وقوعَ الفتنِ، ليُبتلى المرءُ على حَسَبِ دينِهِ، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا ‌يُفْتَنُونَ﴾.

وفتنةُ الكفَّارِ للمؤمنينَ من أعظمِ الفتنِ، فهم يريدون منهم تركَ هذا الدينِ، وسلوكَ سبيلِ المجرمينَ؛ لأنَّهم جَعَلُوا الحياةَ الدُّنيا الأصلَ، وسَعَوْا لعمارَتِها، ولوْ كانَ في ذلكَ خرابُ آخرَتِهم ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.

ومن رحمةِ الله بنا تنبيهُنا على أساليبهم وطرقهم لمجاهدتها، ومقاومة فتنتها، والثبات على الحق.

وهي لا تكادُ تخرجُ عن ثلاثِ طرُقٍ، أشارَ الله سبحانه لها في سورةِ العنكبوتِ.

أولها: الأسلوبُ العاطفيُّ، الذي يركزُ على العاطفة وإثارة المشاعر.

وثانيها: الإيذاءُ الجسديُّ والمعنويُّ، سواءٌ تزعَّمهُ أفرادٌ أو مجتمعاتٌ، بالسخريةِ، واستخدامِ القوةِ لقتلِ المصلحينَ وتعذيبِهم وطردِهم من بُلدانهم، ويُلحقُ به التمكنُ من مصادرِ المالِ، وأسبابِ القوةِ، واستخدامُ ذلكَ للصدِّ عن دينِ الله، والإفسادِ في الأرضِ، ونشرِ الفحشاءِ، وإشاعةِ المنكرِ.

وثالثها: المجادلةُ بالباطلِ، وإثارةُ الشبهاتِ.

أما الأسلوبُ العاطفيُّ فأعلى درجاتِهِ محاولةُ الوالدينِ ثَنْيَ ولدِهِما عنِ الدِّينِ، وإعادتِه إلى الكفرِ، فكانَ ذكرُ القرآنِ لفتنةِ الوالدينِ، وواجبِ الولدِ في مواجهتها، يُغني عن ذكرِ فتنةِ منْ دونَهُمَا، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وكأنَّ المعنَى: إذا جَاهدَكَ والداكَ على تركِ دينِكَ، وأغروكَ للتنازلِ عنْ مبادئكَ، فلا تُطعْهُمَا، فضلاً عنْ غيرهِما ممنْ هوَ أقلُّ منَّةً عليكَ منهُما، ولذلك لما أسلمَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ رضي الله عنه -وكان بارًا بأمه-، قَالَتْ له: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي، فَيُقَالُ: "يَا قَاتِلَ أُمِّهِ"، فَقال سعدٌ: لَا تَفْعَلِي، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فمكثتْ أيامًا لا تأكلُ، فلما اشْتَدَّ عليها، قال سعدٌ: يَا أُمَّهْ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لكِ ‌مِئَةُ ‌نَفْسٍ فخَرجتْ نَفْسًا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وإنْ شِئْتِ لا تَأْكُلِي. فأكلتْ.

إنها والله فتنةٌ من أشدِّ الفتنِ ألمًا على النفس، وأعظَمِها وقعًا في الفؤادِ، كيفَ يكونُ شعورُ الابنِ البارِّ وهو يرى والدتَهُ تذوي وتموتُ موتًا بطيئًا، بسببِ إصرارهِ وعدمِ طاعتِهِ لها.

وقد استخدم كفارُ قريشٍ هذا الأسلوبَ العاطفيَّ مع النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثوا عمَّه أبا طالبٍ ليكفَّه عن الدعوةِ إلى الله، فقال له: يَا ابْنَ أَخِي، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ، فَظَنّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ عمَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ، فقال: يَا عَمّ وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ مَا تَرَكْته حَتّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَى فقال له أَبُو طَالِبٍ: قُلْ مَا أَحْبَبْت، فَوَاَللهِ لَا أُسْلِمْك لِشَيْءِ أَبَدًا.

إنها أساليبُ أهلِ الكفرِ والضلالِ، مع أهلِ الإيمانِ والهدُى، وكما حاولوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه رضي الله عنهم، فقد حاولوا مع الأنبياءِ وأتباعِهِمْ من قبلُ، كما استخدموا معهم الإيذاء الجسدي والمعنوي، فما أجابوا على دعوةِ إبراهيمَ عليه السلام وجهادِه معهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾.

وما كان جوابَ قومِ لوطٍ على تحذيرِه لهم من قطعِ السبيلِ، واتَّباعِ الشهواتِ، وإتيانِ المنكراتِ إلا السخريةَ والتكذيبَ، و ﴿قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

وحاولتْ مدينُ بأموالهِم، وعادٌ وثمودُ بقوَّتِهم صدَّ المؤمنينَ عن سبيلِ الله، كما سعى لذلكَ قارونُ وفرعونُ وهامانُ بسلطَتِهمْ واستحكامِهِمْ على بني إسرائيل، وهذه سنُّةُ الله جلَّ جلالُه في ابتلاءِ خلقِه، ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإنَّ فتنةَ الزمانِ منَ الفتنِ الواردةِ في سورةِ العنكبوتِ، وهي فتنةٌ قد يقع فيها بعضُ المؤمنين، لما يروْنَهُ من غرقِ كثيرٍ من المسلمينَ في بحارِ الغفلةِ، مع تمكُّنِ الكفارِ من أسبابِ القوَّةِ، وشدَّةِ تسلطهمْ، واستمرارِ أذاهُمْ أزمنةً متطاولةً، وهذه الفتنةُ منْ أكبرِ ما فُتنَ به قومُ نوحٍ عليه السلام ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾، ومنْ آثارِ هذهِ الفتنةِ على المؤمنينَ استبطاءُ الإجابةِ أوِ النصرِ، ومنْ آثارِهَا على الكافرينَ السخريةُ منَ المصلحينَ، كما سخرَ أسلافُهم من الأنبياءِ والمرسلينَ.

ومن الفتنِ الخطيرةِ كذلكَ، فتنةُ المنظِّرينَ للباطلِ، الذينَ يجادلونَ عن الأفكارِ الضالَّةِ، بإثارَةِ الشُّبُهاتِ، وتكذيبِ الآياتِ البيِّناتِ، وإنكارِ البعثِ بعدَ المماتِ، مع أنَّ خلقَهُمْ وخلقَ السماواتِ والأرضِ بالحقِّ آيةٌ كافيةٌ على البعثِ، لكنهم لا يسلِّمونَ بما يسلِّمُ به العقلُ السليمُ بداهةً من أنَّ الإعادةَ أهونُ من الابتداءِ، والله سبحانه يقول: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾.

وقد أرشدَ الله عبادَهُ إلى ما يعينهم على مواجهةِ الفتنِ، فقال عزَّ وجلَّ في آخرِ سورةِ العنكبوتِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وبهذا الجهادِ ينتظمُ فعلُ الصالحينَ المذكورينَ في سورةِ العنكبوتِ من أولِها إلى آخرها، وفيه إشارةٌ لمنْ سلكَ درْبَهمْ ألَّا يستثْقِلوهُ أو يستبطئوا النتيجةَ.

ولمَّا كانتْ مجاهدةُ الفتنِ فرعًا عن مجاهدةِ النفسِ، أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما يعينه على ذلكَ قائلاً له: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾، ومما يقوِّي المجاهدةَ استشعارُ حقيقةِ الدُّنيا، وتذكرِ الموتِ والبعثِ، وما أعدَّ الله للمؤمنينَ والكافرينَ. ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

المرفقات

1705601930_بيت العنكبوت..docx

1705601930_بيت العنكبوت..pdf

1705601930_بيت العنكبوت للجوال.pdf

المشاهدات 1162 | التعليقات 0