بلاغة الخطيب والهاءات الثلاثة –الجزء الثاني.. الشيخ محمد الأمين مقراوي الوغليسي

الفريق العلمي
1440/10/08 - 2019/06/11 11:31AM

خطبة هادفة:

إن تحديد الأهداف والغايات المرتبطة بالموضوع الذي سيكون محور خطبة الجمعة، واجب شرعا، وفرض بلاغي على الخطيب؛ ذلك أن الفوضى في التناول والطرح، والعشوائية في الإلقاء لا تخدم الخطبة بأي وجه، ولا تحقق الغاية من تشريع خطبة أسبوعية للمسلمين، فتشريع الخطبة أمر معقول المعنى، وقد جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واضحة في هذا الشأن؛ فالغاية في كل حكم وتشريع، واضحة في النهاية، وهي تعبيد الناس لرب العالمين، وإفراده بالعبادة، وإنشاء مجتمع فاضل، وتقوية جانب القوة والخير في الإنسان، وتغليبه على جانب الضعف، وتقديم درء المفاسد على المصالح، فهذه الأمثلة تدل على أن نصوص الوحيين، تتغيا تكوين عقل مسلم يعمل ويتحرك ويمارس الحياة وفق غايات واضحة ومحددة.

 

ومن هنا كان الواجب الشرعي على الخطيب أن يضع أهدافا واضحة وقابلة للقياس عند تناوله أي موضوع، فلو تناول موضوع الربا مثلا، فإنه مطالب بكتابة هذه الأهداف، ومراعاتها أثناء كتابته للخطبة، من مرحلة التفكير، إلى التحضير، وصولا إلى التحرير.

 

وعلى الخطيب أن يقسم أهدافه إلى قسمين:

القسم الأول: أن تكون الأهداف مرتبطة به، أي أن يحقق مستويات معينة من الأداء، فيضع ضمن أهدافه مثلا، أن يكون أداؤه موافقا لمضمون الخطبة، فلو خطب في موضوع "انتهاك الحرمات"، فإنه يسطر هذا الهدف بينه وبين نفسه: أن يكون الإلقاء مراعيا لخطورة الموضوع، وأن يتحرّاه بجد واجتهاد أثناء الإلقاء، وبناءً على هذا الهدف يحضر نفسه تحضيرا جيدا، وقد رأينا الخطباء الناجحين يفعلون ذلك رغم مرور سنوات طويلة على ممارستهم الخطابة.

 

وهذه الأهداف ليست صعبة، بل هي أهداف مرنة، تلعب تجربة الخطيب وخبرته، دورا في تحديدها، حتى يصبح ذلك ملكة له، فيجد أن عقله قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالملكة الخطابية، حتى يصير ذلك سجيّة عنده وخلقا.

 

لقد أثبتت الدراسات أن سبب الإبداع الأول عائد إلى إتقان التخصص أكثر من الموهبة، فإن الموهبة التي لم تُصقل تذهب مع الأيام، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها، بل إن الذي لم يكن مالكا للموهبة في تخصص ما قد يتفوق على صاحب الموهبة إن تخصص وأعطى تخصصه حقه ومستحقه، ولا شك أن التحضير المستمر وتطوير الأداء ووضع الأهداف مما يحقق ذلك.

 

أمّا في حال إهمال الخطيب لهذا الهدف، فإن هذا يعني في نهاية الأمر شيئا واحدا: أن هذا الخطيب لن يتطوّر على مستوى الأداء، على المستوى القريب والبعيد، على حدّ سواء، فالطبيعة تأبى الفراغ، فلو ترك التخطيط للارتقاء بذاته في ميدان الخطابة، حلّت العشوائية والارتجال والفوضى في الأداء.

 

ومن المفيد هنا التطرق إلى بعض الأسباب التي تجعل العديد من الخطباء يهمل هذا الجانب، من أهمّها الكسل، وهذا إن وجد فهذا مؤشر على خلل ضخم في شخصية الخطيب، وهذا في الحقيقة لا يتصور إطلاقا من خطيب له ورد من القرآن الكريم، وورد من السنة النبويّة، وورد من القراءة، ذلك أن هذه الأوراد تجعل الإنسان منضبطا وقيّ العزيمة صلب الشكيمة، منضبطا انضباطا عجيبا، أما من لم يكن له حظٌّ من كل هذا فهذا لا شك أنه سيجد صعوبات جمّة في الفكاك من الكسل، والذي عدّه النبي –صلى الله عليه وسلم- من منغصات الحياة.

 

كما أن الاغترار بالنفس سبب مباشر لتضييع هذا الأمر –أي تحديد الخطيب أهدافا على مستوى الأداء المصاحب للخطبة، فبعض الخطباء قد يعتقد أن صوته الجميل، أو تحكمه في المقامات، أمر يكفل له تحقيق الخطبة أهدافها، وهذا في الحقيقة غير صحيح.

 

وهنا يجب على الخطيب أن يقرأ سير الصالحين وكيف كان يتريضون العلوم، وكيف كان الواحد منهم يجاهد نفسه في سبيل العلم والتعليم، وهنا نذكر ما ذكره لنا خطيب الحرم المكي الشيخ صالح بن حميد، حيث يقول إن مشكلة الكثير من الخطباء عدم إعطاء التحضير حقّه، ويقول الشيخ صالح: إنني أعطي أهميّة لأي لقاء دعيت إلى إلقاء كلمة فيه، حتى لو كانت مدتها ربع ساعة، ويعترف أنه يحضر لذلك لمدة أيام، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على حقيقة واحدة: تعظيم المؤمن للمهام الدعوية يقذف في قلبه قوة وعزما على التحضير، فمن عظم في قلبه شيء عظمت أفعاله.

 

القسم الثاني: أن تكون غايات الخطبة على مستوى الموضوع وجموع المصلين واضحة ومحررة، وهذا مما يغفل عنه جمهور الخطباء، وسنفصل القول في هذا القسم:

فعلى مستوى الموضوع، يظهر للمتابع عدم وضوح هدف الكثير من الخطب التي يلقيها بعض الخطباء على مسامع المسلمين، وهو ما يفسر في الكثير من الأحيان سبب فشل الخطبة في بلوغ أهدافها.

 

 ذلك أن الخطيب الذي يصعد درجات المنبر، وهو غير متسلح بأهداف واضحة، تضيع خطبته وتتشتت، ثم ينزل وهو لا يدري هل حقق منها شيئا.. وكيف يدرك ذلك وهو قد مطط غايته منها، وجعل أقصى أمانيه فيها ومنها، أن يلقيها ويتخلص من حمل ثقيل، يتكرر معه كل أسبوع، وهذا الكلام يُستثنى منه أصحاب الهمم العالية والعظيمة، الحاملون لهموم الأمة الإسلامية.

 

إن من آفات إهمال تحديد أهداف الموضوع الذي يتناوله الخطيب عديدة نذكر منها:

الارتجال، وهو من أشد العيوب التي إن لحقت والتصقت بالخطيب صار ثقيلا على المصلين، وكذلك تداخل المواضيع في الخطبة الواحدة، وهذا مما يشتت ذهن المستمع، ويوقع الحيرة في قلبه، حيث لا يدري فعلا ما هي الرسالة التي يريد الخطيب إيصالها له.

 

إن ضبط الهدف وأهداف الخطبة يحفز الخطيب على البحث في الموضوع المراد التصدي له على المنبر، فيبحث مثلا في تفسير النصوص القرآنية التي يريد الاعتماد عليها في خطبته، ويلجأ إلى كتب الحديث ليتوسع في شروح الأحاديث التي يخطط للاستشهاد بها في خطبته، وهذا التوسع يجعله في راحة تامة أثناء التحضير، ويجعله في سعة من أمره، بينما لو ترك كل ذلك وقرر الاعتماد على عقله، دون تحديد الأهداف؛ فإنه قد يزل وهو لا يدري، وقد نبّه السّلف والعلماء إلى خطورة ذلك، حيث يقول الحافظ ابن عبد البرّ إن السلف كانوا يقولون: "من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ"، وهذا صحيح، تؤكده التجارب ويشهد عليه الواقع، فإذا أضاف الخطيب إلى ذلك الاغترار بشهرة مسجده، أو بحماسه وانفعالاته، ضاعت الخطبة وأضاع المصلين معه.

 

وحتى نختصر هذه النقطة، فإننا نجعلها في هاته النقاط المختصرة، لتتضح فوائد التحضير ووضع الأهداف على مستوى الخطبة:

  • تحديد الأهداف على مستوى الموضوع يدفع الخطيب إلى البحث والتوسع في القراءة.
  • السلامة من الزلل في تناول نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
  • يحدد ما يمكن الاستفادة منه من الأشعار والقصص؛ مما يخدم أهداف الخطبة.
  • حصر الأفكار بشكل واضح، وتحديد الغاية من الخطبة، والتركيز على إظهارها في خطبته.
  • التخلص من الارتجال، والتشتت والتكرار، وهذه العيوب من أشد الآفات التي تأتي على الخطبة، ودواؤها التحضير المربوط بالأهداف الواضحة.
  • يساعده ذلك على جعل الخطبة قصيرة، ما يسهم في إقبال القلوب عليها، واعتناق العقول لمضمونها.
  • خطبة هادفة تعني من بين ما تعنيه عدم إرهاق المصلين نفسيا، وعدم تنفيرهم من الإسلام.
  • إن تحديد الأهداف يساعد الخطيب على التجديد في خطبه، حيث تكون الخطبة تابعة لهذه الأهداف.
  • تحديد الأهداف على مستوى الموضوع مما يعين الخطيب على الاستعداد نفسيا ويجعله في حالة مريحة.
  • على المستوى البعيد سيجني الخطيب رؤية كاملة لرسالة الخطابة.
  • في نهاية الخطبة يستطيع الخطيب تلخيص ما أراد قوله على مسامع المصلين، فيزيد ذلك في وضوح الموضوع، وثباته في العقول.

 

أما على مستوى الجمهور، فإنّ الخطيب الحاذق يحدد بدقة الأهداف التي يريد أن يراها تتحقق في حياة جموع المصلين، فيدرج أهدافا يروم تحققها أثناء لخطبة، كحرصه على رؤية تفاعل المصلين معه أثناء الخطبة، إذ يمكن ملاحظة ذلك من خلال نشاطهم وتوثبهم أثناء إلقاء خطبته، وأن يحرص على أن تصل رسائله لفئة معينة من الناس، حيث يستهدفها باستثارتها ودفعها إلى قبول الموضوع المطروح وتبنيه.

 

 وقد يعرف الخطيب تحقق هذا الهدف بعد نهاية صلاة الجمعة، فلو طرح موضوعا عن تنظيف الحي وإعادة تأهيله، فإن أهم شريحة يستهدفها هي فئة الشباب، فلو خطب ونزل وصلى بالناس، وجلس، ثم أتاه الشباب يعرضون خدماتهم واستعدادهم لتنظيف الحي، لفهم أن أهداف الخطبة قد تحققت.

 

 ولو كان موضوع الخطبة عن التجار، والغش في المعاملات، وأهمية التفقه في كتاب البيوع والمعاملات، فإنه يستهدف هذه الفئة في الخطبة، استهدافا ملحا، حتى إذا انصرف من صلاة الجمعة، جاءه هؤلاء يستفتونه في معاملات ما، أو يقدمون مقترحات ما، أو يسالون عن حلول لظواهر تعترضهم في طريق الكسب المشروع.

 

هذه مجرد أمثلة، والخطيب أدرى بتطبيق هذه المسائل المشار إليها في خطبته، وقد يرى أن في هذا تحقيق هذه الأمور صعوبة كبيرة، ولكنها قد تكون صعوبات مرتبطة بالبدايات، ثم يهوّن الله عليه الأمر إن صدق في ذلك، مع الوصية أن يحرص على مسألة هامة وخطيرة، وهي: ألا يستغل تحقق هذه الأهداف في خدمة أغراض شخصية، فقصص الخطباء الذين انحرفوا عن مقاصد الخطبة عديدة، ولا ينج من هذا إلا المخلص الموفق.

 

هذا عن الأهداف المرجو تحقيقها يوم الخطبة، أما في باقي الأيام فإن الخطيب المبصر يفتش في ثنايا الأيام عن الأهداف التي كان يرجوها من خطبته، فلو حدث النّاس، عن أهمية النوم مبكرا، وجاء على هذا الموضوع من جوانبه الكبرى، أي الصحية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه يسير في حيّه، أو بلدته؛ ليرى بنفسه أثر خطبته في الناس، وهل تغير الناس أم لا، فإن لم يجد أي أثر لخطبته، راجع نفسه، ودرس الموضوع، ثم أعاد طرحه، وأصرّ عليه حتى يتحقق بعضه أو كله بتوفيق الله -سبحانه وتعالى-.

 

إن البلاغة كما طرحها علماء المسلمين في القرون الأولى، وكما مارسوها بحق، لا تعنى الجانب اللغوي فقط، بل تشمل الجانب اللغوي بكل أنواعه، وتضيف له الاعتناء بالملقي والسامع، هذه هي البلاغة عندهم رحمهم الله -تعالى-، وهذا ما جعل تعريفهم لها يتحقق في الواقع ممارسة وفعلا، بعيدا عن التجزيئية التي أصابت البلاغة فجعلتها مادة جافة ينفر منها الكثير من العرب، بينما كان البليغ قديما يوصف بالساحر لشدة تأثيره.

 

ومما يحقق البلاغة عند الخطيب أن يلمّ بالأهداف التي يريد تحقيقها، ويبدع في وضعها ورسمها، ودون ذلك لن يبلغ رسم البلاغة ولا جوهرها.

المشاهدات 490 | التعليقات 0