بُكَاءُ السَّلَفِ

بكاء السلف

﴿الخُطْبَةُ الأُوْلَى﴾

الحمدُ لله ربِ العالمينَ . الحمد لله الذي دل عبادَه على طاعتِهِ للفوزِ بجنتِه، وحذرَهم من معصيتِهِ للنجاةِ من نارِهِ، وأقامَ لهم الحُجَةَ وأوضحَ لهم المحجَةَ بإنزالِ كتبِهِ وإرسالِ رسلِهِ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بكى من خشية ربه وقام حتى تفطرت قدماه  دل أمته على خير  وحذرهم من شر فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا .    أما بعد

 

فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى      الله، } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { [الحشر: 18].

 

أيها المسلمون، إن الخشيةَ من اللهِ والخوفَ منه من كمالِ الإيمانِ، ومن خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ بلغَ المنزل، }  إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير ٌ{  [الملك: 12].

والناظرُ لحالِ كثيرٍ من الناسِ يجد الغفلة قد تحكمت في قلوبهم، فقست القلوب، ، حتى إنها لا تتعظ بسماعِ آيات تتلى أو أحاديث تذكر أو موعظه تقال، وما هذا إلا بسبب الركون إلى الدنيا وطول الأمل والغفلة عن الموت ونسيان الآخرة.

 

كثير منا من يقرأ القرآن ولكن لا تدمع عيناه من خشية الله، وكثير منا من يستمع إلى أحاديث تذكره بالآخرة وتخوفه بالنار وتحببه في الجنة ولكن قلبه لا يخشع ولا يخضع ولا يلين، فقد انتشرت المعاصي والآثام، فلم يبقَ لهذا القلب خوف من الله، ولم يبق للعين خشية حتى تدمع شوقًا إلى الله.

 

عباد الله

 يقول الله سبحانه وتعالى عن أولئك الذين تدمع عيونهم من خشية الله وترق قلوبهم لذكر الله، يقول سبحانه: } وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين َ{ [المائدة: 83]، ويقول عنهم سبحانه أيضًا: } إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا { [مريم: 58]، ويقول   كذلك: } وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا { [الإسراء: 109].

 

وانظروا ـ إخوة الإسلام ـ إلى الفضل العظيم الذي أعده الله سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشية وخوفًا من الله، يقول النبي r: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) رواه الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة t وصححه الألباني ، ويقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني ، وقد عدّ النبي r الرجل الذي يبكي من خشية الله من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يقول   النبي r : ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ))، ذكر منهم: ((وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )) متفق عليه من حديث أبي هريرة t ، فاضت عيناه بالدموع رهبة وخشية من الله.

أيها المؤمنون

ما قست القلوب إلا بتراكم المعاصي والآثام، فأصبح القلب لا يجد مساغًا لآيات تتلى وأحاديث تذكر، والنبي r يقول: ((إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن))، } كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {.رواه الترمذي من حديث أبي هريرة t  وحسنه الألباني .

 فقد أظلم هذا القلب بشؤم المعصية، فكيف لقلب علاه الران أن يبكي من خشية الله؟! وكيف لقلب سودته المعاصي والآثام أن يتفكر في خلق الله؟!

 

يقول الله سبحانه: } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا { [الأحزاب: 21]، فهل كان يبكي نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام؟!

 

نعم وكان يتأثر بالقرآن عندما كان يقرؤه أو حتى عندما كان يسمعه من غيره، فقد قال يوما لعبد الله بن مسعود t: ((اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي )) ، فأخذ عبد الله يقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله : }  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا{  [النساء: 41] فقال له النبي r : ((حسبك))، يقول عبد الله: فنظرت إلى النبي فإذا عيناه تذرفان، أي: تبكيان تأثرًا بالقرآن. متفق عليه

وروي أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سئلت عن أعجب ما رأته من رسول الله r ، فبكت ثم قالت: كان كل أمره عجبًا، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عندي، فاضطجع بجنبي حتى مسّ جلدي جلده، ثم قال: ((يا عائشة، ألا تأذنين لي أن أتعبّد ربي عز وجل؟)) فقلت: يا رسول الله، والله إني لأحب قربك، وأحب هواك ـ أي: أحبّ أن لا تفارقني وأحب ما يسرك مما تهواه ـ قالت: فقام إلى قربة من ماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر صبّ الماء، ثم قام يصلي ويتهجد، فبكى في صلاته حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الفجر رآه يبكي، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال له: ((ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة هذه الآيات:  }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ  _الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ِ{ [آل عمران: 190، 191]))، فقرأها إلى آخر السورة، ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) رواها ابن حبان وغيره وحسنه    الألباني .

 

ويقول الصحابة y : كنا نسمع لجوف النبي r وهو يصلي أزيزا كأزيز المرجل من البكاء. وكان يبكي عليه الصلاة والسلام خوفًا من عذاب القبر، فقد حضر جنازة صحابيّ من الأنصار، وبعد أن دفنه بكى بكاء شديدًا حتى بل الثرى، فقال للصحابة: ((لمثل هذا فأعدوا)). والمواقف في ذكر بكاء النبي r كثيرة.

 

وكذلك الصحابة والتابعون، فهذا معاذ بن جبل t عندما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقالوا له: ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت أن حلّ بي، ولا لدنيا تركتها بعدي، هما القبضتان: قبضة في الجنة وقبضة في النار، ولا أدري في أي القبضتين أكون، } فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{  [الشورى: 7].

 

وبكى الحسن t فسئل عن ذلك، فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.

وهذا الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قرأ ذات ليلة سورة محمد، فلما وصل إلى قوله تعالى: } وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ { [محمد: 31]، فجعل يردّدها ويبكي، ثم جعل يبكي ويقول: وتبلوَ أخبارنا وتبلو أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتَنا وهتكت أستارنا، إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي.

 

امنع جفونك أن تذوق مناما

              وذر الدموع على الخدود سجاما

واعلم بأنك ميت ومُحاسب

              يا من على سخط الْجليل أقامـا

لله قوم أخلصـوا في حبّــــه

              فرضـى بهم واختصهم خدّامـا

 قوم  إذا جن الظلام عليهـم  

                       باتـوا هنـالك سجدًا وقيامـا

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الرحيم.

 

 

 

﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ﴾

الحمد لله أنزل كتابه هدى ورحمة، وجعله لمن عمل به عزة ورفعة . الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم،  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

عباد الله

 إن أهل المعاصي ليسوا من الله في شيء، فقد اجتمعت على قلوبهم الذنوب حتى صارت قلوبًا قاسية كالحجارة   أو أشدّ قسوة، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي.

 

 أما أهل الإيمان فهم أهل الله وخاصته، الذين ما تركوا لله طاعة إلا شمروا عن ساعد الجد لأدائها، وما علموا بشيء فيه رضا لله إلا فعلوه راغبين راهبين، فأورثهم الله نور الإيمان في قلوبهم، فصارت قلوبهم لينة من ذكره تعالى، وقادت جوارحهم للخشوع، فما تكاد تخلو بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمال خشيته، وكانت تلك الدموع أكبر حائل يحول بين صاحبها وبين النار، يقول سبحانه: } اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه { [الزمر: 23]، .

 ويقول سبحانه:  }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون {  [ الأنفال: 2] .

 

إخوة الإسلام:

 

 بكت فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله ذات  مرة، فسئلت فقالت: رأيت عمر بن عبد العزيز ذات ليلة قائمًا يصلي، فأتى على هذه الآية:  }يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ _ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ{  [القارعة: 4، 5]، فبكى ثم قال: وا سَوءَ صباحاه، فسقط على الأرض وجعل يبكي حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: يا سَوءَ صباحاه، ثم قفز فجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت، حتى أتاه الإذن للصلاة، فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.

 

ألا وصلّوا ـ عباد الله ألا صلوا وسلموا على رسول الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ] إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا   [ [الأحزاب:56].

اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاءِ الأربعة الرّاشدين...

اللهم أعز الإسلام والمسلمين .....

اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه .

اللهم اجعلنا ممن يعظم أوامرك شعائرك .

 اللهم أسعدنا بتقواك اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك .

اللهم ارحم موتانا وأشف مرضانا وتولى أمرنا وأهدي شبابنا .

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .

 

المرفقات

1734185021_بكاء السلف ملتقى الخطباء.doc

1734185025_بكاء السلف ملتقى الخطباء.pdf

المشاهدات 308 | التعليقات 0