بعضاً من السنن الإلهية
ناصر محمد الأحمد
1435/11/07 - 2014/09/02 19:29PM
بعضاً من السنن الإلهية
10/11/1435ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: السنن في مجال الطبيعة هي: القوانين التي سنَّها الله عز وجل لهذا الكون، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون). فما في الكون من: ذرة أو مادة أو حيوان أو نبات إلا وله قانون يسير وفْقه ويتحكم في جزئياته.
وسنن الله في الميدان الاجتماعي هي: القوانين التي يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال، وما يترتب على ذلك من نتائج: كالرفاهية والضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذُّل، والرقي والتخلف، والقوة والضعف.
وسنن الله في حقل التاريخ هي: القوانين التي تتحكم في مسيرة التاريخ البشري، وفي حركته وتوجيه أحداثه.
أيها المسلمون: والسنن مرتبطة أساساً بالله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الذي خلق الكون، وخلق كل شيء فيه، وقدّر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته، وجعل السنن على هذه الصورة البديعة المتناسقة، وأوجد أسبابها، وقدّر نتائجها، وجعل العلاقة بين السبب والنتيجة، قائمة وفْق نظام مطرد، قابل للتكرار كلما توفرت شروطه وانتفت موانعه. فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها، ولما كان في هذا الوجود أصلاً توازن ولا استقرار، ولكانت الفوضى حينئذ هي سِمَة الخلق. ومن هنا تتجلى حكمة الله جلّ ثناؤه في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين الثابتة، وعلى مستوى الروابط المطّردة، كما في قوله تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا).
فمن خلال السنن الإلهية في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نفهم التاريخ، ونفسِّر أحداثه تفسيراً ينفعنا في تقييم حاضرنا وبنائه، واستشراف المستقبل، إذ نعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، كما في قوله تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، فربطت الآية الكريمة ها هنا بين وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع. وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض). فالحفاظ على القيم العليا في المجتمع والحرص على تطبيقها لا بد أن يؤدي إلى عمارة الأرض، وترقية الحياة ونمائها، وهذه كلها مؤشرات الرفاه والازدهار التي وعد الله تعالى بها عباده المؤمنين المتقين. كما نعرف عوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، فتبدُّل الأحوال الذي يحدثه الله عزّ وجلّ في المجتمع من الصحة إلى السَقَم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزّة إلى الذلّة مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله تعالى به. ونضع أيدينا على أسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، إذ ربطت هذه السُّنة بين أمرين: بين تأمير الفسّاق والمترفين في المجتمع ووضع آليات التوجيه ودواليب السلطة في أيديهم، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله. فمتى وُجد الشرط وُجد الجزاء، ومتى كانت المقدمة سيئة كانت النتيجة مخيبة للآمال. وعليه فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً، بل يحصل وفق سنن إلهية تحكم مساره وتضبط وجهته، حيث حدثنا القرآن الكريم عن مجتمعات مختلفة: منها من عاش حياة رغيدة آمنة، ومنها من ذاق لباس الجوع والخوف، ومنها من باد وهلك بعذاب الاستئصال. ولقد كان البيان القرآني جليّاً حين قرّر أن ازدهار المجتمعات أو اضمحلالها رهين بتطبيق شريعة الله تعالى أو النَّأْي عنها، ففي باب: وفرة النعم وبسطها يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم). وفي باب: الشدة والجوع والوباء والعذاب يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون). إنها سُنّة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله تعالى وتأبى الخضوع لحكمه.
أيها المسلمون: إنَّ سنن الله تعالى تتّسم بالثبات والشمول والصرامة، فلا تحابي فرداً على حساب فرد، ولا مجتمعاً على حساب مجتمع آخر، فالنتائج التي قد يتطلّع إليها على وجه الأرض أكثرُ المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً وعتوّاً إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها. بينما ينتظرها المسلمون في هذا العصر ارتكازاً على إيمانهم وحده دون أن يطلبوها من مقدماتها التي خلقها الله عزّ وجلّ طريقاً إليها، فأنَّى يُستجاب لهم؟. ومرجع ذلك إلى أن السنن الإلهية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقّتها وانتظامها وجدّيتها كالسنن الكونية الطبيعية سواء بسواء. ومن هنا تأتي أهمية ربط بناء المعرفة ثم القوة والحضارة بالجهد والعمل والتخطيط والنظام والانضباط والإتقان: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا).
ومن نافلة القول أن سنن الله تعالى المبيَّنة في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة جديرة بالدراسة والفهم، لأن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جدّاً والواجبة شرعاً وديناً، إذ هي جزء من معرفة الدين، ومن جملته معرفة أحوال الأمم مع أنبيائهم، وما حلّ فيهم بسبب سلوكهم معهم وفقاً لسنن الله تعالى. كما أنها تبصّرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعِثَار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذّرنا الله عزّ وجلّ منه، ونظفر بما وعد الله تعالى به عباده المتقين.
أيها المسلمون: لنتأمل بعض سنن الله في المجتمعات بشيء من التفصيل، فنبدأ:
أولاً: بسُنّة التغيير:
من المعلوم أن هذه السنة عظيمة القدر، فمن أجله أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل عليهم السلام، إنها تغيير المجتمعات من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم). فالآية توحي بقانون صارم ثابت يحكم العلاقة بين المحتوى الداخلي النفسي للناس، وتغيير حال المجتمع إيجاباً أو سلباً، نحو الأحسن أو نحو الأسوأ. ومن منطلق هذه السنّة ترتفع المجتمعات وتنخفض، وعلى أساسها يكافئ الله عزّ وجلّ ويعاقب، حيث قضى الله تعالى أنه لا يغيِّر واقع مجتمع حتى يبدأ أفراده بتغيير ما بداخل أنفسهم من مفاهيم وأفكار، ويصلحوا أحوالهم وأوضاعهم، فيغيِّر الله تعالى آنذاك ما بهم، ويأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان.
ثانياً: سُنّة الأجل الجماعي:
ينبغي العلم أن المجتمع الذي عبّر عنه القرآن الكريم بأمة، له حياة وله حركة وله شيخوخة وله احتضار ثم له موت: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون). ولا يمكن أن نفهم موت أمة أو مجتمع، ما لم نفهم ما هو المجتمع أصلاً. إن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو شبكة علاقات تنظم نشاط الأفراد. ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، وحالها النشيط أو الخامل يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمِّرونها.
إنّ معدن الألماس اللامع الرائع الصّلد مكوَّن من ذرات الفحم الأسود، الكربون المضغوط، لكن الذي منح اللّمعان والتلألأ لتلك الذرات السوداء هو التركيبة الداخلية لذرات الكربون بتماسكها القوي وتراصّها الشديد. وكذا المجتمع فهو طبيعة تراصّ بين أفراده، فإذا بقي ذرات أو عناصر لا رابط بينها كان سُخاماً أسودَ قاتماً عرضة للاندثار والموت. أما إذا تراصّت عناصره تحوّل إلى طاقة هائلة تصنع الأحداث، وتؤثر في مجرى التاريخ. ولذا شبّه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع السليم بالبنيان المتراصّ في قوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً" ثم شبَّك عليه الصلاة والسلام بين أصابعه.
ثالثاً: سنة التدافع أو سنة الصراع بين الحق والباطل:
وهي سنة ماضية عبر التاريخ الإنساني الطويل، وباقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم). ويحتدم الصراع نتيجة هذا الاختلاف لإقرار الحق أو إقرار الباطل: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا). وهذا التدافع هو الذي عناه الله بقوله: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِين). وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة".
أيها المسلمون: إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السُّنَّة أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة وأذنابهم المنافقين. ولا عذر لأحد أن يكون له سهم ومشاركة في نوع من أنواع المدافعة بين الحق والباطل.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: ومن السنن الإلهية أيضاً:
رابعاً: سُنة الابتلاء والتمحيص:
قال الله تعالى: (ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِين).
أيها المسلمون: ليس من شأن الله سبحانه وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلَطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام، فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دَخَل، وكل هذا يقتضى أن يُصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يُضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تُسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله سبحانه أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة.
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في فلسطين وأماكن أخرى وما صاحب ذلك من التداعيات، أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين أقول: بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنَّة الإلهية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها سبحانه وتعالى لتؤتي أكلها الذي أراده الله عز وجل منها، ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتصفى من المنافقين، وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم، فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلّص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطَفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وقبل هذا التمحيص والتمييز فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله عز وجل عباده المؤمنين لن تتحقق. وهكذا أراد الله عز وجل وحكم في سننه التي لا تتبدل أنَّ محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "أيها أفضل للرجل: أن يُمَكَّن أو يُبتلَى؟ فكان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله عز وجل أن قال: "لا يُمَكَّن حتى يُبتلَى"، ولعله فَهِم ذلك من قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِين).
خامساً: سُنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين:
قال الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين). وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين). وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً، ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن في معظم دول الكفر والطغيان، حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: "من أشد منّا قوة". وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم الدول الغربية وحلفاؤهم هم الآن يعيشون سُنَّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم. قال تعالى: (وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدا). والله عز وجل لا يستجيب لعجلة المستعجلين، بل له الحكمة البالغة والسنَّة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله تعالى لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
ومن حكمة الله عز وجل في سُنَّة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم، وقد بدت بوادر المحق في الدول الغربية فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم، ولكن الله عز وجل بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته سبحانه في القوم الكافرين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..
اللهم ..
المشاهدات 2798 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
عبدالله حمود الحبيشي
نفع الله بك يا شيخ ناصر وجعلها في ميزان حسناتك
موضوع غاية في الأهمية ويمكن ربطه في كل ما يحصل بنا اليوم
وطريقة عرضك للموضوع موفقة تساعد الخطيب أن يقسمه إلى خطبتين
جزاك الله عنا خير الجزاء
تعديل التعليق