بر الوالدين

عبدالله بن رجا الروقي
1435/05/26 - 2014/03/27 20:57PM
أما بعد فإن الله جعل للمسلمين بينهم حقوقاً وإن آكد هذه الحقوق هو حق من كانا سبباً في وجودك وهما الوالدان فحقهما أعظم حق من بين حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
عبادالله بر الوالدين من أعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، ومن أسباب تفريج الكروب وتيسير الأمور قرن الله حقهما بحقه , كما قرن شكرهما بشكره؛ وهذا يدل على عظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما: قولاً, وفعلاً؛ وتحريم أدنى مراتب الأذى لهما:
قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)

وقد قدم النبي ﷺ بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله ﷺ أيُّ العَمَلِ أفضل؟ قال: الصلاةُ لوقتها قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).متفق عليه.
وجاء رجل إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد .متفق عليه وفي لفظ لمسلم قال ﷺ : تبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما.
أي إن كان لك أبوان فابذل أقصى جهدك ووسعك وطاقتك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الـجهاد .

ومن أراد رضى الله فليُرض والديه قال رسول الله ﷺ : (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد) رواه الترمذي

وبر الوالدين سبب عظيم لدخول الجنة قال رسول الله ﷺ : (الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه). رواه الترمذي.

وجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك فقال ﷺ : هل لك من أمٍّ؟ قال: نعم. قال: فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها.رواه النسائي وابن ماجه.

وأقرب الأعمال إلى الله عز وجل بر الوالدة؛
وهو سبب لمغفرة الذنوب فقد جاء رجل قد قتل نفساً إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن ذلك فأمره بالتوبة ثم قال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله تعالى من بِرِّ الوالدة.

والأم برها آكد من بر الأب فهي تختص بمزيد عناية وإحسان فقد كابدت مشاق الحمل والولادة والرضاع. قال الله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
وصى الله بالوالدين إحسانًا ثم خص الوالدة بمزيد عناية فذكر ما تحملته من المكاره وقت حملها ثم المشقة العظيمة في ولادتها ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة، وليس ماتقدم ذكرُه مدة يسيرة ساعة أو ساعتين بل هو مدة طويلة قدرها ثلاثون شهرا للحمل تسعة أشهر ونحوها.
وقد جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم مَنْ؟ قال: أمك قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك. متفق عليه.

ولعظم حق الوالدة جعل الله أختها بمنزلتها قال ﷺ : الـخالة بمنزلة الأم. رواه الترمذي
وجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أمٍّ؟ قال: لا، قال: هل لك من خالةٍ؟ قال: نعم، قال: فَبرَّها.رواه الترمذي.

ولكمال رحمته سبحانه بخلقه فقد خص حالة الكبر للوالدين بمزيد من الإحسان، والبر والرحمة؛ فأوجب سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر من قبل؛ لأنهما قد ضعفا وأصبحا في حاجة لمن يرعاهما. قال الله تعالى:
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) وفي الآية أمر من الله بالدعاء للوالدين بهذا الدعاء : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
وقال ﷺ رغم انف ثم رَغم أنف، ثم رغم أنف. قيــل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر: أحَدَهُما, أو كليهما ثم لم يدخل الـجنة. رواه مسلم

ثم اعلموا معاشر المسلمين أن من تمام البر صلةٓٓ أهل وُدّ الأب لقول رسول الله ﷺ : إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولد أهلَ وُِدِّ أبيه.رواه مسلم
وتأمل قوله ﷺ (أبر البر) فإنه يدل على تأكد صلة أصدقاء الأب ممن كان بينه وبينهم مودة ويكون ذلك بتعاهدهم بالزيارة والهدية أو الصدقة إن كانوا فقراء ويحرص على إيصال الخير إليهم مااستطاع.
أقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
أما بعد فليحذر المسلم من عقوق الوالدين فقد قرن النبي ﷺ عقوقهما بالشرك بالله عز وجل، قال النبي ﷺ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين.متفق عليه
وحرم الله الجنة على من عقهما قال ﷺ : ثلاثة قد حرَّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاقُّ, والديُّوثُ الذي يقر في أهله الخبث. رواه أحمد.

ودعاؤهما على ولدهما في هذه الحالة مستجاب قال النبي: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم. رواه ابوداود

ومن مات والداه فلايزال باب البر بهما مفتوحاً فمن برهما بعد موتهما :
الاستغفار والدعاء لهما؛ لقول الله تعالى ذاكراً دعاء نوح: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا )
وكذا دعا إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )
ولقوله ﷺ : (إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة, فيقول: يا ربّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك).رواه أحمد
وقال ﷺ : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) رواه مسلم

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ( ترفع للميت بعد موته درجتُه، فيقول: أي ربِّ أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك يستغفر لك ).

ومن برهما قضاء الدين عنهما؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ نفس المؤمن معلقة بدَينه, حتى يقضى عنه. رواه الترمذي.

وتُقضى النذور عنهما: كنذر الصيام، والحج أو العمرة، أو غير ذلك مما تدخله النيابة.
وكذلك تقضى الكفارات عنهما: ككفارة اليمين، وكفارة قتل الخطأ، وغير ذلك؛ لأن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ تسأله عن دين على ميت لها فقال ﷺ : (أرأيتك لو كان عليها دَين كنتِ تقضينه؟) قالت: نعم، قال: فدَين الله أحقُّ أن يقضى. متفق عليه فكل الديون لله تعالى الواجبة: من الكفارات، والنذور، وفرض الحج والعمرة، والصوم، تدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: فدين الله أحق أن يقضى.

ومن برهما تنفيذ وصيتهما إن كان لهما وصية، في الثلث فأقل؛ وإنفاذ الوصية واجب.

والصدقة عن الوالدين تصل إليهما وتنفعهما؛ لحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أن أمه توفيت، فقال: يا رسول الله! إن أُمي تُوفِّيتْ وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهِدُك أن حائطي المخراف صدقةٌ عليها. متفق عليه.

فبر الوالدين يكون في حياتهما وبعد موتهما، فمن فاته الإحسان إلى والديه في حياتهما فقد جعل الله له ذلك بعد موتهما.
اللهم ارزقنا البر بوالدينا وارحمهما كما ربيانا صغارا...
المشاهدات 1983 | التعليقات 0