بر الوالدين، وذوي القربى.

أ.د عبدالله الطيار
1446/06/12 - 2024/12/14 11:21AM

الْحَمْدُ للهِ أَهْلِ الْحَمْدِ والثَّنَاءِ، المُتَفَرِّدِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجْمَعِينَ أمّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران: [200].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: رَبَطَ اللهُ عزَّ وجلَّ بينَ الخلائِقِ بِرَوَابِطَ وَصِلاتٍ، وَأَرْحَامٍ وَقَرَابَاتٍ، قالَ تعالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: [13] وجاءتْ شريعَةُ الإسلامِ بحفظِ تلكَ الرَّوَابِطِ وضَمَانِ تَلاحُمِهَا وتَرَابُطِهَا، فَأَرْسَتْ القَوَاعِدَ والوَاجِبَاتِ، والتَّكالِيفَ والمسْؤُوليَّاتِ وأَمَرَتْ بِالْفَضَائِلِ والأَخْلاقِ الَّتِي تَكْفُلُ لِتِلْكَ الرَّوَابِطِ التَّعَاضُد والتَّآَلُف، والتَّكَاتُف والترَاحُم، فحثَّتْ على الصِّلَةِ والبِرِّ، والاجْتِمَاعِ وبذِلِ الخيرِ: قال ربُّنَا سُبْحَانَهُ: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) البقرة: [138].
عِبَادَ اللهِ: وإنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وأَهَمِّ الوَاجِبَاتِ، وَأَوْثَقِ الرَّوَابِطِ والصِّلاتِ، صِلَةَ الْوَالِدَيْنِ وَبِرّهمَا، والإِحْسَانَ إليْهِمَا، وحِفْظَ حُقُوقِهِمَا، قَالَ تعالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) النساء: [36] وَحُبُّ الوَالِدَيْنِ فِطْرَةٌ فُطِرَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، والْفِطَرُ النَّقِيَّةُ، فالنَّفْسُ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَأَكْرَمَهَا وأَيُّ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ، وَمَعْرُوفٍ وَإِكْرَامٍ بَعْدَ اللهِ عزَّ وجلَّ كَفَضْلِ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) لقمان: [14].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: امتنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على عبَادِهِ بنِعْمَةِ الْخَلْقِ والإِيجَادِ، ولِلْوَالِدَيْنِ بِنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ والإِيلادِ، ولِذَا قَرَنَ حَقَّهُ بِحَقِّهِمَا، قَالَ تَعَالَى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) لقمان: [14] فَجَعَلَ شُكْره مِنْ شُكْرِهِمَا، وَرِضَاهُ شَرْطٌ لِرِضَاهُمِا، قَالَ ﷺ: (رِضى الرَّبِّ في رِضى الوالِدِ، وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الوالِدِ) أخرجه الترمذي (1899) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (516).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، قَرِينُ التَّوْحِيدِ، وَبَابُ التَّوْفِيقِ، وَعُنْوَانُ الْوَفَاء، وَهُوَ أَسْمَى الْعِبَادَاتِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا، وأَيْسَرُهَا جَهْدًا وَبَذْلًا، وَأَقْصَرُ طَرِيقٍ لِلْجَنَّةِ لا يُوَفَّقُ لَهُ إلا مُوَفَّقٌ مَيْمُونُ، وَلا يَغْفَلُ عَنْهُ إلا غَافِلٌ مَغْبُونٌ، جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أَبْتَغِي بِذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ قالَ ﷺ: ويحَكَ، أحيَّةٌ أمُّكَ؟ قُلتُ نعَم، قالَ: ويحَكَ الزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ) وقالَ: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلكَ البابَ أو احفَظْه) أخرجه الترمذي (1900) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وَيَتَأَكَّدُ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، وَوُجُوبُ بِرِّهِمَا، والْعِنَايَةُ بِهِمَا، حَالَ الْعَجْزِ وَالْكِبرِ، والشَّيْخُوخةِ والْهَرَمِ، قَالَ تَعَالَى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء: [23] وقالَ النبيُّ ﷺ: (رَغِمَ أنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) أخرجه مسلم (2551).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ لُطْفِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ بِرّ الْوَالِدَيْنِ بَاقٍيًا مُتَّصِلًا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، فَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهمَا؟ قَالَ ﷺ: نَعَم، الصَّلاةُ عليهما-أي: الدعاء- والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عَهْدِهمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا) أخرجه أبو داود (5142)
عِبَادَ اللهِ: إنَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، صِلَةَ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إلا بِهِمَا، وَأَوْثَقُ هذِه الصِّلَةِ وَأَعْلاهَا، صِلَةُ الإخْوَةِ والأَخَوَاتِ، الأَشِقَّاءِ والعَلاَّتِ، وَالأَخُ أَوْلى النَّاسِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ شَقِيقًا كَانَ أَوْ لأَبٍ، لأُمٍّ كَانَ أَوْ مِنَ الرَّضَاعِ، قَالَ ﷺ: (بِرَّ أُمَّكَ وأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) أخرجه النسائي (2531) وصححه الألباني في الإرواء الغليل (3/322) ولمَّا مَاتَ عُثمانُ بنُ مظعونٍ، وكان أخًا للنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الرَّضَاعِ أُخْرِجَ بجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، أَمَرَ النَّبيُّ ﷺ رَجُلًا أَنْ يأتيَهُ بحَجرٍ فلم يستَطِعْ حَمْلَهُ، فقامَ إليها رسولُ اللَّهِ ﷺ وحَسَرَ عَن ذراعَيْهِ -يَقُولُ الرَّاوِي-: كَأنِّي أنظرُ إلى بَيَاضِ ذراعَي رسولِ اللَّهِ ﷺ حينَ حَسرَ عنهُمَا، ثمَّ حَملَها فوضعَهَا عِنْدَ رأْسِهِ وقَالَ: (أتعلَّمُ بِها قبرَ أَخي، وأَدفِنُ إليهِ مَن ماتَ من أَهْلي) أخرجه أبو داود (3206) وحسنه الألباني.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ علامةٌ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ، وَدَنَاءَةِ الطَّبْعِ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، قَالَ ﷺ (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قالوا: بَلى يا رَسولَ اللَّهِ قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ) أخرجه البخاري (6273).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء: [23-24].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وليِّ الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أنَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَسَادٌ في الأَرْضِ، ومُوجِبٌ لِلَّعْنِ والطَّرْدِ، قَالَ تَعَالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) محمد [22-23]. واعلموا أنَّ مَنْ بَرَّ بِوَالِدَيْهِ؛ بَرَّهُ بَنُوهُ، وَمَنْ عَقَّهُمَا؛ عَقُّوهُ، وَمَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ؛ وَصَلَهُ اللهُ تَعَالى ببِرِّهِ وَإِحْسَانِه ونُصْرَتِهِ، ومَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ تعالَى مِن بِرِّهِ وإحسانِهِ وعَوْنِهِ وتَوفيقِهِ ورحْمتِهِ، قالَ ﷺ: (مَا مِنْ ذَنبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ العُقوبةُ مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ، مِنْ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) أخرجه أبو داود (4902) وصححه الألباني في الأدب المفرد (23) اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدِينَا، وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الجمعة 12/ 6/ 1446هـ

المشاهدات 87 | التعليقات 0