بر الوالدين فريضة ودَين

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: طاعة أوجب الله الإتيان بها وقضى ربنا أن نقوم بها؛ بل إنه -سبحانه- قرن الأمر بها بالأمر بعبادته؛ وما ذلك إلا لعظمها وشرف القيام بها، وخطورة التفريط فيها؛ فهل عرفتم هذه الطاعة الجليلة وهل خطر على بال أحدكم هذه المهمة الرفيعة؟

 

والجواب: إنها طاعة المرء لوالديه وبره بهما وإحسانه إليهما؛ فاستمع -أيها الموفق- إلى باريك وهو يحثك على الإحسان لوالديك فقال -جل في عليائه-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء:23]؛ ولا شك أن هذا الاقتران يزيدها قدراً وينال من قام بها شرفا وفضلا؛ فما أعظمها من طاعة وأكرمها من مهمة.

 

ولم يأت هذا الاقتران في موضع واحد في القرآن فحسب بل جاء في مواضع كثيرة؛ كما في قوله -عز وجل-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النساء:36]، وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الأنعام:151]، وورد في مواضع كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.. وما هذا إلا لندرك مكانة بر الوالدين وعظيم منزلتهما.

 

وقد أدرك ذلك حبر الأمة عبدالله ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ فقال: "ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لم تقبل منها واحدة بغير قرينتها؛ إحداها: قوله -تعالى-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[النساء:59]؛ فإن من أطاع الله ولم يطع رسوله لم يقبل منه، والثانية: قوله -سبحانه-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[البقرة:43]، فمن أقام الصلاة ولم يزك لم يقبل منه، أما الثالثة: ففي قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[لقمان:14]؛ فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه".

 

وحين أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يسأله عن أولى الناس بصحبته، فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ أجابه: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"(رواه البخاري ومسلم).

 

عباد الله: ولما كان لبر الوالدين تلك الأهمية البالغة والمنزلة السامقة جعل الله لذلك الثمار الكريمة والعطايا الوفيرة في الدنيا والآخرة، وأعظمها: حصول البار بوالديه على مرضاة ربه ومولاه؛ كما في الحديث الذي قال فيه رسول -صلى الله عليه وسلم-: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين"(رواه البخاري).

 

ومن ثمار بر المرء لوالديه: قبول عمل البار بوالديه؛ وفي ذلك يقول -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[الأحقاف:15-16]، وفي هذه الآية الكريم بيان أن قبول طاعة العبد ومغفرة زلاته مرهونة ببره لوالديه.

 

كما أن من ثمار بر الوالدين والإحسان إليهما: تفريج الكروب؛ فمن بر والديه فرج الله عنه كربه ويسر أمره؛ كما في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي الكريم -عليه أطيب الصلاة وأزكى التسليم- قال: "خرج ثلاثة نفر يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي به أبوي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم..."(رواه البخاري ومسلم).

 

وبر العبد بأبويه: يثمر زيادة العمر وحصول البركة فيه؛ فعن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزيد في العمر إلا البر"(الترمذي)، ويقول كعب الأحبار: "...وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارًا بوالديه ليزيده برًا وخيرًا".

 

ومن ثمار طاعة الوالدين: مغفرة الذنوب والسيئات ومحو الزلات؛ فعن ابن عمر أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي توبة؟ قال: "هل لك من أم؟" قال: لا، قال: "هل لك من خالة؟" قال: نعم، قال: "فبرها"(رواه أحمد).

 

وختام ثمار بر الوالدين: دخول الجنة؛ فما أعظمها من ثمرة؛ وقد روت لنا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نمت فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قراءة تقرأ، فقلت: قراءة من هذا؟" فقيل: قراءة حارثة بن النعمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كذاك البر، كذاك البر، كذاك البر"، وكان من أبر الناس بأمه. (رواه النسائي).

وجاء في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه"(رواه الترمذي)، والمراد بالوالد هنا الجنس؛ أي الأب أو الأم، وعن جاهمة السلمي أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها"(رواه أحمد).

 

أيها المؤمنون: تلكم ثمار بر الوالدين وثواب صاحبه في الحياتين؛ فاجتهدوا في بر والديكم تجنوا ما أعد الله للبار من الثمار، واحذروا من التقصير في حقوقهما، واعلموا أن الله توعد العاق بالعقوبات الكبيرة والعواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة؛ فمن ذلك:

تعجيل العذاب للعاق لوالديه؛ إلا أن يتوب من ذلك العقوق: يقول كعب الأحبار: "إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقًا لوالديه ليعجل له العذاب"، ويروى أن رجلاً من بنى إسرائيل بلغ به العقوق حد قتل والده، فلما أن ذهب به ليقتله قال له أبوه: اقتلني يا بنى عند تلك الصخرة، قال الابن: وَلِمَ؟ قال: لأني قتلت أبي عندها منذ أربعين سنة؟!، والجزاء من جنس العمل، قال وهب: "أوحى الله إلى موسى: وَقِّر والديك؛ فإنه من وقر والديه مددت له في عمره، ووهبت له ولدًا يبره، ومن عقهما قصرت عمره، ووهبت له ولدًا يعقه".

 

ومن العقوبات والعواقب لعقوق الوالدين: رد عمل العاق لوالديه، كما جاء عن الصادق المصدوق في الصحيح المنطوق -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاثة لا يقبل الله لهم صرفًا ولا عدلًا: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر".

 

ومن عواقب معصية الوالدين: أن الله طرد العاق لوالديه من رحمته ولعنه؛ روى الحاكم -رحمه الله- أن رسول -صلى الله عليه وسلم-: "ولعن الله العاق لوالديه"، وعند الإمام مسلم: "ولعن الله من لعن والديه"، واللعن هو الطرد من الرحمة -والعياذ بالله-.

 

والعاق -يا عباد الخلاق- حرم الله عليه النظر إليه وحرم عليه جنته؛ كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى"(رواه النسائي).

 

فاتقوا الله -معشر الأبناء والبنات- في طاعة أبويكم وبروا بهما وأحسنوا إليهما؛ كما أمركم الله -تعالى- تنالوا رضاه والفوز يوم لقاه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

عبدالله: تلك وصية الإسلام بوالديك فأطع شرع مولاك واستجب لما إليه دعاك، واعلم أن طاعتك لوالديك دِين تثاب على فعله وتحاسب على التقصير فيه، وهي دَين ستجازى به من أبنائك؛ فإن أحسنت لوالديك؛ فأبشر بإحسان ذريتك إليك، وإن كانت الثانية وقصرت في حقوقهما وقابلت إحسانهما إليك بالجحود والعقوق؛ فأبشر بعقوق أبنائك لك؛ إضافة إلى العقاب يوم المرجع والمآب.

 

فيا أيها -الابن المبارك- راجع نفسك وفتش عن حالك مع والديك وحاسبها على كل تقصير في حقهما، واستمع إلى نصيحة من شاعر صدقك في المعاني والمشاعر:

أَطِعِ الإلَهَ كَمَا أَمَرْ *** وَامْلأْ فُؤادَكَ بِالحَذَرْ

وَأَطِعْ أَبَاكَ فَإِنَّهُ *** رَبَّاكَ فِي عَهْدِ الصِّغَرْ

وَاخْضَعْ لأُمِّكَ وَارْضِهَا *** فَعُقُوقُهَا إِحْدَى الكُبَرْ

 

أيها المسلمون: قبل الختام هناك وصايا إلى كل مريد للبر لوالديه؛ فدونكم -أيها الأبناء- هذه الوصية؛ فاجتهدوا في القيام بها وأبشروا بالخير في العاجلة والآجلة؛ وفي مقدمة هذه الوصايا: ليعترف كل واحد منا بفضل أبويه عليه وليتأمل في قول ربنا وهو يذكرنا بما قاما به لأجلنا حيث قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان:14].

 

ومن الوصايا للأبناء نحو والديهم: تلطفوا في الكلام معهما؛ فذلك من تمام الأدب؛ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الإسراء:23].

 

ومن الوصايا: اخفضوا لوالديكم جناح الرحمة والشفقة امتثالا لأمر الرحمن الرحيم، كما في كتابه الكريم؛ (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)[الإسراء:24]، وفي قوله -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24].

يقول أهل التفسير: "أي لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاءً لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك". 

 

فاحذروا -معشر الأبناء- نسيان فضل والديكم عليكم، وردوا لهم الجميل وكافئوهم بالثواب الجزيل وتعهدوهم بالعطاء والمحبة والتبجيل، واشكروهم على الجهد الفضيل وعاملوهم بالخلق النبيل تنالوا بذلك مرضاة ربكم الجليل.

 

اللهم اغفر لوالدينا واجزهم عنا خير الجزاء وأعنا على برهم والإحسان إليهم.

 

اللهم من كان منهم على قيد الحياة؛ فأطل عمره على طاعتك وأنعم عليه بالصحة والعافية.

 

ربنا هب لنا من أزواجِنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

المشاهدات 406 | التعليقات 0