بريق من جمر الكتابة! الشيخ أحمد بن عبد المحسن العساف

الفريق العلمي
1440/08/12 - 2019/04/17 11:16AM

أقصر طريق للمعرفة هو أن تذهب لمن برع في مجال ثمّ تسأله عن مشواره، وكيف وصل، وما هي العقبات التي واجهها، وطريقة تعامله معها، وما نصيحته لمن أراد اقتفاء أثره، ولذلك تجد كتب السّير والمذّكرات رواجًا، ويقبِل النّاس على متابعة حوارات تجرى مع نابغين في حقول تعنيهم.

 

وبين يديّ كتاب مليء بالحوارات، يتميز بأنّ المحاور شخص واحد، ناقش ثلاثة عشر كاتبًا وشاعرًا من الجنسين، ينتمون لبلاد وحضارات مختلفة، بعد أن قرأ لهم وعنهم، وعاش مع نصوصهم بلغاتها الأصليّة في الغالب، إذ أنّ المحاورِة تجيد سبع لغات عالميّة، ولديها براعة في حوار يجعل الطّرف الآخر يسترسل دونما حرج أو إحراج.

 

فمن ثمرات الكتاب أنّ كتابة الرّواية شغف أمبرتو إيكو الحقيقي، مع أنّه لم يكتبها إلّا بعد كسر حاجز الخمسين، ويكتبها لمتعته الشّخصيّة بعد أن استكشف جميع وسائل التّعبير بغزارة، وأضحت كتابته احتفالًا بالكلمة وتحولاتها. ويرى أنّ الإبداع عمليّة إعادة توزيع وترتيب جديد لعناصر العمل، ويشبّه التّرجمة بالمفاوضات بين لغتين، ويقف ضدّ أيّ رؤية ملائكيّة عن الكاتب، الذي ينهاه عن التّواضع لأنّه ليس حسنًا! ومع امتعاضه من الانترنت الذي أفسح المجال لمن ليس عنده شيء ليقول ما يحلو له، إلّا أنّه حريص على تعزيز ذكاء القارئ ليستعين على تمييز المعروض، ومن فرائده أنّ النّص قد يكون أذكى من صانعه!

 

ويشعر ساراماغو بالسّعادة حين يكتب ما يفكر فيه، ويصف طريقته بأنّه يكتب ما هو عليه بلا زيادة أو نقصان، فلا مناص من المشاركة في عمليّة التّغيير إذا أنّ أسباب السّخط زادت ولم تنقص. ويحذّر الكاتب من الاستخفاف بقوّة السّؤال، ويجزم بأنّ شرط الكتابة الأوّل هو الجلوس ثمّ تأتي الكتابة، وللكتابة على الورق عنده مزيّة التّفكير مع أنّ الكتابة على الكمبيوتر أسرع وتعين على حفظ الأفكار.

 

كما تسرق الحياة وقت الكتابة بحسب إيف بونفوا الذي تعني الكتابة لديه الكشف، ويوصي الكاتب بالجلوس ولو لم تكن لديه فكرة حاضرة أو غاية واضحة. وكرّس بول أوستر نفسه للكتابة فأصبح قادرًا عليها في أيّ مكان، ولأهميّة التّأمل ينصح الكاتب بأن يكون كالمنفي المراقب للحياة من الخارج، وخلص إلى التصاق حياة الكاتب وأدبه لدرجة استحالة الفصل بينهما؛ حتى أنّ شخصيّات رواياته لا تفارقه، وتغدو جزءًا من حياته.

 

ولدى الكاتب الصّادق ظمأ ملّح لاكتشاف نفسه ومعرفتها؛ فالاختباء طويلًا شأن مرهق، ولا مناص من الإجابة عن أسئلة الحياة على رأي باولو كويلو الذي يصف الكتابة بأنّها مزيج من النّشوة والتّوتر، وهو شغوف بالكتابة ويتمرد على ما يمانعها، ويكتب أعماله دفعة واحدة دون تقسيط، فالكتابة حلمه الأوّل.

 

ويعدّ اتّخاذ قرار الكتابة بمثابة التّنازل عن ملكيّة أفكارنا كما ذكر بيتر هاندكه، وربّما يكون الأصوب التّنازل عن سرّيتها، ويكمل بيتر قائلًا إنّ تعاضد طاقة الأسى مع رغبة الكتابة تولّد الشّرارة وتحدث المعجزة. وما أجمل رحلة الاستكشاف في عالم الكتابة، لذا يحثّ على تأمّل الصّور فهي محرّض لجوج على الكتابة، كما يلمح إلى فائدة الكتابة مع استحضار ذهنيّة القارئ، ولأنّ الكتّاب يستعملون نفس الكلمات ينبغي التّأنق في ضبط إيقاعها الدّاخلي وطريقة تنسيقها.

 

فهذه الكلمات ألغام مرصودة تنفجر في ضمير القارئ حسب تعبير ماريو فارغاس يوسا الذي يتعانق التّاريخ مع الخيال في رواياته وقد ينصهران معًا، ويبوح بأنّ القراءة أجمل شيء تعلّمه في حياته، ونتج عنها الكتابة التي تمثّل حياته كلّها، وينهى المبدع عن الاطمئنان ويدعوه ليصبح في قلق دائم على مستواه، فيكون أكثر قسوة على نفسه، وأكثر انتقادًا لنصّه، وأكثر إدراكًا لما عجز عن تحقيقه، مع الخوف من خطورة تكرار الأعمال، وعلاج ذلك بالتّنويع في أشكال الكتابة، ومعاملة النّص كمعمل منعش؛ على ألّا تصيبنا لوثة طلب الكمال بالشّلل.

 

كما يشبّه قلم الكاتب بالأصبع التي تنكأ الجروح، وهذا قدر لا مفر منه لمن شارك في الشّأن العام، فجهة الأقوياء ليست هي جهة الأدباء، وهو معنى تواطأ عليه أكثر من كاتب، وأكدته ألفريده يلينيك التي توقظها فكرة الكتابة من نومها، ولا غرابة فللتّعاطي مع الكلمة لذة. والملاحظ أنّ النّساء المحاورات يشتكين من الظّلم، وهضم الحقوق، ونظرة الرّجل والمجتمع، وهنّ أمريكيات وأوروبيّات؛ فكأنّ شعور المرأة وشكايتها المستمرة جبلّة منغرسة في أمشاج بنات حوّاء حماهنّ الله، وحمى منهنّ!

 

ولا تنحصر مسؤوليّة الكاتب في تنظيم المعرفة كما يقول إيكو، بل يجب أن يكون جرس إنذار ذي موقف مما يجري حوله وفقًا لآراء أنطونيو تابوكي الذي يعطي للرّوائي الحريّة في إعادة اختراع الحياة، والحنين إلى ذكرياته، والبحث في مناطق السّيرة المعمورة بالظّل، من أجل القبض على المعنى من بين ركام العمر؛ فقد لا تكون الأحداث مهمّة بقدر معناها.

 

ويشترط لفعل الكتابة الحريّة والصّدق، وهما ركنا الإبداع لديه، فليس هناك أبشع من أن يصبح الكاتب كاتبًا رسميّاً يدور مع هوى الأنظمة الحاكمة، فهؤلاء عار على الكتابة، ويعني المتزلّفين الأفاكين، الذين يقلبون الحقائق ويحرفون الوقائع، وهي سمات الأبواق المرتبطة بأنظمة ظالمة وقمعيّة، فأهم ما في فعل الكتابة صدقه بحسب أنطونيو، وألّا يخضع لضغوط أيّاً كان مصدرها، وويل للشّهود من موقف يوم عظيم!

 

ولأنّ الحياة الفرديّة والتّجارب الخاصّة فقيرة غالبًا، ولا يصلح الاكتفاء بها، ولا يمكن أن يعيش الإنسان مرّتين فتزداد خبراته، لذلك يمنحنا الأدب الفرصة للخيال، وفيه فضاء واسع للحريّة، وينصح تابوكي الكاتب بالإفادة من تجارب الآخرين، والثّقافة الشّعبيّة، وإجادة فنّ الإصغاء، وكم من كاتب وكاتب أبرز نفع "سرقة" أحاديث النّاس، وهي سرقة حلال فنحن لا نجني من الكتابة إلّا لذّة الكتابة نفسها!

ويعزّز الكاتب قدرته على التّوهم، وإجادة فنّ الاختصار، ومهارة إعادة الكتابة، والحوار مع الشّخصيّات، والاستسلام لطعم الاكتشاف والمفاجآت؛ فلامعنى للحياة إلّا عندما نرويها، وهذا من أكبر الدّوافع لكتابة الذّكريات وأمثالها، وتبقى الكتابة كما يفصح أنطونيو سرًا كاملًا، وشغف لا ينفك، وهي تغيّر أوّل ما تغيّر الكاتب نفسه!

 

إنّ الأدب الحقيقي لا يصل إلّا مع الأعاصير والعواصف على ذمّة الطّاهر بن جلّون، الذي يرى الكتابة عملًا انعزاليًا يوجب مرافقة الكتاب حين صدوره، ويعترف بفائدة الاغتراف من الآخرين ومن الحياة، وحين يوقّر الكاتب قرّاءه يعيش على قلق من خيبة ظنّهم فيه، وهذا أكبر دافع لبذل أقصى الطّاقة في العمل.

 

ولا يدير الكاتب ظهره للحياة برأي مانويل فاسكيث مونتالبان الذي لا يؤمن بحياد الكاتب، ويستنتج الرّوائي المهاجر نديم غورسيل أنّ الكاتب يقيم في الّلغة ولس في بلد المهجر، وترى ريتا دوف بأنّ الكتاب هو البطاقة الوحيدة لحياة سعيدة، ولا تنفصل الرّغبة في الكتابة عن حب يسبقها للقراءة، وتؤمن بضرورة الانضباط وتحديد وقت للكتابة، وتثني على أثر استمرار الممارسة الكتابيّة.

 

وما أحزن قولها بأنّ تخطّي الحواجز إلى الآخرين جعلت الشّاعر والكاتب خطيرًا في نظر بعض الأنظمة، وتنبّه ريتا ناشئة الكتّاب إلى سلبيّة الغموض، فبإمكان أيّ أحد صياغة جملة عصيّة على الفهم، وإنّما الشّأن في الوضوح، وتوصي بوعي الّلغة واستخراج المعاني منها، وتوثيق الصّلة بالتّاريخ، ولا تودّعنا قبل أن تلمح إلى أنّ الشّغف والخيال هما مفتاحا حياة الكاتب.

 

ينتسب جلّ ما سبق من أقوال وآراء إلى كتاب عنوانه: صحبة لصوص النار: حوارات مع كتاب عالميين، لجمانة حداد، صدرت الطّبعة الأولى منه عام (1439=2018م) عن دار أثر للنّشر والتّوزيع في الدّمام، ويقع في (335) صفحة، ويتكوّن من ثلاثة عشر حوارًا مع كتّاب وشعراء سبقهم شيء على سبيل التّمهيد.

 

وترى جمانة التي أجرت جميع هذه الحوارات بأنّ الحوار سفر، وزيارة إلى عقل الآخر وروحه وقلمه ومزاجه، وفرصة للغوص في حياة الكتّاب بعد شغف قراءة أعمالهم، لمعرفة عاداتهم وطقوسهم وتفاصيل حياتهم؛ بغية حلّ شفرة الكاتب وإزالة قناعه وغموضه. فالحوار لديها إبداع، وعلاقة إنسانيّة، وكدّ وإضافة، وطقس، وكر وفر، وإصغاء وتعلّم، وعبور في الرّوح، وهو أخيرًا صنعة فاتنة لمن يتقنها، ولا بأس مادامت الثّمرة تستحق كلّ هذا العناء.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

@ahmalassaf

المشاهدات 495 | التعليقات 0