بروا آباءكم
د. منصور الصقعوب
الخطبة الأولى 25/7/1439هـ
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا مزيدا.
في السير أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: ما بك؟ قال: أُصِبتُ في ولدي بأعظمَ من كل مصيبة, قال: وما ذاك؟ قال: ربّيتُ ولدي، سهرتُ لينام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبُر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمط حقي، ثم بكى بكاء مرّاً وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخ القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمّط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
حديث اليوم يا كرام, هو عن البرّ والإحسان, لن أتحدث فيه عن بر الأمهات, فذلك مما يُذّكّرُ به كثيراً, وما يتكلم متكلم عن البر إلا ويذكر حق الأم كم صبرت حين حملت, وكيف تعنّت حين وضعت, وكم عانت حين غذت وربّت, وتلكم حقوق لا يختلف فيها اثنان, والمقصر فيها محروم أعظم حرمان, بيد أن كل أحد عليه بعد حق الله حقان, حقٌ لأمه وهو آكد وحق لأبيه وهو متعينٌ, لذا فحديث اليوم خاصٌ ببر الآباء, فما هو دورنا تجاه آبائنا؟
رأيت ذلك الرجل يتغنى ببر أمه, ويتحدث الناس بقربه منها وإحسانه لها, وما إن جاء والده إلا ورأيت فيه جفاءً في حق أبيه, وقصوراً معه في التقدير, فقلت له: تالله ما قمت بحق البر, برك بأمك ناقصٌ خداج, وأنت مقصر في حق أبيك, فما هذا الفكر السقيم الذي بدأنا نراه لدى بعض الناس الآن, حين يرى البر بأمه وربما قصر مع أبيه.
قلِّب كتاب الله, وفتش صفحات السنة, ستجد أن نصوص الوحيين تأمر ببر الوالدين, الوالدين جميعاً, (واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (ووَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فما بال البعض لا يعرف بالبر إلا أمه, يجلس معها الأوقات الطوال فإذا جاء والده انشغل بجهازه, أو تململ من مجلسه, أو ما بالى أن يخرج لرفاقه في حين أن والده يفرح باللحظات يقضيها مع أولاده
أبوك الذي يُمضي النهار ساعياً في تأمين نفقتك, كم تعنّى وتعب, كم أذلّ نفسه لتعتز أنت, وأتعبها لترتاح أنت, وسال عرقُه لتنعم أنت, وجاع لتشبع, وخاف لتأمن, وتغرّب لتقيم آمناً مطمئناً
كَمْ سَابَقَ الْفَجْرَ يَسعَىَ فِي الصَّبَاحِ وَلا
يَعُودُ إلاَّ وَضَوْءُ الشَّمْسِ قَدْ حُجِبَا
تَقولُ أُمِّي: صِغَارُ الْبيتِ قَدْ رَقَدُوا ولَمْ يَرَوْكَ, أنُمضِي عُمُرَنَا تَعَبَا؟
يُجِيبُ: إنِّي سَأسعَى دَائِمًا لِأَرَى يَوْمًا صِغَارِي بُدُورًا تَزْدَهِي أَدَبَا
معشر الكرام: وصور البر الرائعة بالآباء كثيرة, دونكم نموذجٌ منها, إسماعيل عليه السلام, الذي بقي أبوه يرعاه منذ صباه, ورباه وغذاه, لما بلغ معه السعي, وأراد المولى سبحانه أن يمتحن الأب في حبّه إياه, أتته الرؤيا بأمرٍ في غاية الامتحان: اذبح ولدك, أنت ولا تُوكِل ذلك لغيرك, ما أصعبه من امتحان, ولكن الابن كان نعم المعين لأبيه, هنا يفعل البر, حين يكون الابن معيناً على أبيه بطاعة ربه (يا أبت افعل ما تؤمر, ستجدني إن شاء الله من الصابرين)
لقد أذاق الله إبراهيم برّ ولده حين كان باراً بأبيه, ناصحاً له, ساعياً في إصلاحه, وفي التنزيل (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) وظل على هذا النصح حتى حين أبى وهدد فقال له إبراهيم (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)
روى مسلم في صحيحه أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَيْنَمَا هُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ - وَكَانَ صَدِيقًا لأَبِيهِ عُمَرَ -، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَأَلْبَسَهُ عِمَامَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ق يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ، وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ"
تلك صور الأمس, وأما صور اليوم فأكثر من أن تحصر, نراها في صبحنا ومساءنا من أقوام موفقين
عرفتُ ذلك الرجل موفّقاً في تجارته, وفي أولاده البررة, ولم أعجب لأني عرفت من بره بوالده ما كان حرياً بمثله أن يوفِّقه في حياته, كان إذا قبض راتبه أعطى جلّه لأبيه, وأبقى معه شيئاً يسيراً, برغم أنه متزوج, كان يرتحل أيام الإجازة لأجل تجارة والده الشاقة, فإن باع بأقل مما يريد والده, وضع هو من ماله, وأوهم أباه أن تجارته ربحت, كي لا يتكدر الوالد, وما زال على هذا حتى لزمه حال سقمه حتى توفاه ربه, فعوضه الله ببر أولاده له.
رأيتُ ذلك الرجل الوجيه وهو عند أبيه, وأبوه قد لحقه الخرف, وهو يحتمل ما يأتيه من أبيه من كلمات غليظة, وبصق في وجهه, فقلت له هنيئاً لك البرّ, فقال والله ما صنعنا شئياً, صبروا علينا في صبانا, وهم مستمعين, أفلا نصبر على قسوتهم وهم على مقربة رحيل.
حدثني رجلٌ مسنّ منه هذه البلدة توفي قريباً أنه كان في طريقه للحج وعلى الرواحل والأقدام, فاحتاج والده المسنّ الخلاء, قال فانعزلنا عن القافلة, وحين فرغ وإذا بالقوم قد مشوا وابتعدوا, فحملت والدي على كتفي لنلحق بهم, وما راعني وأنا حامله إلا دمعة منه على رأسي أحسست بها, رفعت رأسي إليه وقلت والله ما أتعبني يا أبتي, فقال لي لا والله, ولكني قد حملتُ والدي في هذا الطريق قبل كذا عاماً ونحن راحلين للحج, ولقد عوض الله صاحبنا ببر أولاده به أعظم برّ حتى رحل عن الدنيا فغفر الله للأب, ووفق الأبناء
وفي مقابل هذه الصور المشرقة, كم ترى في بعض الأبناء من تقصير في حقّ أبيه, إذا حدثه فبتعالي, وإذا أمره أبوه ما بالاه, إن حلّ الأب في البيت ما وجد من يجالسه من أولاده, وإن أراد أمراً توارى الابن خوفاً من تكليف أبيه له, وإن أطاعه أطاعه وقد ود أن أخاه كفاه, وكل هذا ليس من البر
وأسوأ من ذلك من يرفع الصوت على أبيه, أو يقابل أوامره بالرفض, أو من يسخر من أبيه في قوله أو حاله, وأسوأ من ذلك من أغواه الشيطان حتى بلغ به الطغيان أن يرفع يده على أبيه, نعوذ بالله من الخذلان.
غذوتك مولوداً وعِلتُك يافعاً تُعِلُّ بما أُجري عليك وتنهَل
إذا ليلةٌ ضافتك في السُقم لم أبت لِسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغتَ به دوني فعيناي تهمِل
فلما بلغت السنّ والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعمُ المتفضل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوتي فعلتَ كما الجار المجاور يفعل
فهل رأيت أعظم حرماناً من ذلك الذي عقّ أباه, وليبشر بالعقوبة العاجلة والآجلة, وفي الحديث المروي "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق" صححه الألباني
اللهم وفقنا للبر واعصمنا من العقوق والبغي, اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية.
معشر الأبناء: يا كُلَّ من رزق أباً هو اليوم على قيد الحياة تالله إنك لفي نعمة عظيمة, توشك أن ترحل, ما دام أبوك حياً فلك إلى الجنة باباً, ولن يعرف قدر هذه النعمة إلا من جرب فقد الأب, سل ذلك الذي فقد أباه فأظلمت الدنيا في عينيه, حين فقد سنده, فليس في الدنيا من يسندك ويفرح لعلوك كمثل أبيك, سل ذلك الذي فقد أباه عن حاله إذا جاءت الأفراح كيف يتمنى أباً حوله يسعده وإذا جاءت الأتراح كيف يتمنى أباً يواسيه
مَا دُمْتُ حَيًّا لَسْتُ أَنسَى عِندَمَا أَقصَاكَ لَيْلُ الْقَبْرِ عَنْ أَحْضَانِي
إنْ كُنْتُ لاَ أَقْوَى لِبُعدِكَ لَيلَةً كَيفَ السَّبِيلُ لِمُقبِلِ الأَزْمَانِ
أَبَتِي وَحِيدًا صِرْتَ تَحتَ التُّرْبِ فِي قَبْرٍ بَعِيدٍ ضَائِعِ الْعِنْوَانِ
أَبَدًا.. فَقدْ جَاوَرْتَ رَبًّا شَاكِرًا يَجزِيكَ رَوضًا مِن رِياضِ جِنَانِ
وأَنَا الْوَحِيدُ هُنَا وَفَوقَ التُّربِ لاَ سَنَدٌ يُعِينُ وَلا أَنِيسٌ دَانِ
رَحَلَ الَّذِي يَبكِي بِلا دَمْعٍ إذَا سَمِعَ الأَنِينَ يَجُولُ فِي وِجْدَانِي
رَحَلَ الَّذِي لا يَغْمَضُ الْجَفْنُ الْكَلِيلُ لَهُ إذَا دَمَعَتْ أَسىً أَجْفَانِي
أيها الشاب: البر دينٌ سترى أثره في أولادك, وهو قبل ذلك وفاءٌ لمن أحسن إليك, وهو قبل ذلك كلّه قربةٌ وطاعة لله وبوابة أجر, وفي الحديث «رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»
برك بابيك أن تسعى في تلبية حوائجه وأن تفرح حين يأمرك أنت, ويخصك أنت من بين إخوتك بتلبية طلبه
صلاح في نفسك, واستقامتك لأمر ربك, وبعدك عن الشرّ, ونيأك عن موارد العصيان من أعظم البر بأبيك.
سعيك في نفع الناس, وجهك لرفعة الأمة هو من أعظم البر له فلمثل هذا رباك, ولمثل هذه المواطن هيأتك, وليكون مشاركاً لك في الأجر
برك بأبيك أن تحرص على الجلوس معه, وإيناسِه بحسن حديثك, وإدخال السرور عليه ببقائك, سيما إذا كبُر وترحّل رفاقه, واحتاج لأولاده.
برك بأبيك أن تتفقد حاجاته وأن توسع عليه عند احتياجه, فكم أحسن إليك وأنفقك,
برك به أن تحتمل عتابه, وتصبر على حدّته, وأن يراك حيث يحب, وأن تكون رفيقاً له في ذهابه ورواحه إن رغب.
أيها الشاب: ولربما رأيت أباك مقصراً في حق الله, فمن أعظم البر أن تعينه على نفسه, وتوجهه وتذكره, ولكن بمراعاة أنه الأب وأنت الابن, وأنه الكبير وأنت الصغير, فتختار للنصح أفضل العبارات, وأنسب الأوقات, ولك في إبراهيم عليه السلام
يا مبارك: إن من الأبناء من يبخل أباه, ومن إذا رأى أباه منفقاً ثبطه, وبخّله, وليس ذلك من البر, بل البر أن تعينه على الخير وتؤزه له, وفي الحديث "الولد مجبنة مبخلة"
أيها الموفق: والبر لا ينقطع بالوفاة, فبرك بأبيك بعد وفاته أن تصلح أقاربه, وتحسن إلى إخوانه وأخواته, وأن تتفقد أصحابه ورفاقه, وفي الصحيح " إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي"
دعاءك له من أعظم البر, وهو عمل صالح يأتيه في قبره, وفي الصحيح "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ومنها ولد صالح يدعو له" فكم نصيب والديك حيّهم وميتهم من دعواتك
وبعد: فأنت اليوم ابنٌ وغداً أبٌ, فاختر لأولادك معك من خلال ما تقوم به مع أبيك, والبِرُّ لا يُحَدُّ بصورةٍ, ولا يحاط به بكلمة, وإنما هو كل إحسان من قول أو فعل أو شعور.
تلكم يا كرام كلمات وفاء في حق الآباء, ونحن على يقين أن حقهم أكبرهم, وقدرهم أعظم, فاللهم وفقنا للبر بوالدينا أحياء كانوا أو أمواتاً