بركة كبار السن
راشد بن عبد الرحمن البداح
إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَدًا عَبْدُه وَرَسُولُه، صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمَّا بَعْدُ:
فتَأَمَّلْ ذَلِكَ الرَّجُلَ الهَرِمَ الذِيْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلىَ عَيْنَيْهِ، وَرَأْسُهُ بَيْنْ رُكْبَتَيْهِ مُحْدَوْدِبًا، قَدْ قارَبَ المِئةَ سَنَةٍ، وَهَذَا ابْنُهُيَحْمِلُهُ كَالطِّفْلِ؛ ليَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَتَدْرِيْ مَنْ هَذَا الِابْنُ وَمَنْ ذلِكَ الأَبُ؟! إِنَّهُ أَبُوْ بَكْرٍ قَدْ حَمَلَ أَبَاهُ؛ ليُسْلِمَ وَيُسَلِّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ:هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ حَتَّى آتِيَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلْ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَأْتِيَكَ.فَأَسْلَمَ، وَكانتْ لِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ اشْتَعَلَتْا شَيْباً. فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ(). فَقَدْ أَكْرَمَهُنَبِيُّنا بِثَلاثٍ: أَكْرَمَهُ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وبِالتَلَطُّفِ مَعَهُ، وَبِطَلَبِ صَبْغِ لِحْيَتِهِ.
أيُّها المبَارَكوْنَ: كِبَارُ السِّنِّ هُمُ الْبَرَكَةُ الْخَفِيَّةُ. أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ؟! صَحَّحَهُ المُنَاوِيُّ وَالأَلْبَانِيُّ().
كِبَارُ السِّنّ فَقَدُوا وَالدَيْهِمْ، وَطَائِفَةً مِنْ رُفَقَائِهِمْ، فقُلُوبُهُمْ جَرِيحِةٌ،وهُمُومُهمْ مُبَرِّحَةٌ. وَقَد يُوَارُونَ دَمْعَتَهُمْ ورَاءَ بَسْمَتِهِمْ. شَابَتْ شُعُورُهُمْ،وَنَضَبَتْ مَشَاعِرُهُمْ.
كِبَارُ السِّنِّ يُؤْلِمُهُمْ بُعدُكَ عَنْهُمْ، وانشغُالُكَ بهاتِفِكَ فِي حَضْرَتِهِمْ.
كِبَارُ السِّنّ غَادَرَ بِهِمُ قِطَارُ الحَيَاةِ عَنْ مَحَطَّةِ اللَّذَّةِ، إلَى صَالَةِ انْتِظَارِالرَّحِيلِ، فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الدَّاعِيَ لِيُلَبُّوهُ. ومَراحِلُ حَياةِ الإِنْسَانِ إنَّمَا هِيَ قُوةٌ بَينَ ضَعْفَيْنِ، وضَعْفُ الطُّفُولةِ كضَعْفِ الكُهُولَةِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم54]
وهُمْ كِبَارُ السِّنِّ الْآنَ، وَعَمَّا قَلِيلٍ سَتَكُونُ أَنْتَ كَبِيرَ السِّنِّ. فَانْظُرْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ وَمَا أَنْتَ زَارِعٌ! فكُنْ رَبِيعَ خَريفِهِم، وَكُن عَصا طَاعَتِهِم. و«مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ».
مَعَاشِرَ الإِخْوَةَ: إِنَّ مِنَ المَكَارمِ العَظِيمَةِ الَّتي دَعَا الإسْلامُ إلَيْهَا وأَكَّدَ عليهَا: إكْرَامُ كِبارِ السِّنِّ، ومَعْرِفَةُ حَقِّهِمْ، والتَّأدُّبُ مَعهُم. وقَدْ قَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ().
ثُم إِنَّ هَذَا الْحَقَّ يَعَظُمُ وَيَكْبُرُ؛ فإِذَا كَانَ المُسِنُّ جَارًا فَيُضَافُ إلَيْهِ حَقُّ الْجِوَارِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا كانَ أعْظَمَ، فَإِذَا كَانَ أحَدَ الوَالِدَيْنِ فلا أعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ.
بَلْ إِذَا كَانَ الْمُسِنُّ كَافِرًا؛ فَرَحْمَتُهُ مِنْ سَمَاحَةِ الإِسْلَامِ، وقَدْ رَأَى عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَيْخًا يهُودِيًّا ضَرِيرًا، يَمُدُّ يَدَهُ للنَّاسِ، فأَعْطَاهُ مَالًا، وقَالَ: وَاللهِ مَا أَنْصَفْنَاهُ أَن نَخُذُلَهُ عِنْدَ الْهَرَمِ. وَأَسْقَطَ الجِزْيَةَ عَنْ كُلِّ كِتَابِيٍ هَرِمٍ().
أما والِدَاكَ إذا كَبُرَا؛ فاللهُ يوصيْكَ بهما فيقولُ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ أتدريْ ما معنى عندَك؟! عندَك؛ أي احتماؤُهُما بكَ، وحاجتُهما لكَ، فاحذرْ أن يكونَ جزاؤُهما بعدَ كلِّ تلكَ التضحياتِوالسنينِ؛ أن تتجرأَ، فتقولَ لهما: (أفٍّ). تدريْ ما معنى (أفٍّ) عندَ اللهِ؟ معناها: جحودُ هذهِ التربيةِ والتضحيةِ.
﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ قالَ سفيانُ بنُ عيينةَ -رحمهُ اللهُ-: إذا صليتَ الصلواتِ الخمسَ فقد شكرتَ اللهَ، وإذا دعوتَ لوالديْكَ في أدبارِالصلواتِ الخمسِ فقد شكرتَ لوالديكَ().
فيا أيُّها البارُّ: أتريدُ أن يزيدَ برُّكَ بوالديْكَ ولو كانا تحتَ الثرى؟!
إذًا: فلتُكثرْ من الدعاءِ لهما دُبُرَ كلِّ الصلواتِ المكتوبةِ والنافلةِ، أفتَبْخَلُ عليهما بجملةٍ من الدعاءِ؟! وإنما هيَ أيامٌ قلائلُ؛ تُضحّيْلأجلِهِما وتُنافِسُ إخوَتَكَ ببرِّهِما، ثم تفوزُ بعدَها بالبركةِ في الدنيا، وبالجنةِ في الآخرةِ.
الحَمْدُ لِلهِ خَيْرِ الرَّاحِمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى المَبْعُوْثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَنَعَمْ؛ مُجْتَمَعُنا بِعُمُومٍ يُقَدِّرُ ذَا الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، ويُوَقِّرُهُ، ويُقبِّلُرَأْسَهُ. ويُوسِّعُ لهُ فِي الْمَجْلِسِ والطَّرِيقِ. والسُّؤَالُ الكَبِيْرُ هوَ: مَاذَا يُرِيْدُ مِنَّا كَبِيْرُ السِّنِّ؟
والجَوَابُ أنَّهُ يُرِيْدُ مِنَّا سَبْعًا، هِيَ عَلَيْنَا يَسِيْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي نَفْسِهِكَبِيْرَةٌ:
الأُولَى: أَنْ نَحْتَرِمَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ نَرْحَمَهُ.
الثانيةُ: أَنْ نَسْتَمِعَ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَمِعُ لَنَا.
الثالثةُ: أَنْ نَقْطَعَ عَلَيْهِ عُزْلَتَهُ وَوَحْدَتَهُ.
الرابعةُ: أَنْ نُذَكِّرَهُ بِأَفْضَالِهِ، وَنَذْكُرَ مَآثِرَهُ.
الخامسةُ: أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُ أَوْلَادُهُ، وَيؤنِسَهُ أَحْفَادُهُ.
السادسةُ: أَنْ نُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا.
والسَّابِعَةُ -وهِيَ الأَهَمُّ-: أَنْ نُسَاعِدَهُ بِلَا أَدْنَى مِنَّةٍ. فإنهُمْوإنَّهُنَ يَدْعُونَ ويُلِحُّونَ: اللهم لا تُحْوِجْني لأحدٍ! كلُّ ذلكَ مِنْهُمْخَوفًا منْ مِنَّةِ زوجةِ وَلَدٍ، أو حَتّى قَرِيْبٍ يَمُنُّ، أو ذِيْ رَحِمٍ يَمْتَنُّ،مُتَّبِعِينَ ما صَحَّ في قَولِ النَّبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ سِوَاكٍ(). أيْ وَلَوْ بِأَقَلِّ القَلِيلِ.
ألَا فَلْيَعِشْ كِبَارُ السِّنِّ بَيْنَنَا بَقِيَّةَ أعْمَارِهِمْ وهمْرَافِعُو رُؤُوسِهِمْ.
• فاللهم اجْعَلْنَا ووالدِينا وكلَّ ذي شَيْبَةٍ مسلمٍ مِمَّن طَالَعُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. وارْزُقْنا وإياهُمَ عَيْشًا قارًّا، ورِزْقًا دَارًّا،وَعَمَلاً بارًّا.
• اللهم وارْحَمْ مَنْ مَاتَ من والدَينا، وارزقْنا برَّهُما أحياءً وأمواتاً.
• اللهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ.
• اللهم آمِنَّا في دِيَارِنَا ودُورنِا، وأصلحْ وُلاةَ أمورنِا. واحفَظْ جُنُوْدَنَا وَحُدُوْدَنَا.
• اللهم أَسْبِغْ عَلَى إمَامِنَا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ لِبَاسَ الصِّحَّةِ والعَافِيَةِ.
المرفقات
1728493669_بَرَكَةُ كِبارِ السِّنِّ.doc
1728493669_بَرَكَةُ كِبارِ السِّنِّ.pdf