براءةٌ خالدةٌ.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله خلقنا فسوّانا، وأنعم علينا وهدانا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صَلَّى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه والتَّابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فتقوى الله عليها المُعوَّل، وعليكم بما كان عليه السلفُ الصالحُ والصدرُ الأول، سارِعوا إلى مغفرة ربِّكم ومرضاته، وأجيبُوا داعِي ربِّكم إلى دار كرامتِه وجنَّاته.
عباد الله:
مما أُمر به خاتم المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، إعلان البراءة من الكافرين، ومفارقتهم في الظاهر والباطن، والحال والاستقبال.
وهذه البراءة لا يكفي فيها الاعتقاد القلبي، بل لابد من تصديق الاعتقاد بالأقوال والأفعال، وهذا ما يفهمه العربي من أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورةٍ تعدل ربع القرآن ﴿قُلْ﴾ أيها النبيُّ وأعلن ونادِ ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾.
إنها سورة الكافرون، وتسمى كذلك سورة المُقَشْقِشَةِ؛ لأنَّها تُقَشْقِشُ منَ الشركِ والكفرِ أي تبرئ منه.
من يقرأُها يسترعي انتباهَه ما وردَ فيها من معاني التوحيد، والبراءة من الكافرين، ويشده التأكيد بعد التأكيد، بأساليب مختلفة، وطرقٍ متنوعة، أولها أمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بنداء الكافرين، وإخبارهم عن أمرٍ عظيم، لا يكون العبد بدونه من المسلمين، فهي سورة البراءةِ من العملِ الذي يعمله كلُّ كافرٍ على وجهِ الأرض.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، والكافرُ كلُّ جاحدٍ للحقِّ الذي وَضَحَتْ حُجَّته، واتضحت أدلَّتهُ، ويشملُ ذلكَ اليهودَ والنصارى والمشركينَ والمنافقينَ ومن اتبعَ سبيلَهم، وسلكَ طريقَهم، معتقدًا صحَّتَهُ بقلبِه.
وهؤلاء الكفارُ يظنُّون أنهم يعبدون الله سبحانه، فقد قال المشركونَ ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، فأعلن النبي عليه الصلاة والسلام صراحةً جهلَهم، ورفض طريقتِهم، ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وهذه جملة ابتدأت بالفعلِ المضارع ﴿أَعْبُدُ﴾ فأفادت نفي عبادة ما يعبدون في الحال والاستقبال، ونفت عنهم عبادة ما يعبده النبي عليه الصلاة والسلام، ما داموا على طريقتهم.
ثم أكدت السورةُ العظيمةُ ذلك بآيتين أخريين بدأت بجملةٍ اسميةٍ ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾. والجملةُ الاسميةُ أقوى من الفعليةِ، فهي تفيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعبدْ ما يعبدونه في كلِّ حياته، لا قبلَ نزولِ الوحيِ ولا بعده، وهذا أبلغُ في البراءةِ من الكفرِ وأهلِهِ.
وخُتمت السورة بما يؤكد البراءة من أهل الكفرِ في كلِّ زمانٍ، فأمَر سبحانه نبيَّه أن يقول: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، أي أنَّا اقتسمنا خُطَّتنا بيننا، فأصابنا التوحيدُ والإيمانُ فهو نصيبنا الذي لا تشركوننا فيه، وأصابكم الشركُ، فهو نصيبكم الذي لا نشارككم فيه.
وإذا تأملتَ أيها المبارك فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه السورة، وكيف ندب أمته إلى تكرارها في مواطن عديدة كلَّ يوم كركعتي الفجرِ، والشفعِ والوترِ، وسنةِ المغربِ الراتبةِ، إضافةً إلى تكرار قراءتها على أصحابه في صلاة المغرب، إذا تأملت ذلك فهل يمكن أن ينقدح في ذهنك أن حاجة أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وكبار الصحابة رضي الله عنهم إلى استشعار معانيها وتكرارها أكثر من حاجتك، وهم الذين هجروا الديار والأموال والراحة والدعة تطبيقًا لها ولأحكامها؟
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن أبلغَ ما يسعى إليه الأعداءُ من الإفسادِ هو إفسادُ العقيدةِ الصحيحةِ، حتى يتهاونَ المرءُ فيما لا يحتملُ التهاونَ، كالشركِ ومقدماتِهِ، والمعاصي على أشكالِها، ومن أبلغِ ما يوضِّح حجمَ الجهد الذي يبذلونه، الاطلاعُ على بعضِ المقاطعِ والأخبارِ التي تصوِّرُ سعادةَ الكافرينَ بعيدِهم، وتنقلُ بعضَ مظاهرِ احتفالِهم، وتبرزُ ذلك على أنه اختلافُ ثقافاتٍ محمودٌ، وأنَّ مشاركتَهم ولوْ باليسيرِ منْ محاسنِ الأخلاقِ، رغمَ أن القولَ بسببِ هذا العيدِ يهدِم عقيدةَ المسلمِ من أساسِها، ويناقضُ آياتِ القرآنِ الصريحةَ، فهُم يحتفلونَ بولادةِ ابنٍ لله -تعالى الله عما يقولُ الظالمونَ علوًا كبيرًا، والله سبحانُه أنزل القرآن لينذرهم: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾، فكيف يسوغ لبعض المسلمين أن يهنئهم؟!!
إنَّ تهوينَ هذه الدعوى في النفوسِ، مخالفٌ لمنهجِ القرآنِ الكريمِ، الذي استعظَمَهَا وأنكرَهَا، وصَوَّرَ فزعَ السماواتِ والأرضِ والجبالِ منها، فلا ينبغي أن تكون هذه المخلوقاتُ أكثرَ غيرةً لله سبحانَهُ من الموحِّدينَ ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ -أي: عظيمًا فظيعًا-، ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾.
وأقلُّ أحوالِ الموحدِ مع هذه الكلمة استشعارُ ما فيها من الأذى، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ».
ألا فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ، وأقبلوا بأرواحِكُمْ على هذا الكتابِ، وابذلوا لفهمهِ والاستفادةِ منه كلَّ الأسبابِ ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ثمَّ صلُّوا وسَلِّموا عَلى خيرِ البَرَايَا، فقدْ أمَرَكُمُ اللهُ تعالى بذلكَ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
المرفقات
1672325532_براءةٌ خالدةٌ.docx
1672325532_براءةٌ خالدةٌ.pdf
1672325592_براءةٌ خالدةٌ للجوال.pdf