بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ لله الكريمِ الوهابِ، الرازقِ بلا حسابٍ، غافرِ الذنبِ، وقابلِ التوبِ، شديدِ العقابِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، الشافعُ المجابُ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه، والتابعين، ومن تبعهم بلا شك ولا ارتيابٍ، إلى يومِ المرجعِ والمآبِ..
أما بعد: فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ففيها الفضلُ والخيرُ، وبها ينالُ القدرُ والتوقيرُ، واحذروا حالَ المعرضينَ عن التقوى الذين قالَ اللهُ عنهم: "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ"
معاشر المؤمنين: الاحتقارُ داءٌ يُحطِّمُ النفسياتِ، ويكسرُ القلوبَ، ويُعيقُ الطموحَ، ويمزِّقُ العلاقاتِ، ويُفرِّقُ المجتمعاتِ، فكم من طفلٍ صار ضحيتَه، وكم من شابٍ تجرَّع ويلاتِه، وكم من كهلٍ تأذى به في مسيرةِ عُمُرِه، يتشفُّى به الفاشلُ، ويُنَفِّسُ به الحاقدُ عن نفسِه، ويصْرِفُ به الجاهلُ الأنظارَ عن جهلِه، ولا يمارسُه ويتعاملُ به؛ إلا شخصٌ صَفِيْقُ الوجهِ، غليظُ الكبدِ، مُشبَعٌ بداءِ العجبِ، منغمسٌ في وَحَلِ الغرورِ.
وكم في المُحتقرينَ من عظماءٍ وأجلّاءٍ عند اللهِ، وكم فيهم مِنْ أفذاذٍ وفضلاءٍ، وكم فيهم من أصحابِ مواهبَ وملكاتٍ وقُدُراتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمرَينِ ، مُصفَحٌ عن أبوابِ النَّاسِ ، لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وعن سهلِ بن سعدٍ الساعديِّ رضي اللهُ عنه قالَ: "مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ يُسْتَمع، قالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْتَمع، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا" رواه البخاري، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ، ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ أَرْفَعَ رَجُلٍ تَرَاهُ فِي الْمَسْجِدِ ) قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا ، قَالَ: فَقَالَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ، ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ أَوْضَعَ رَجُلٍ تَرَاهُ فِي الْمَسْجِدِ ) قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ ضَعِيفٌ عَلَيْهِ أَخْلَاقٌ ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهَذَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُرَابِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا ) .
وقال محققو المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين . هكذا يربي صلى الله عليه وسلم أُمّته، بأن تكون موازينُهم للناس ونظرتهم لهم؛ خاليةً من موازين الدنيا ومقاييسها التي تؤدي إلى الاحتقار ِوالازدراءِ، ويوم أن قال صلى الله عليه وسلم " هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا" ليس احتقاراً للمفضولِ منهما، وإنما قاله لتعليم الأمّة عدمَ احتقارِ الناسِ بما يظهرُ ويُعرفُ من أشخاصِهم وأحوالِهم ومظاهرهِم ومهنِهم، فقد أعطانا قاعدةً نستضيئ بها ونستنير بنورها في هذا الأمرِ. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه الله :
" وَفِي الْحَدِيثِ : أَنَّ السِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا لَا أَثَرَ لَهَا ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَظُّ مِنَ الدُّنْيَا يُعَاضُ عَنْهُ بِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ ، فَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِلْفَقْرِ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لتفضيل الْفَقِير على الْغَنِيّ كَمَا قَالَ ابن بَطَّالٍ ، لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ طُرُقِ الْقِصَّةِ أَنَّ جِهَةَ تَفْضِيلِهِ إِنَّمَا هِيَ لِفَضْلِهِ بِالتَّقْوَى
معاشر المؤمنين: الاحتقار عملٌ مُحرمٌ، وذنبٌ ووزرٌ؛ من عملَ به أثم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ، دمُهُ ، ومالُهُ، وعِرضُهُ" رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله: " بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم" أي: يَكفي الإنسانَ مِنَ الشَّرِّ؛ وذلكَ لِعِظَمِ هذا الذنبِ في الشَّرِّ، فهو كافٍ له عَنِ اكتسابٍ آخَرَ. وهذا يدلُّ على حجمِ الاحتقارِ بين الذنوبِ، ومقدارِ ما يجلبُ على صاحبِه من الآثامِ.
وعدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الاحتقارَ من عملِ الجاهليةِ، فعن المِعْرَوْرِ قالَ: لقيتُ أبا ذرٍ بالرَّبَذَةِ وعليه حُلَّةٌ، وعلى غلامِه حُلَّةٌ، فسألتُه عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلاً فعَيَّرْتُهُ بأُمِّه فقال ليَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أَعَيَّرْته بأُمِّه؟ إنك امرؤٌ فيكَ جاهليةٌ، إخوانُكم خَوَلُكُم، جعلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فمَن كان أخوهُ تحتَ يده فليُطْعِمْه ممَّا يأكلُ، وليُلْبسُه ممَّا يَلْبَسُ، ولا تكلِّفوهم ما يَغْلِبُهم، فإنْ كلَّفْتُمُوهُم فأعينوهم"رواه البخاري.
والاحتقارُ نابعٌ من سلوكِ السخريةِ المشينِ، وفرعٌ متينٌ من فروعِه يقولُ اللهُ تعالى " :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" قال ابنُ كثيرٍ: "ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارُهُم والاستهزاءُ بهم" وقالَ ابنُ جريرٍ: "إنَّ اللهَ عمَّ بِنَهْيِه المؤمنينَ عن أنْ يسخرَ بعضُهمْ من بعضٍ جميعَ معاني السُّخريَةِ، فلا يحلّ لمؤمنٍ أنْ يسخرَ مِنْ مؤمنٍ لا لفَقْرِه، ولا لذنْبٍ رَكِبَهُ، ولا لغيرِ ذلك"
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ ونفعنا بما صرَّفَ فيهما من الآياتِ والحكمةِ..
أقولُ قولي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ ...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعد: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
معاشر المؤمنين: احتقارُ الناسِ هو الكِبْرُ المذمومُ، والكبيرةُ الشنيعةٌ؛ حيث فسَّرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ بذلك: فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخلُ الجنَّةَ مَنْ كانَ في قلْبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فقالَ رجلٌ: إنَّ الرَّجلَ يُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حسنًا، ونعلُه حسنةً، قالَ: إنَّ اللَهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ النَّاس" رواه مسلم، وفي روايةٍ " غَمْصُ الناس" قال ابنُ القيِّمِ:(فسَّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ الكِبْرَ بضدِّه فقالَ: الكِبْرُ بَطَرُ الحقَّ وغَمْصُ الناسِ. فبطر الحق: رده، وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل. وغَمْصُ الناسِ: احتقارُهُم، وازدراؤهُم، ومتى احْتَقَرَهُمْ وازْدَرَاهُم: دِفَعَ حقُوقَهَم وجَحَدَهَا واسْتَهَانَ بها" انتهى كلامه رحمَه اللهُ.
وبعدُ عبادَ اللهِ: الواجبُ على المسلمِ أنْ يكونَ مصدرَ سلامةٍ، وأنْ يكونَ مَنْبَعَ خيرٍ وأمانٍ لإخوانِه المسلمين، فَمِنْ جوامعِ كلِمِه صلى الله عليه وسلم؛ مارواه عبدُ اللهِ بنِ عمروٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه" رواه البخاري.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاةِ والسلامِ عليه اللهُ حيثُ يقولُ: "إنَّ اللهَ وملائكتَه يصلون على النبيِّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"