بادر إلى الحج النظامي

هلال الهاجري
1445/11/07 - 2024/05/15 21:06PM

الحمدُ للهِ الذي وفقَّ عبادَه الطَّائعينَ لأداءِ فريضةِ الحجِّ، ودعاهم فلبَّوا وأتوا من كلِّ بلدٍ وفجٍّ، امتثالاً لأمرِه تعالى: (وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يُنعمُ على حُجَّاجِ بيتِه الحرامِ بالمغفرةِ والرِّضوانِ والإكرامِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيِّه من خلقِه وخليلِه، خيرَ من حجَّ واعتمرَ وصلَّى وصامَ، بيَّنَ لنا المناسكَ والأحكامَ، فقالَ عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ السَّلامِ: (خذوا عني مناسكَكم)، فيا ربِّ صلِّ على الهادي البشيرِ وعلى آلِه الطَّاهرينَ وصحابتِه الغُرِّ الأعلامِ ومن اقتدى واهتدى بهداهم على الدَّوامِ .. أما بعد:

اسمعوا إلى مِثالٍ قريبٍ من المخاطرِ التي كانتْ تواجهُ الحجَّاجَ، والذي كانَ الذَّاهبُ منهم مفقودٌ، والرَّاجعُ منهم مولودٌ، فَقَبلَ أكثرِ من خَمسينَ عامًا، خرجَ عثمانُ دابو رحمَه اللهُ من جُمهوريةِ جَامبيا في أَقصى غَربِ قَارةِ أَفريقيا إلى البيتِ العتيقِ، مَشيًا على قَدميهِ مع أربعةٍ من أهلِ قريتِه، لم يركبوا فيها إلا فَتراتٍ يسيرةً على بعضِ الدَّوابِ، وليسَ معهم إلا قوتٌ لا يكفيهم أكثرَ من أسبوعٍ واحدٍ فَقط، والهدفُ هو تَحقيقُ أمرِ اللهِ تعالى بحجِّ بيتِه العتيقِ، وأصابَهم في طريقِهم من المشقةِ والضيقِ والكَربِ ما اللهُ به عليمٌ؛ فكم من ليلةٍ باتوا فيها على الجوعِ حتى كَادوا يَهلكونَ، وكمْ من ليلةٍ طَاردتهم السِّباعُ، وفَارقهم لذيذُ المنامِ، وكم من ليلةٍ أحاطَ بهم الخوفُ من كلِّ مكانٍ؛ فقُطَّاعُ الطرقِ يَعرضونَ للمسافرينَ في كلِّ وادٍ.

كانَ الشَّوقُ للوصولِ إلى الحَرمينِ الشَّريفينِ يَحدوهم في كلِّ أحوالِهم، ويخففُ عنهم آلامَ السفرِ، ومشاقَ الطريقِ ومخاطرَه، ماتَ ثلاثةٌ منهم في الطريقِ، كانَ آخرُهم في عُرْضِ البَحرِ، قَالَ الحاجُّ عثمانُ: لمَّا ماتَ صاحبُنا الثالثُ، نزلني همٌّ شديدٌ وغمٌّ عظيمٌ، وكانَ ذلك أشدَّ ما لاقيتُ في رحلتي؛ فقد كانَ أكثرَنا صبرًا وقوةً، وخشيتُ أن أموتَ قبلَ أن أنعمَ بالوصولِ إلى المسجدِ الحرامِ، فكنتُ أحسبُ الأيامَ والساعاتِ على أحرِّ من الجمرِ، فلما وصلنا إلى جُدةَ مَرضتُ مرضًا شديدًا، وخشيتُ أن أموتَ قبل أن أصلَ إلى مكةَ المكرمةِ، فأوصيتُ صاحبي أَنني إذا مِتُّ أن يكفنَني في إحرامي، ويقرَبني قَدرَ طاقتِه إلى مكةَ، لعلَّ اللهَ أن يضاعفْ لي الأجرَ، ويتقبلني في الصَّالحينَ.

قَالَ: فمكثنا في جُدةَ أيامًا، ثم واصلنا طريقَنا إلى مَكةَ، كانت أنفاسي تتسارعُ والبِشْرُ يملأُ وجهي، والشَّوقُ يهزني ويَشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجدِ الحرامِ، يقولُ الحاجُّ عثمانُ بعدَ أن كفكفَ دموعَه: أُقسمُ باللهِ تعالى أَنَّني لم أرَ لذةً في حَياتي كتلكَ اللذةُ التي غَمرتْ قلبي لمَّا رأيتُ الكعبةَ المشرَّفةَ، ثُمَّ قالَ: لما رأيتُ الكعبةَ سَجدتُ للهِ شكرًا، وأخذتُ أبكي من شِدةِ الرهبةِ والهيبةِ كما يَبكي الأطفالُ، فما أَشرفَه من بيتٍ، وأعظمَه من مكانٍ، ثم تذكرتُ أَصحابي الذين لم يَتيسرْ لهم الوصولَ إلى المسجدِ الحرامِ، فحمدتُ اللهَ تعالى على نعمتِه وفضلِه عليَّ، ثم سألتُه سبحانَه أن يكتبَ خُطواتِهم وألا يحرمَهم الأجرَ، وأن يجمعَنا بهم في مقعدِ صِدقٍ، عندَ مَليكٍ مُقتدرٍ.

وَأَنتَ مَا هو عذرُكَ يا من تستطيعُ الحجَّ وما حججتَ؟، ما هو عذرُكَ وقد أعطاكَ اللهُ صِحةً وغِنىً؟، ما هو عذركَ وقد أصبحتْ الطُّرقُ أكثرَ أَمناً؟، وَأصبحتْ المسافاتُ قصيرةً؟، وَأصبحتْ المناسكُ يسيرةً؟، عَن أبي هريرةَ رَضيَ اللهُ عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَمَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا)، فماذا تنتظرُ يا مَن لم يحجَّ؟، قَالَ السَّريُّ السَّقَطيُّ رحمَهُ اللهُ: خرجتُ إلى الحجِّ؛ فلقيتُ جاريةً حَبَشيةً، فقلتُ: إلى أينَ يا جاريةُ؟، فقالتْ: إلى مَكةَ، فقلتُ: إنَّ الطَّريقَ بَعيدٌ، فأَنشدتْ تَقولُ:

بعيدٌ على الكسلانِ أو ذُو مَلالةٍ *** وأمَّا على المُشتاقِ فهو قَريبُ

فَهَلْ ننتظرُ بتسويفِنا وتأجيلِنا للحجِّ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، يقول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ).

مَن مِنَّا يُريدُ فتحَ صفحةٍ جديدةٍ لِعُمرِه؟، نستدركُ فيها ما كانَ من خطايا، ونُعوِّضُ فيها ما كانَ من بلايا، ونُجدِّدُ الأعمالَ مع اللهِ تعالى والنَّوايا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، اللهُ أكبرُ، أيامٌ معدوداتٌ، تمحو سنينَ عديداتٍ، فيصبحُ الواحدُ بعدَها كطفلٍ وَليدٍ، فماذا عسى أن تفعلَ بعُمرِكَ الجديدِ؟.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على نعمائه، والشُّكرُ له على فضلِه وآلائه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، عَبدَ ربَّه في سَرائه وضرائه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه، أما بعدُ:

اليَومَ مَا نَراهُ من تَيسيرِ الحجِّ شَيءٌ عَجيبٌ، فَيبدَأُ مَسَارُ الحَجِّ في بَلَدِ الحَاجِّ، ويُنهي جَميعَ الإجراءاتِ بِسُهولةٍ وَسَلامٍ، ثُمَّ يُستَقبلُ في هَذهِ البِلادِ بِحَفاوةٍ وإكرامٍ، ويَتَنَقلُ في مَشاعِرِ الحَجِّ بأمنٍ وَأَمانٍ، عِبادةٌ واطمئنانٌ، وأجواءٌ مليئةٌ بالسَّعادةِ والإيمانِ، وصدقَ اللهُ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).

وأما خِدمةُ الحُجَّاجِ فَشيءٌ أغربُ من الخيالِ، استنفارٌ للجميعِ، حكومةً وشعباً وعلى رأسِهم المَلكُ، أجهزةُ الأمنُ بجميعِ قطاعاتِها، والصِّحةُ وكلُّ أقسامِها، والدوائرُ الحكوميةُ وسائرُ خَدماتِها، فأمنُ الحُجاجِ خطٌ أحمرُ، وراحتُهم غايةٌ عظمى، إرشادٌ وعِنايةٌ، إطعامٌ وسِقايةٌ، معالمُ التَّوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرُ الشِّركِ داحرةٌ، معروفٌ به يُؤمرُ، ومنكرٌ عنه يُنهى، اجتماعُ الملايينَ من بلادٍ مُختلفةٍ، وعاداتٍ مُختلفةٍ، في مكانٍ واحدٍ، وفي وقتٍ واحدٍ، وتفويجُهم بينَ المَناسكِ بانسيابيَّةٍ تامَّةٍ، وعنايةٍ هامَّةٍ، فحُقَّ لهذهِ البلدِ أن تفخرَ بشرفِ خدمةِ البيتِ، وشرفِ ضيافةِ الحاجِّ، حتى يَرجعَ إلى أهلِه غَانِماً، قد حازَ الأجرَ وأدَّى فريضةَ اللهِ تَعالى.

فَهَل يُعقَلُ أَيُّها الأحبَّةُ أَن نَفسِدَ هَذا التَرتيبَ العَظيمَ، بالحَجِّ العَشوائيِّ دُونَ تَصريحٍ أو تَنظيمٍ، ودونَ إشرافٍ من القَائمينَ عَلى الحَمَلاتِ، فَتَحدثُ الفَوضى في المواصلاتِ، ويَحدثُ الافتراشُ في الطُرُقاتِ، ويحدثُ التَّدافعُ في الجَمَراتِ، ويُضايقُ الحُجَّاجَ والأجهزةَ الحُكوميةَ، ويُخالفُ الأنظَمةَ والفَتوى الشَّرعيةَ، وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَمْ يُصِبْهُ.    

اللهمَّ يَسِّرْ لمنْ أرادَ الحجَّ والعُمرةَ، اللهم اجعل حجَهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم رُدَّهم إلى أهليهم سَالمينَ، وبلباسِ التَّقوى مُتجملينَ، ولكل خيرٍ وفضلٍ غَانمينَ، وبالمغفرةِ فائزينَ، ومن النَّارِ مَعتوقينَ، ولرضوانِكَ حَائزينَ، اللهمَّ واجعلنا معهم من المرحومينَ المقبولينَ الفائزينَ، اللهمَّ لا تحرمنا فضلَك وجودَكَ وعطاءَك وكرمَك بسوءِ ما عندنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، وارحم ضعفَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ للحكمِ بكتابِك والعملِ بسنةِ نبيِّك، ووفقْ ولاةَ أمرِنا خاصةً للخيرِ، اللهم خذْ بأيديهم لما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، واجزهم خيرَ الجزاءِ لِما يُقدمونَه للحجاجِ والمعتمرينَ والزائرينَ، ولما يبذلونَه في خِدمةِ الحرمينِ الشَّريفينِ يا ربَّ العالمينَ، واذكروا اللهَ يذكركم، واشكروه على نعمِه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تَصنعونَ.

المرفقات

1715848469_بادر إلى الحج النظامي.docx

1715848478_بادر إلى الحج النظامي.pdf

المشاهدات 1800 | التعليقات 2

السلام عليكم

نفع الله بكم يا شيخ هلال وجزاكم خيرا

تقول:"كانَ آخرُهم في عَرضِ البحرِ" فما الفرقُ أن يموتَ في عَرْضِ البحر أو طولِهِ؟

العَرضُ ضد الطول وليس هو المقصود هنا.

وإنَّما المقصودُ (عُرْضُ بضم العينِ) وهو وسطُ البحر.

قال في موقع المعاني: "عُرْضُ البَحْر والنهر: وسَطُهُ"، وتقول: ضربتُ به عُرضَ الحائطِ (وسطه).

تكرما ارجع إلى الرابط:

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B9%D8%B1%D8%B6/


وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

يا سلام عليك يا شيخ محمد وعلى ملاحظاتك الدقيقة الجميلة.

تم التعديل وجزاك الله خيراً وبارك فيكم.