باب التوبة المشرع
عبد الله بن علي الطريف
1437/04/26 - 2016/02/05 06:07AM
باب التوبة المشرع 25/4/1437 هـ
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
في يوم من الأيام جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَّةً وَلَا دَاجَّةً [أي صغيرة ولا كبيرة من الذنوب] إِلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ.؟ , قَالَ: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ, قَالَ: "نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ" قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.. رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني
الله أكبر ما أجملَ ذاك اللقاء وأنداه.. وما أوسعَ ذاك الأفق وأرحبه..
وقفةُ التوبةِ النصوحِ عما سلف من الزلل والتقصير وقفةٌ يحبُها اللهُ، ذلك أن التوبة إلى الله أولُ منازلِ السائرين، وأوسطُها وآخرُها، فلا يفارقها العبد السالك إلى الله ولا يزال فيها إلى الممات، فهي بدايةُ العبدِ ونهايتُه قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] ويتبين لنا عِظَمُ هذا الأمر إذا علمنا أن هذه الآية مدنية خاطب الله تعالى فيها أهل الإيمان، وخيار خلقه فطلب منهم أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ذلك أن التوبةَ أمرٌ حتميٌ لابد منه، ثم علَّق عليها الفلاحَ تعليق المسببِ في سببِه، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله وإياكم منهم..
أيها الأحبة: أما من لم يتب فقال الباري عنه: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11] فالناس إما تائبٌ، أو ظالمٌ، وليس ثمت قسمٌ ثالثٌ.. وإطلق اللهُ اسمَ الظالمِ على من لم يتب، لأنه لا أظلمَ منه لجهلِه بربه وبحقه سبحانه، ولعدم معرفته لعيب نفسه وآفات أعماله.
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَنْ نَفسِهِ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» رواه البخاري عَنْ أَبُي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ. وكَانَ الصحَابَةُ يُعَدُّونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ».رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ وصححه الألباني رَضيَ اللهُ عَنهُما.
أيها الإخوة: التوبةُ محبوبةٌ إلى الله تعالى محبةً عظيمة ويفرحُ بها سبحانه فرحاً عظيماً، ليس لحاجتِه إلى أعمالنا وتوبتنا فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرمِ فإنه يحب أن يعفو وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ. في الصحيح قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتوبةِ عَبدهِ المؤمن مَنْ رَجُلٍ نَزَلَ في أرضٍ دَوِّيَّةٍ مُهلِكَةٍ، معه راحلتُهُ، فَطلبها ،حتى إذا اشتدَّ عليه الحرُّ والعطشُ أو ما شاءَ اللّه.. قال أي الرَجُلُ: أرْجِعُ إلى مكاني الذي كُنْتُ فيهِ فأنامُ حتى أموتَ ،فوضعَ رأسهُ على ساعدِهِ ليمُوتَ فاستيقظَ، فإذا راحلتُهُ عندهُ، عليها زادُهُ وشَرابُهُ، فاللّهُ أَشدُّ فَرحا بتوبةِ العبد المؤمنِ من هذا بِراحلتهِ وزادِهِ. رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي رواية لمسلم عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله: فأتى الشجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك، إذ هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخطامها ثم قال: من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك.!! أخطأ من شدة الفرح...
أيها الإخوة: هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال.!! لأنه فرح عظيم.. فرح بالحياة بعد الموت.. فرحٌ بالنجاة بعد الهلكة.. وهل فرحٌ يمرُ على الإنسان أعظمُ من الفرح بالحياةِ بعد أن عاين سبب الموت المحتم أمامه شاخصا خليا.. وليس موتا سريعا يجهز عليه ويصعقه فلا يفكر بهوله.. إنه موتٌ بطيٌ شديد الوطأة.. وذلك أن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب ليست مفاجئة وإنما تزيد شيئا فشيئا، ثم إن هذا المحتاج ليس بين أهله ومحبيه ليصبروه ويواسوه.. إنه في أرض مُهْلِكَةٍ دوية لا أنيس فيها ولا أحد.. ولذلك كان فرحه بالرحلة فرحاً لا يعدله فرح، فقد أخذ بخطام الناقة وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أراد أن يثني على الله فيقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك ولكن من شدة فرحة أخطأ فقلب العبارة.. فهل نتأمل هذه الصورة العجيبة.! ثم نسعى ل محبوب ربنا وسببِ فرحه.. أسأل الله لنا جميعا ذلك..
أيها الأحبة: لننظر إلى مردود التوبة على أنفسنا فلقد جازى الله تعالى عبده التائب توبة نصوحا بالفرحة والسرور واللذة، فالجزاء من جنس العمل، فلما تاب العبد إلى الله ففرح الله بتوبته، أعقب الله التائب فرحا عظيماً..
وهذا الفرح أيها الإخوة من الله بتوبة عبده لم يأت نظيرٌ له في غير التوبة من الطاعات، وهذا دليلٌ على عظمِ قدرِ التوبةِ وفضلِها عند الله، وأن التعبدَ لله بها من أشرف التـعبدات.
يقول ابن القيم رحمه الله: وهنا دقيقةٌ قل أن يتفطنَ لها إلا فقيهٌ في هذا الشأن، وهي أن كلَ تائبٍ لا بد له في أولِ توبتِه من عصرةٍ وضغطةٍ في قلبه، من همٍ أو غمٍ أو ضيقٍ أو حُزْنٍ، ولو لم يكن إلا تألُمَه بفراق محبوبه، فينضغط ُلذلك وينعصرُ قلبه ويضيقُ صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسُوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة، والعارفُ الموفقُ يعلمُ أن الفرحةَ والسرورَ واللذة الحاصلةَ عقيبَ التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشدَ كانت الفرحةُ واللذةُ أكملَ وأتمَ.
ولذلك أسباب عديدة منها أن هذه العصرة والقبض دليلٌ على حياةِ قلبِه، وقوةِ استعداده، ولو كان قلبُه ميتاً واستعدادُه ضعيفاً لم يحصل له ذلك.
وأيضا فإن الشيطانَ لصُ الإيمانِ واللصُ إنما يقصدُ المكانَ المعمورَ، وأما المكانَ الخرابَ الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصدُه، فإذا قويت المُعارضاتُ الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرصُ الشيطان على نزعه منه.
وأيضا كلما عَظُمَ المطلوب كثرت العوارضُ والموانع دونه، هذه سنة الله في خلقه، فانظر إلى الجنة عِظمَها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجلٌ واحدٌ إليها.
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن هذا الأمرَ الحاصلَ بالتوبة لما كان من أَجَلِ الأمور وأعظمِها نُصبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميز من يصلح ومن لا يصلح قال الله تعلى: (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3] وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه... بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
أيها الإخوة: لا تكتمل التوبة إلا بالعزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به. وحقيقتها الرجوع إلى الله بالتزام ما يحب وترك ما يكره فهي: رجوع عن مكروه إلى محبوب.
أحبتي: قذيفة شيطانية يقذفها الشيطان الرجيم في قلب العاصي المسرف ليضمن سيره في سبيل الغاوين يقول له: أنت تريد أن تتوب وذنوبك كثيرة جدا أمثال الجبال، ولم تترك نوعاً من أنواع الذنوب والفواحش إلا فعلته إن هذا لشيء عجاب أن تتوب، فيحجم المسكين ولا يلج في باب التوبة.. نقول لهذا اسمع لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:53-59]
وما خبر الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ومع ذلك قبل الله توبته بعد أن أكمل المائة بمن لم يرى قبول توبته..! وقصة إسلام عمرو بن العاص: وفيها «..لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ؛ فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ عمرو فَقَبَضْتُ يَدِي,! فقَالَ رسول الله مَا لَكَ يَا عَمْرُو قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ قَالَ تَشْتَرِطُ بِمَاذَا قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِي قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ..». رواه مسلم .
أيها الإخوة: لقد فتح لنا ربنا سبحانه بابَ التوبة فهلاَّ ولجنا... قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا البَابَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ». رواه الترمذي وصححه الألباني، وعند الطبراني: وقال: «إِنَّ لِلتَّوْبَةِ بَابًا، عَرْضُ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» حسنه الألباني
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.» بالموت. رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه الألباني. فلنبادر أيها الإخوة جميعا المتحدث والسامع بتوبة نصوحاً لنحقق محبوب ربنا ونسعد في دنيا وآخرنا، وعلينا أن نحدث لكل ذنب توبة، وإن عدنا إليه مهما كررنا الذنب.. اللهم تب علينا يارحيم
ايها الإخوة: ما حدث من تفجير في الأحساء الجمعة الما ضية راح ضحيته مواطنون ورجال أمن عمل إجرامي نستنكره وندينه ونسأل الله لمن راح ضحيته المغفرة والرضون وأن يحفظ أمننا ومن أرد تفريق شملنا أن يجعل كيده في نحره..
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
في يوم من الأيام جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَّةً وَلَا دَاجَّةً [أي صغيرة ولا كبيرة من الذنوب] إِلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ.؟ , قَالَ: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ, قَالَ: "نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ" قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.. رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني
الله أكبر ما أجملَ ذاك اللقاء وأنداه.. وما أوسعَ ذاك الأفق وأرحبه..
وقفةُ التوبةِ النصوحِ عما سلف من الزلل والتقصير وقفةٌ يحبُها اللهُ، ذلك أن التوبة إلى الله أولُ منازلِ السائرين، وأوسطُها وآخرُها، فلا يفارقها العبد السالك إلى الله ولا يزال فيها إلى الممات، فهي بدايةُ العبدِ ونهايتُه قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] ويتبين لنا عِظَمُ هذا الأمر إذا علمنا أن هذه الآية مدنية خاطب الله تعالى فيها أهل الإيمان، وخيار خلقه فطلب منهم أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ذلك أن التوبةَ أمرٌ حتميٌ لابد منه، ثم علَّق عليها الفلاحَ تعليق المسببِ في سببِه، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله وإياكم منهم..
أيها الأحبة: أما من لم يتب فقال الباري عنه: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11] فالناس إما تائبٌ، أو ظالمٌ، وليس ثمت قسمٌ ثالثٌ.. وإطلق اللهُ اسمَ الظالمِ على من لم يتب، لأنه لا أظلمَ منه لجهلِه بربه وبحقه سبحانه، ولعدم معرفته لعيب نفسه وآفات أعماله.
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَنْ نَفسِهِ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» رواه البخاري عَنْ أَبُي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ. وكَانَ الصحَابَةُ يُعَدُّونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ».رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ وصححه الألباني رَضيَ اللهُ عَنهُما.
أيها الإخوة: التوبةُ محبوبةٌ إلى الله تعالى محبةً عظيمة ويفرحُ بها سبحانه فرحاً عظيماً، ليس لحاجتِه إلى أعمالنا وتوبتنا فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرمِ فإنه يحب أن يعفو وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ. في الصحيح قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتوبةِ عَبدهِ المؤمن مَنْ رَجُلٍ نَزَلَ في أرضٍ دَوِّيَّةٍ مُهلِكَةٍ، معه راحلتُهُ، فَطلبها ،حتى إذا اشتدَّ عليه الحرُّ والعطشُ أو ما شاءَ اللّه.. قال أي الرَجُلُ: أرْجِعُ إلى مكاني الذي كُنْتُ فيهِ فأنامُ حتى أموتَ ،فوضعَ رأسهُ على ساعدِهِ ليمُوتَ فاستيقظَ، فإذا راحلتُهُ عندهُ، عليها زادُهُ وشَرابُهُ، فاللّهُ أَشدُّ فَرحا بتوبةِ العبد المؤمنِ من هذا بِراحلتهِ وزادِهِ. رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي رواية لمسلم عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله: فأتى الشجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك، إذ هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخطامها ثم قال: من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك.!! أخطأ من شدة الفرح...
أيها الإخوة: هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال.!! لأنه فرح عظيم.. فرح بالحياة بعد الموت.. فرحٌ بالنجاة بعد الهلكة.. وهل فرحٌ يمرُ على الإنسان أعظمُ من الفرح بالحياةِ بعد أن عاين سبب الموت المحتم أمامه شاخصا خليا.. وليس موتا سريعا يجهز عليه ويصعقه فلا يفكر بهوله.. إنه موتٌ بطيٌ شديد الوطأة.. وذلك أن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب ليست مفاجئة وإنما تزيد شيئا فشيئا، ثم إن هذا المحتاج ليس بين أهله ومحبيه ليصبروه ويواسوه.. إنه في أرض مُهْلِكَةٍ دوية لا أنيس فيها ولا أحد.. ولذلك كان فرحه بالرحلة فرحاً لا يعدله فرح، فقد أخذ بخطام الناقة وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أراد أن يثني على الله فيقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك ولكن من شدة فرحة أخطأ فقلب العبارة.. فهل نتأمل هذه الصورة العجيبة.! ثم نسعى ل محبوب ربنا وسببِ فرحه.. أسأل الله لنا جميعا ذلك..
أيها الأحبة: لننظر إلى مردود التوبة على أنفسنا فلقد جازى الله تعالى عبده التائب توبة نصوحا بالفرحة والسرور واللذة، فالجزاء من جنس العمل، فلما تاب العبد إلى الله ففرح الله بتوبته، أعقب الله التائب فرحا عظيماً..
وهذا الفرح أيها الإخوة من الله بتوبة عبده لم يأت نظيرٌ له في غير التوبة من الطاعات، وهذا دليلٌ على عظمِ قدرِ التوبةِ وفضلِها عند الله، وأن التعبدَ لله بها من أشرف التـعبدات.
يقول ابن القيم رحمه الله: وهنا دقيقةٌ قل أن يتفطنَ لها إلا فقيهٌ في هذا الشأن، وهي أن كلَ تائبٍ لا بد له في أولِ توبتِه من عصرةٍ وضغطةٍ في قلبه، من همٍ أو غمٍ أو ضيقٍ أو حُزْنٍ، ولو لم يكن إلا تألُمَه بفراق محبوبه، فينضغط ُلذلك وينعصرُ قلبه ويضيقُ صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسُوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة، والعارفُ الموفقُ يعلمُ أن الفرحةَ والسرورَ واللذة الحاصلةَ عقيبَ التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشدَ كانت الفرحةُ واللذةُ أكملَ وأتمَ.
ولذلك أسباب عديدة منها أن هذه العصرة والقبض دليلٌ على حياةِ قلبِه، وقوةِ استعداده، ولو كان قلبُه ميتاً واستعدادُه ضعيفاً لم يحصل له ذلك.
وأيضا فإن الشيطانَ لصُ الإيمانِ واللصُ إنما يقصدُ المكانَ المعمورَ، وأما المكانَ الخرابَ الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصدُه، فإذا قويت المُعارضاتُ الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرصُ الشيطان على نزعه منه.
وأيضا كلما عَظُمَ المطلوب كثرت العوارضُ والموانع دونه، هذه سنة الله في خلقه، فانظر إلى الجنة عِظمَها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجلٌ واحدٌ إليها.
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن هذا الأمرَ الحاصلَ بالتوبة لما كان من أَجَلِ الأمور وأعظمِها نُصبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميز من يصلح ومن لا يصلح قال الله تعلى: (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3] وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه... بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
أيها الإخوة: لا تكتمل التوبة إلا بالعزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به. وحقيقتها الرجوع إلى الله بالتزام ما يحب وترك ما يكره فهي: رجوع عن مكروه إلى محبوب.
أحبتي: قذيفة شيطانية يقذفها الشيطان الرجيم في قلب العاصي المسرف ليضمن سيره في سبيل الغاوين يقول له: أنت تريد أن تتوب وذنوبك كثيرة جدا أمثال الجبال، ولم تترك نوعاً من أنواع الذنوب والفواحش إلا فعلته إن هذا لشيء عجاب أن تتوب، فيحجم المسكين ولا يلج في باب التوبة.. نقول لهذا اسمع لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:53-59]
وما خبر الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ومع ذلك قبل الله توبته بعد أن أكمل المائة بمن لم يرى قبول توبته..! وقصة إسلام عمرو بن العاص: وفيها «..لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ؛ فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ عمرو فَقَبَضْتُ يَدِي,! فقَالَ رسول الله مَا لَكَ يَا عَمْرُو قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ قَالَ تَشْتَرِطُ بِمَاذَا قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِي قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ..». رواه مسلم .
أيها الإخوة: لقد فتح لنا ربنا سبحانه بابَ التوبة فهلاَّ ولجنا... قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا البَابَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ». رواه الترمذي وصححه الألباني، وعند الطبراني: وقال: «إِنَّ لِلتَّوْبَةِ بَابًا، عَرْضُ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» حسنه الألباني
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.» بالموت. رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه الألباني. فلنبادر أيها الإخوة جميعا المتحدث والسامع بتوبة نصوحاً لنحقق محبوب ربنا ونسعد في دنيا وآخرنا، وعلينا أن نحدث لكل ذنب توبة، وإن عدنا إليه مهما كررنا الذنب.. اللهم تب علينا يارحيم
ايها الإخوة: ما حدث من تفجير في الأحساء الجمعة الما ضية راح ضحيته مواطنون ورجال أمن عمل إجرامي نستنكره وندينه ونسأل الله لمن راح ضحيته المغفرة والرضون وأن يحفظ أمننا ومن أرد تفريق شملنا أن يجعل كيده في نحره..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق