[بَائِعو الْأوهام, وناشِروا الأَسْقام] (2) - مع ذكر علاج الوسواس ونحوه 13/1/1438

أحمد بن ناصر الطيار
1438/01/12 - 2016/10/13 21:07PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الحديث في الجمعة الماضية كان عن بائعي الأوهام, وهم الرقاة الجلهة, الذين يبيعون الأوهام للناس, ويأخذون على ذلك أمولاً كثيرة.
ولِأَهمية الموضوع وحاجة الناس له, أستكمل بعض الأجزاء المتعلقة به.
ولباعةِ الأوهام, وصُناعِ الأسقامِ علاماتٌ يُعرفون بها, متى وُجدت في أحدهم ففرَّ منهم فرارك من السبع.
العلامة الأولى: تصويرهم وهم يرقون, فما هو الهدف من ذلك إلا حب الشهرة, أو لترويج نفسِه واسْتقطاب الناس للرقية عنده, وقد تكون له نيّةٌ أخرى فالله أعلم بحالهم ومقصدهم.
العلامة الثانيةُ: الجزم بأن المريض مُصاب بالعين أو المس أو السحر, حتى لا يكاد يأتيَهم أحدٌ إلا رموه بإحدى هذه الأمور.
العلامة الثالثةُ: كشف عورات النساء ولمسهن بلا حائل, وقد وقع كثير منهم في هذا, بزعم أنهم حينما يكشفون عن عضد المرأة أو ساعدها: يظهر لهم أنها مُصابةٌ بالعين أو المس أو السحر, وهذا من الدجل المضاف إلى دجلهم.
وقد نقل الثقات أنه فعلوا بنسائهم ذلك, وكشفوا عوراتهن, وباعوا الوهم لهن, وأدخلوا مرض الوسواس والشك في قلوبهن.

إخوة الإيمان: ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يُضَيِّفُوهم, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تُضَيِّفُونَا ، وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ.
فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً؟ أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ قَالَ: لاَ، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ.
وعند البخاري : فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».
وهذا الحديث فيه فوائد كثيرة منها:
الفائدة الأولى: أنّ هذا الصحابيَّ رقى المريض ولم يكنْ معروفًا بالرقية, بل كان لا يُعرف بالرقية ولا يُحسنها, ومع ذلك رقى المريض وشُفي.
فهذا يدل على أن الرقية ليس لها رجالٌ مُتخصصون, بل كل مسلم ينبغي له أنْ يرقيَ نفسه وغيرَه.
الفائدة الثانية: أن هذا الرجل قد شفى سيّد القوم, وشفاه من مرضٍ خطيرٍ غيرِ وهميّ, ومع ذلك لم يجعل لنفسه دعايةً عند الناس, ولم يُعرف أنه قصده الناسُ لطلب البركة برقيته.
ولم يجعل من هذه الحادثة فرصةً للشهرة, بل كان هو وغيرُه من الصحابة والصالحين يبتعدون عن الشهرة, وإذا حصلت كرامة أو أمرٌ خارق للعادة كتموه وكرهوا إشاعته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لَمَّا كَانَتْ الْخَوَارِقُ كَثِيرًا مَا تَنْقُصُ بِهَا دَرَجَةُ الرَّجُلِ, كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ يَتُوبُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِنْ الذُّنُوبِ, كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ, وَتَعْرِضُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَسْأَلُ اللَّهَ زَوَالَهَا, وَكُلُّهُمْ يَأْمُرُ الْمُرِيدَ السَّالِكَ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا, وَلَا يَجْعَلَهَا هِمَّتَهُ, وَلَا يَتَبَجَّحَ بِهَا؛ مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ. ا.ه
فما بال بعض الناس يبحث عن الكرامات, بل وينسب لنفسه ما لا يُعد كرامةً وأمرًا خارقًا للعادة, ويتبجح به وينشره بين الناس؟
بل ويُصور نفسه وهو يُخرج الجان, والله أعلم بصدقه وحقيقة عمله.
بل هناك من الناس من رقى على أحد الكبراء فشُفي هو أو أحدٌ من أقاربه, فطار فرحًا بذلك, ونشر القصة بين الناس, وربما طلب منه أن يذكر حاله لغيره حتى يشتهر ويقصده الناس.
ووالله لو كان صادقًا ما طلب الشهرة.
وهل شفاء أحد على أيدهم دليل على صلاحهم واسْتقامة حالهم؟
لا, فقد يُجري الله الشفاء على أيدي مبتدعة وضُلال, إما ببركة القرآن الذي قرؤوه, أو لأسباب أخرى, فلا ينبغي للإنسان أنْ يفخر بذلك ويُعجب بنفسِه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ, وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَتَكُونُ مِنْ الشَّيَاطِينِ, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ, بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ, وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ, وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ. ا.ه
الفائدة الثالثة: أنّ الرقية سببٌ في علاج الأمراض الحسية والمعنوية, فهذا الرجل رقى رجلاً لدغته الثعبان, وكاد يموت مِن السمِّ لولا رحمةُ الله تعالى, ثم رقيةُ هذا الصحابيِّ له.
فالرقى ليست قاصرةً على أمراضِ العين والسحر والمسّ, بل ينبغي أنْ يرقيَ الإنسانُ نفسَه من جميع أمراضه, حتى يرقي نفسه من الهم والغم وضيق الصدر, ويرقى نفسه من الأوجاع والأسقام.
فالقرآن شفاءٌ وبركة لا يخيب من تداوى به, ولا يخسر من رقى به.
الفائدة الرابعة: أنّ الفاتحة رقيةٌ شرعية نافعة, حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..


الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أمة الإسلام: هناك قواعدُ علاجيةٌ نافعة بإذن الله تعالى, لِكُلِّ مَن ابْتُلي بمرضٍ نفسيٍّ أو عضوي:
القاعدة الأولى: أنْ تعلق قبلك بالله, وأنه هو الشافي وحده, لا تُعلق قلبك بأحد من الناس مهما كان, ومهما بلغت خبرته وسمعتُه.
القاعدة الثانية: أن تقرأ على نفسك, فلا أحدَ أنصح لك من نفسِك, ولا أحدَ أحرص على شفائك من نفسِك.
ونحن لسنا كالنصارى والرافضة وأهل الأديان الأخرى, الذين لا يتقربون إلى الله إلا بواسطة رجال, فليس بيننا وبين الله وشفائه وكرمه حاجز.
والعجب كل العجب, من مسلم يقرأ القرآن, ويُؤمن بالواحد الديان, ثم لا قرأ على نفسه ولا على أولاده وأهلِه, بل يقطع المسافات للوصول إلى رجال مثله, يدفع لهم الأموال الكثيرة ليقرؤوا عليه أو أحد من أقاربه!
سبحان الله, من أين جاءت هذه الخرافاتُ والخزعبلات, ونحن في بلاد التوحيد؟
ألسنا نقرأ قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
فقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ شِفَاءٌ, ولم يقل: لا شفاء بالقرآن إلا إذا قرأ به أناسٌ مُخصصون.
القاعدة الثالثة: املأ فراغك بما ينفعك, واترك الانطواء والاختفاء والرهبة من الاجتماعات, جاهد نفسك على الاختلاط بالآخرين, ولا تسمح لنفسك أنْ يطرقها الوسواس والتفكير بالماضي.
القاعدة الرابعة: أن تثق بأنّ ما أصابك إنما هو مجرد خوف تنامى عندك, ووسواس تمكن منك, وعلاجه فاطرح الخوف والوسوسة, وأقنع نفسك بأن سليم مُعافى, فأول العلاج الفأل وحسن الظن.
فكن مُتفائلاً, وظنَّ بالهم ما هو أهلُه, والهو تعالى أهلُ الكرم والعطاء وتعجيلِ الشفاء.
اهجرِ الشعورَ بأنك مريضٌ أو معيونٌ أو مسحور.
فلن تُشفى أبدًا مهما سلكتَ طرق العلاج, ما دام أنك لا زلت مقتنعًا بأنك مُصاب بمس أو عين, وهناك من خسر عشرات الآلاف, لعلاج مسٍّ زعم أنه أصابه منذ سنوات عدة, وسافر للكثير من المدن والدول, وقرأ عليه العديد من الرقاة ونحوهم, وحفظ القرآن, ولا يتركه يوما واحدا, ولا يدع الأوراد أبدا, ومع ذلك لم يعثر على العلاج.
والسبب في ذلك: أنه لم يقتنع بأن سليم مُعافى, بل هو على يقين أنه مُصاب بالسحر والمس, فكيف سيُشفى؟

نسأل الله تعالى أن يشفي كل مبتلى, وأن يُبعد عنهم الوسواس واليأس والقنوط, إنه سميع قريب مجيب.
المشاهدات 1272 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا