اهدني لِمَا اختُلِفَ فيه من الحقِّ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/06/15 - 2021/01/28 10:15AM

الحمدُ للهِ يهدي للحقِ وإلى صراطٍ مستقيمٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له؛ الربُّ العظيمُ والإله الكريمُ، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه جاءَ بالحنيفيةِ السمحةِ لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ سقيمٌ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ إحياءِ الرميمِ ... أما بعد:

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالمتقون هم أقربُ الناسِ للحقِّ واتباعِه، وهم أجدرُ بالتفريقِ بين الحقِ والباطلِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

معاشر المؤمنين:

الهدايةُ إلى الحقِّ، وسلوكُ طريقِه؛ نعمةٌ من الله عظمى، ومنَّةٌ من الله كبرى، إذْ ليس كلُّ من رأى الحقَّ اهتدى إليه، وليس كلُّ من ظنَّ أنَّه على الحقِّ؛ صارَ فعلاً على الحق، وليس كلُّ من ادَّعى أنّه على الحقِّ صَدَقَ، وليس كلُّ من رأى الحقَّ اتَّبَعَه وعَمِلَ به، فالحقُّ عزيزٌ، لا يهدي إليه إلا الله وحده لا شريك له، كما قالَ جلَّ شأنُه (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)

ومِنْ هذا المنطلق فالعبرةُ بالحقِّ الذي يهدي إليه اللهُ، لا بما تهواهُ الأنفسُ، وتدَّعيه العقولُ، وتزيِّنُه الأهواء، وتوجِّهُهُ المصالحُ، وتقرِّرُه الأحوالُ والمراحلُ.

عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى:( كانَ الناسُ أمَّةً واحدةً فبعثَ اللهُ النبييّنَ مبشرينَ ومنذرينَ وأنزلَ معهمُ الكتابَ بالحقِّ ليحكمَ بينَ الناسِ فيما اختلفوا فيه وما اختلفَ فيه إلا الذين أوتوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءتهمُ البيناتُ بغياً بينهم فهدى اللهُ الذينَ آمنوا لما اختلفوا فيه مِنَ الحقِّ بإذنه واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ)

قال ابنُ وهْبٍ: عن عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بن أسْلَمَ عن أبيه في معنى قوله تعالى (فهدى اللهُ الذينَ آمنوا لما اختلفوا فيه مِنَ الحقِّ بإذنه) فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى اللهُ أمَّةَ محمد ليومِ الجمعةِ، واختلفوا في القبلةِ، فاستقبلتِ النصارى المشرقَ، واليهودُ بيتَ المقدسِ، فهدى الله أمَّةَ محمدٍ للقبلةِ، واختلفوا في الصلاةِ، فمنهمْ مَنْ يركعُ ولا يسجدُ، ومنهم مَنْ يسجدُ ولا يركعُ، ومنهم مَنْ يصلي وهو يتكلمُ، ومنهم مَنْ يصلي وهو يمشي، فهدى اللهُ أمَّةَ محمدٍ للحقِّ مِنْ ذلك، واختلفوا في الصيامِ، فمنهم مَنْ يصومُ بعضَ النهارِ، ومنهم مَنْ يصومُ عن بعضِ الطعامِ، فهدى اللهُ أمَّةَ محمدٍ للحقِّ مِنْ ذلك، واختلفوا في إبراهيمَ ـــ عليه السلام ـــ فقالتِ اليهودُ: كان يهوديا، وقالتِ النصارى: كان نصرانيا، وجعلَه اللهُ حنيفاً مسلماً، فهدى اللهُ أمَّةَ محمدٍ للحقِّ مِنْ ذلك، واختلفوا في عيسى ـــ عليه السلام ـــ فكذَّبَتْ به اليهودُ، وقالوا لأمِّه بهتاناً عظيماً، وجعلتْهُ النصارى إلهاً وولداً، وجعلَهُ اللهُ رُوْحَهُ، وكلِمَتَه، فهدى اللهُ أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم للحقِّ من ذلك) انتهى كلامه رحمه الله.

فكلُّ ما ترون من هذه العباداتِ الحقَّةِ؛ هي من الحقِّ الذي هدانا اللهُ إليه، على يدِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، لا بعقولِنا، ولا بفهومِنا، ولا بحولِنا، ولا بقوَّتِنا.

ويقاس على ذلك؛ كلُّ حقٍّ هدانا اللهُ إليه في مسائلِ الدينِ، وفروعِ الشريعةِ، ومسائلِ الخلافِ التي ضلَّ فيها مَنْ ضلَّ، وانحرفَ فيها مَنْ انحرفَ، وهلكَ فيها مَنْ هلكَ، يوم أنْ اتُخِذَ الخلافُ سبيلاً للهروبِ من الحقِّ ووسيلةً للتخلي عن التكاليف.

معاشر المؤمنين: مِنْ أعظم ما يَحرِفُ عن الحقِّ ويَصُدُّ عنه؛ اتباعُ الهوى، و هو :كلُّ ما خالفَ الحقَّ، وللنِّفسِ فيه حظٌّ ورغبةٌ؛ من الأقوالِ والأفعالِ والمقاصدِ، وهذا أصلُ الضلالِ والانحرافِ، قال تعالى: (إنْ يتَّبِعونَ إلا الظَّنَّ وما تهوى الأنفسُ ولقدْ جاءَهمْ من ربِّهمُ الهدى) وقال جلَّ شأنه: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) وفي الحديثِ عنْ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(وأمَّا المهلكات: فشحٌّ مطاعٌ، وهوىً متَّبعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسِه) رواه البزّارُ وأبو نُعيمٍ وحسّنه الألباني.

وعن أبي بَرْزَةَ الأسلميِّ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:(إنما أخشى عليكم شهواتِ الغَيِّ في بطونكم وفروجِكم، ومُضِلَّاتِ الهوى) صححه الألباني، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه (إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم؛ اتباعُ الهوى وطولُ الأملِ، أما اتباعُ الهوى فيَصُدُّ عنْ الحقِّ، وأما طولُ الأملِ فينسي الآخرة)
بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنة، ونفعنا بما صرّف فيهما من العبر والحكمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية: 

الحمدُ لله على ما أولى، والشكرُ له على ما أعطى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الربُّ المولى، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ النفخة الأولى.. أما بعد:

فيا عبادَ الله: اتقوا الله (قل ياعبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب) 

معاشر المؤمنين:  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:(خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال : هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال : هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ) رواه رواه الإمام أحمدُ والنسائيُ وصححه ابنُ بازٍ وغيرُه.

فقد حِرصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على تَوْضيحِ الحَقِّ لأُمَّتِه، وبيَّنَ أنَّ اتِّباعَ صِراطِ اللهِ المُسْتقيمِ؛ يكونُ باتِّباعِ صَحيحِ الدِّينِ.

ومِن عظيمِ حرصِه صلى الله عليه وسلم؛ على الهدايةِ للحقِّ والعمَلِ به؛ أنَّه كان يستفتحُ صلاةَ الليلِ بدعاءٍ عظيمِ المعاني، عميقِ المقاصدِ، دقيقِ الدَّلالةِ، يدعو فيه ربَه أنْ يهديَه إلى الحقِّ والصوابِ في هذا الاختلافِ الذي اختلفَ الناسُ فيه مِنْ أمورِ الدِّيْنِ والدنيا، فعن أبي  سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، قالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ، بأَيِّ شيءٍ كانَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قالَتْ: (كانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) رواه مسلم

ومِنْ الأدعيةِ المأثورةِ عَنْ السَّلَفِ:(اللَّهُمَّ أَرِنِي الْحَقَّ حَقًّا، وَوَفِّقْنِي لِاتِّبَاعِهِ، وَأَرِنِي الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَوَفِّقْنِي لِاجْتِنَابِهِ، وَلَا تَجْعَلْهُ مُشْتَبِهًا عَلَيَّ، فَأَتَّبِعَ الْهَوَى) قالَ ابنُ شاهينٍ عندَ هذا الدعاءِ:  "فَأَبَانَ لَنَا أَنَّ أَهْلَ النَّجَاةِ هُمُ الْعَالِمُونَ بِالصَّلَاحِ مِنَ الْفَسَادِ عِنْدَ اخْتِلَافِ النَّاسِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، وَقَعَ فِي الْبَاطِلِ، وَمَنْ عَرَفَ الْبَاطِلَ اجْتَنَبَهُ"

وبعدُ عبادَ الله: لا يكفي العبدَ أن يعْرِفَ الحقَّ؛ بل لا بدَّ من اتباعِه والعمَلِ به بعدَ معرفتِه، واتباعُ الحقِّ لا يتمُّ إلا بعونِ اللهِ وتوجيهِه، ثمَّ بقَهْرِ نفوسِنَا بشرورِها وغيِّها إلى السيرِ في طريقِ الحقِ.

وكم مِنْ عارف للحقِّ مبْصرٍ له؛ لكنَّه لم يُوفَّقْ لاتبَاعِه، ولكم في أبي طالبٍ عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ عبرةٌ ومثالٌ؛ حيثُ يقول:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ * مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلاَ المَلامَةُ أَو حَذَارِ مَسَبَّةٍ * لَوَجَدْتَني سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا

فقد عَرَفَ الحقَّ وأبصرَه، ولكنه لم يتَّبِعْه ولم يعْمَل به.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَأَلْهِمْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَأَلْهِمْنَا اجْتِنَابَهُ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلِ الحقَّ مُلْتَبِسَاً علينا فنَضِلْ.

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)



 

 

 

 

المشاهدات 1542 | التعليقات 0