اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

هلال الهاجري
1435/08/13 - 2014/06/11 04:29AM
الْحَمْدُ لله الْقَوِيِّ الْقَهَّارِ العَزِيزِ الْجَبَّارِ، مَنْ خَضَعَ لَهُ أَعَزَّهُ، وَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ أَنْجَاهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَرْضَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَازَاهُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اسْتَعانَ باللهِ تَعالى فَهَداهُ، وتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فَكَفَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ .. أما بعدُ:
فاسْألوا اللهَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ .. (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلُّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ).
دعاءٌ عظيمُ الشأنِ .. هو أولُ دُعاءٍ في القرآنِ .. وبدونِه لا تَصِحُ صلاةُ إنسانٍ .. جَمَعَ البِدايةَ والنِّهايةَ وما بينَهما من الصَّبرِ والإيمانِ .. فطَرفُه في الدُّنيا وطَرفُه الآخرُ عندَ أبوابَ الجِنانِ .. إنه دُعاءُك لربِّك في كلِّ صلاةٍ: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) .. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ: دُعَاءَالْفَاتِحَةِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فالإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى فِي كُلِّ لَحْظَةٍ : وَهُوَ إلَى الْهُدَىأَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) .. فدَعونا نُحلِّقُ في حديثٍ عن الهدايَةِ .. وكُلنا يُرجَاها .. فقد ينكشفُ لنا سبباً للهدايةِ فنَسعدُ بها سعادةً لا شقاءَ بعدَه.
عبادَ اللهِ ..
لا بُدَّ أن نعلمَ أولاً علمَ اليقينِ .. أن الهِدايةَ لا تكونُ إلا منْ عندِ اللهِ سبحانَه وتعالى وحدَه .. ولذلكَ خاطبَ نبيَّه صلى اللهُ عليه وسلمَ بقولِه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .. وأنَه لو شاءَ لهدى النَّاسَ جميعاً .. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) .. ولكنَّه تعالى جعلَ أسباباً ووسائلَ لتحصيلِ الهدايةِ.
أولُ هذه الأسبابِ هو أن تعلمَ أن الهدايةَ بيدِ اللهِ تعالى وأنك مُحتاجٌ لها كأشدِّ من حاجةِ العطشانِ إلى الماءِ الباردِ .. ففي الحديثِ القُدسي أن اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ) .. فمنْ مِنَّا طلبَ الهدايةَ من اللهِ سُبحانَه صادقاً من قلبِه ثُمَّ لم يُعطاها؟ .. وقد وعدَ بالهدايةِ (أَهْدِكُمْ) .. ووعدَ بالإجابةِ (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .. وهاهو نبيُّ الرحمةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمُ صِهرَه وابنَ عمِّه عليَّاً رضيَ اللهُ عنه دعاءً عظيماً، فيقولُ له: (قُلْ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ) .. كلمتينِ خَفيفتينِ .. فيهما خيرُ الدُّنيا والآخرةِ .. ولذلكَ منَّ اللهُ تعالى على عبادِه المؤمنينَ بأعظمِ نعمةٍ حينَ قالَ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
ثُمَّ عليك بسلوكِ طريقِ الهُدى وذلك بالإيمانِ باللهِ تعالى والاعتصامِ به .. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .. الإيمانُ باللهِ والتسليمُ له ومعرفةُ أنه هو الخالقُ الرَّازقُ المُدَبِّرُ لا رادَّ لحكمِه ولا مُعقِّبَ لأمرِه هو وسيلةٌ لاستجلابِ هُدى اللهِ تعالى .. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) .. والاعتصامُ باللهِ عزَّ وجلَّ والتوجَّهُ إليه في أمورِك كلِّها هو بوابةٌ من أبوابِ الهدايةِ .. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. وهاهم أصحابُ الكهفِ أنجاهم اللهُ من أعداءِهم وآواهم إلى الغارِ ونشرَ لهم من رحمتِه وجعلَ لهم من أمرِهم مِرفقاً (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) .. كلُّ ذلك بسببِ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) .. فبعدَ الدُّعاءِ بالهدايةِ من الكريمِ .. عليكَ بالإيمانِ والاعتصامِ بحبلِ اللهِ المستقيمِ.
وبرهانُ الإيمانِ والاعتصامِ هو العملُ الصالحُ الذي يظهرُ على الجوارحِ .. (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) .. فلأجلِ أن تكونَ من المُهتدينَ كُنْ من عٌمَّارِ مساجدِ اللهِ وأقمْ الصَّلاةَ وآتِ الزَّكاةَ واخشَ اللهَ وحدَه .. إذاً .. فلتكنْ الخُطوةُ الأولى منكَ .. تقرَّبْ إلى اللهِ تعالى بالطاعاتِ .. يتقرَّبْ إليك بفتحِ أبوابِ الهِداياتِ .. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) .. ويزيدُك من واسعِ فضلِه .. (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) .. وقد قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ).
ومن أعظمِ وسائلِ الهدايةِ .. هو تلاوةُ كتابِ اللهِ تعالى وتدبُّرُ ما فيه من العلمِ والإيمانِ .. فمن أولِ وهْلَةٍ سمعَ فيه الجِنُّ القرآنَ علمِوا أنه قائداً إلى الخيرِ والهُدى .. فرجعوا إلى قومِهم مُنذرينَ .. (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) .. وهكذا أهلُ العلمِ رأوا في كتابِ اللهِ الحقَّ والهدايةَ .. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) .. فعليكم بكتابِ اللهِ تلاوةً وتدبُّراً وتفسيراً وحِفظاً ومُدارسةً وتعليماً .. فهو الكِتابُ الَّذي (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. كانَ الفُضيلُ بنُ عِياضٍ لِصَّاً يَقطعُ الطَّريقَ، وكانَ يَعشقُ جَاريةً، فبَينا هو يرتقي الجِدرانَ إليها، إذ سَمعَ تالياً يَتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْفَاسِقُونَ)، فلما سَمِعَها قَالَ: بلى يا ربِّ .. قَدْ آنَ .. فَرجعَ فآواهُ اللَّيلُ إلى خَربةٍ، فإذا فيها قَافلةٌ من المسلمينَ، فقالَ بعضُهم: نَرحلُ .. وقالَ بعضُهم: حتى نُصبحَ، فإن فُضيلاً على الطَّريقِ يَقطعُ عَلينا .. قَالَ: ففكرتُ، وقُلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ من المسلمينَ ها هنا يَخافوني؟، وما أرى اللهَ ساقني إليهم إلا لأرتدعَ، اللهم إني قد تُبتُ إليكَ، وجعلتُ توبتي مُجاورةَ البيتِ الحرامِ.
والهِدايةُ للصراطِ المُستقيمِ ليسَ آخرَ المَطافِ، بل الأهمُ من ذلكَ هو الثَّباتُ عليه حتى المماتِ .. وذلك لا يزالُ يدعو المُسلمُ في كلِّ صلاةٍ (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) يسألَ اللهَ الثَّباتَ على الحقِّ إلى أن تنفصلَ روحُه من جَسدِه .. ولذلكَ لما قرأَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قولَه تعالى: (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)، خَطَّ خَطًّا مُستَقِيمًا، وقال: (هذا سَبيلُ اللهِ)، ثُمَّ خَطَّ عن يَسَارِه وَعَن يَمِينِهِ خُطُوطًا، وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ، على كُلِّ سَبِيلٍ مِنهَا شَيطَانٌ يَدعُو إِلِيهَا) .. ففي زمنِ الفِتنِ لا يأمنُ الإنسانُ على نفسِه، وفي الحديثِ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا).
فمنْ سألَ اللهَ تعالى الهِدايةَ بصدقٍ .. وآمنَ باللهِ تعالى واعتصمَ به .. وعمِلَ الصَّالحاتِ .. وتركَ المُحرماتِ .. وجعلَ القُرآنَ أنيسَاً له في وحدتِه .. وجليساً له في صُحبتِه .. واستشعرَ بقلبِه حاجتَه إلى الهِدايةِ .. وأنها أعظمُ عطاءٍ يُعطيه اللهُ تعالى للعبدِ .. بل لا يُعطيه إلا من يُحبُه .. كما في الحديثِ: (إِنَّ الله قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخَلاَقَكُمْ كَمَاَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ الله يُعْطِيْ الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُ وَمَنْ لاَ يُحِبُ، وَلاَ يُعْطِيْ الإيمَانَ إلاَّ مَنْ أَحَبَّ) .. ثُمَّ انظرْ إلى مقدارِ محبةِ اللهِ تعالى لك فيما أعطاكَ من الإيمانِ أو حرمَك .. واجتهدْ فإن اللهَ تعالى قالَ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
واعلم أن بقدرِ ثباتِك على الصراطِ المستقيمِ في الدُّنيا وحُبِك له وتَمسُكِك به ومُسارعتِك إليه وعليه .. فإن ذلك يَنعكسُ على مرورِك على صِراطِ يومِ القيامةِ .. يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى: (وَلِلْهِدَايَةِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ آخِرُ مَرَاتِبِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهَا، فَمَنْ هُدِيَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُدِيَ هُنَاكَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوَصِّلِ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ، وَعَلَى قَدْرِ ثُبُوتِ قَدَمِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ ثُبُوتُ قَدَمِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ سَيْرِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّرَاطِ يَكُونُ سَيْرُهُ عَلَى ذَاكَ الصِّرَاطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرِّكَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَخْدُوشُ الْمُسَلَّمُ، وَمِنْهُمُ الْمُكَرْدَسُ فِي النَّارِ، فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ سَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ مِنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، جَزَاءً وِفَاقًا، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ، لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فَضلِه وإحسانِه، أسبغَ علينا نعمَه ظاهرةً وباطنةً .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه بالهُدى ودينِ الحقِّ ليظهرَه على الدِّينِ كلِّه، فقامتْ به الحُجَّةُ وتَمتْ به النِّعمةُ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلمَ تسليمًا .. أما بعد:
فيا عبادَ اللهِ .. كما أن للهدايةِ أسباباً ووسائلَ .. فلها أيضاً موانعُ تصدُّ العبدَ عنها .. منها ما ذكرَه اللهُ تعالى في قولِه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) .. فإياكَ والإسرافَ على نفسِك بالمعاصي .. فنسيانُك للهِ تعالى عاقبتُه خطيرةٌ .. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .. ومن أصبحَ فاسقاً فلا هِدايةَ له .. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .. وأما (الْكَذِبَ فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً) .. فكيفَ يستحقُ الهدايةَ مَنْ هو عندَ اللهِ كذَّاباً؟.
وأما الظُلمُ .. فهو حاجزٌ عظيمٌ عن الهدايةِ كما قالَ تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .. وكلما تخلَّصَ الإنسانُ من الظُلمِ كلما كانَ قريباً من هِدايةِ الرَّحمانِ .. وأعظمُ أنواعِه الشِّركُ .. قالَ سبحانَه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) .. فبقدرِ تطهيرِ نفسِك ودينِك من الظُلمِ .. بقدرِ هدايةِ اللهِ تعالى لك.
وأما الخائنونَ فهم بعيدونَ عن هدايةِ اللهِ تعالى لهم .. يقولُ الحقُّ سبحانَه: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) .. بل هي صِفةٌ من صفاتِ المنافقينَ التي يبغضُها اللهُ تعالى (وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) .. وحذَّرَ منه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِه: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) .. فإياكم والْخِيَانَةَ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ.
أيها العبدُ المُباركُ .. تأملْ هذه الآياتِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) .. فأهلُ الجنَّةِ يعلمونَ أن دخولَهم فيها بسببِ الهدايةِ .. وأن هذه الهدايةَ من اللهِ ولولا أن هداهم ما كانَ لهم أن يصلوا إليها .. حينئذٍ ستعلمُ أنك لو تبذلُ حياتَك كلَّها في طلبِ الهدايةِ والحفاظِ عليها .. فإن ذلك يَهونُ في سبيلِ الجنَّةِ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ .. اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ .. اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ .. اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا .. رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ .. اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ .. اللَّهُمَّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِـنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
المرفقات

اهدنا الصراط المستقيم.docx

اهدنا الصراط المستقيم.docx

المشاهدات 3157 | التعليقات 3

ماشاء الله ! . خطبةٌ حيّة من الأمّهات ، تحيا بها القلوب و تسكنُ بها الضمائر و الأفئدة .
بارك الله فيكم ، وأسأل الله لي ولكم و لجميع إخواننا في الملتقى الهداية إلى صراط الله المستقيم ، فإن من هداه الله صراطَه المستقيم فذاقَ حلاوة الاستقامة ووجد بشاشتها لا يرجع عنها سخطةً أبدَا .


جزاك الله خيرا


بسم الله ما شاء الله ..
رائعة يا شيخ هلال ..
بورك في علمك وقلمك وكلك ..