انظروا إلى من هو أسفل منكم

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون: نقف اليوم مع وصية من وصايا سيدنا محمد ﷺ، وصية عظيمة، دواء لمرض من أمراض العصر، فيها مصلحة لديننا ودنيانا، وفيها راحة لعقولنا وقلوبنا وأبداننا، هذه الوصية يريد النبي ﷺ من خلالها أن يضعنا أمام حقيقة مهمة، غفل عنها البعض، ووقع في تبعاتها الكثير، يبين لنا فيها المنهج السليم الذي يسير عليه المسلم في حياته، خاصة في ظل حياة الماديات، والتنافس المذموم على الدنيا، والغفل عن الآخرة. ولو أن الناس فهموا هذه الوصية وترجموها في واقع حياتهم لعاشوا صابرين شاكرين، مطمئنين راضين بما قسمه الله تعالى لهم.

فاسمعوا وانصتوا لهذه الوصية التي نطق بها سيدنا ونبينا محمد ﷺ، وهو يقول كما جاء في صحيح مسلم: (انظُروا إلى مَن أسفَلَ منكم، ولا تَنظُروا إلى مَن فَوقَكم؛ فإنَّهُ أجدَرُ ألّا تَزدَروا نِعمةَ اللهِ عليكم) رواه مسلم

هذه وصية عظيمة من نبي رؤوف رحيم، يرسم لها طريق السعادة وراحة البال، والتخلص من الهموم والغموم والقلق، والنجاة في الدنيا والاخرة.

فنبينا ﷺ من خلال وصيته يرسم منهجًا للمسلم ينبغي أن يلتزم به، وهو أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منه، أقل منه رزقًا، وصحةً، ومالًا، وجاهًا، ووظيفة، وولدًا، ومسكنًا ومركبا ومنصبا وزوجة، فإذا نظر هذه النظرة فإنه سيعرف قدر نعم الله عليه، ويعرف قدر ما هو يه من النعم الجليلة؛ وهذا سيدعوه إلى شكرها وحفظها.

ولكن إذا كان ينظر إلى من هو فوقه في المال أو المسكن أو المركب أو الوظيفة أو غير ذلك من أمور الدنيا، فإنه سيستصغر نعم الله عليه ويحتقرها، وبالتالي سيعيش في هموم وغموم وسخط وكدر وقلق وسخط وعدم رضا.

فراحة البال، وطرق الخلاص من الهموم والغموم والقلق، وباب السعادة في الدنيا والاخرة، في استشعار وصية حبيبنا ﷺ (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ).

ولهذا قال عَوْن بْن عَبْدِ اللهِ رحمه الله: "صَحِبْتُ الأَغْنِيَاءَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ هَمًّا مِنِّي، أَرَى دَابَّةً خَيْرًا مِنْ دَابَّتِي، وَثَوْبًا خَيْرًا مِنْ ثَوْبِي، وَصَحِبْتُ الْفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْتُ".

كم من الناس اليوم لا يرى نعم الله عليه، ولا يستشعر ما هو فيه من خير وعافية وسعة رزق، فتجده يتطلع إلى من هو أعلى منه في الأرصدة والسيارات والملبس والمسكن والوظيفة والصحة والولد والتجارات والأملاك، فتراه مزدرياً للنعم بين يديه، محتقرا لها، فلا يعدها نعمة، ولا يرى فيها واجبا عليه فيشكر الله عليها، مع أن الكثير من الناس يرونه في نعمة عظيمة، يرون ماله ومسكنه ومركبه وصحته وحياته فيرجون أن يكون لهم كما له، ويطمعون فيما عنده، فيرونه قد أغدق الله عليه وأنعم، ووسع عليه وأعطى، فالمحروم منها يراها نعم جليلة تستحق حمد الله والشكر.

إن النظر إلى من هو أعلى منك في النعم لن يكون لنهاية النظر منتهى، ولن نتوقف عند حد، ولن نصل إلى رضا، ولن نشبع من هذه الدنيا، ولن يملأ فم ابن آدم إلى التراب، ولن نستفيق إلا عند سلبها أو مفارقة الدنيا كلها.

كن على يقين أخي المسلم أنك تعيش في نعمة عظيمة، وآلاء جليلة، قد حرمها الكثير من البشر، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، لكنا عنها غافلون.

رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم هو وأصحابه رجل مبتلي أجذم، أعمى، أصم، أبكم، فنظر إليه عمر رضي الله عنه وتأمل فيه، فقال لمن معه: هل ترون في هذا من نعم الله شيئًا؟ قالوا: أي نعم! إنه أعمى وكسيح وأطرش ومجذوم وليس فيه أي نعم. فقال عمر رضي الله عنه: ألا ترون يبول فلا يعتصر ولا يلتوي يخرج بوله سهلًا، فهذه نعمة من الله.

هذه النعم التي أنعمها الله علينا سنسأل عنها يوم القيامة: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، يقول أبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ -يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ-الْعَبْدُ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحّ لك جسمك، ونُرْوكَ من الماء البارد؟ " رواه الترمذي وصححه الألباني.

أيها الأحبة.. من أمرض العصر الذي نعيش فيه مرض المقارنات، يقارن أحدنا نفسه بغيره، فيتابع الآخرين ويرى سفرهم وأكلهم وتنزههم ومساكنهم ومراكبهم وطيب حياتهم ونعيمهم فيتمنى أن يكون مثلهم، بل يطالب بأن يفعل فعلتهم ويسافر ويتنزه ويشتري كما رأى، وهذا مما يثقل على النفس والأهل، فيحاولون أن يكونوا مثل الآخرين وهم لا يستطيعون، وهذا مما وقعت فيه الأسر، وخلقت المشاكل والخلافات، بسبب مطالبات الأب أو الزوج بأكثر مما يقدر، ولو أن الناس نظروا إلى النعم بين أيديهم لشكروا الله تعالى.

ومما ساعد في شؤم المقارنات وسائل التواصل الاجتماعي، فتجد الزوجة والابن والبنت يشاهد الآخرين، فيقارنون حال من يشاهدون بحالهم، وما هم فيه بما عند غيرهم.

فمن ابتلي بالتصوير ونقل حالات اليوم وأحداث النعم فليحمد الله وليستتر عن حسد الناس، ولا يكن سببا في إحداث الخلافات والمشاكل وهو لا يعلم في تلك الأسر المتواضعة التي لا تستطيع ما قدرت عليه وأنعم الله به عليك.

ومن ابتلي بكثرة المتابعات والمشاهدات والمقارنات فلير ما أنعم الله عليه، ولينظر إلى من هو دونه، فإن ذلك أحرى أن تشكر نعم الله.

فهذه وصية نبينا محمد ﷺ، لكل من يبحث عن راحة البال، ويبحث عن سعادته في الدنيا والاخرة، وكل من يريد أن يتخلص من الهموم والغموم والقلق، اعملوا بها لتنالوا خيرها، «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ».

وقد قال ﷺ: (وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ) رواه أحمد والترمذي.

 

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: انظروا إلى من هو أعلى منكم في الدين والأخلاق، والعلم والإيمان، والكرم والتواضع وطيب الكلام، انظروا إلى من هو فوقكم لمن حفظ القرآن، وأكثر من الصيام، وطاف بالبيت الحرام، انظروا إلى حال من يزيدكم قربا من الله ورفعة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: لقَدْ رَأَيْتُ سبعِين مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَا منْهُم رَجُلٌ عَلَيْهِ رداءٌ، إِمَّا إِزَارٌ، وإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ ربطُوا في أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصفَ السَّاقَيْن، ومنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبينِ، فَيَجْمَعُهُ بيدِه كراهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرتُه» رواه البخاري

عاش بعض صحابة نبينا ﷺ هذه الحالة من الفقر والعوز، وسموا بأهل الصفة، ولم تضرهم حالتهم من أن يكونوا من أهل الجنة، ومن صحابة رسول الله ﷺ في الدارين.

عاشوا كذلك من فقر لكن كان عندهم من الإيمان والصحبة والعلم ما بلغوا به الشرف والرفعة، واستحقوا به الجنة.

المشاهدات 2569 | التعليقات 0