انتكاسة العقول (3)
محمد بن إبراهيم النعيم
إن من أعظم النِّعَم: نعمةَ العقل الذي يُميِّزُ به الإنسانُ بين الحق والباطل، وبين الخير والشرِّ، وبين النافعِ والضار، ولو استعمل الناس عقولهم الراجحة، لعرف كثير من الناس أخطاءهم، ومن أغفل عقله واتبع شهواته وهواه، انتكس في أقواله وأفعاله.
أيها الأخوةفي الله
عرضت لكم في الأسبوعين الماضيين عدة صور عرضها لنا ربنا -عز وجل- في كتابه الكريم عن انتكاسة العقول، محذرا أن نقع فيها، واليوم أعرض لكم انتكاسة أخرى حذرنا ربنا -عز وجل- من الوقوع فيها، أرأيتم أناسا يملون من النعم ويدعون الله تعالى أن يزيلها عنهم؟ أرأيتم أناسا يتمنون زوال نعمة الله عنهم ويطلبون شظف العيش؟
لا شك أن هؤلاء منكوسي العقل، فدعونا نتحدث عن الانتكاسة الثالثة في هذه السلسلة والتي تتحدث عن الملل من النعم، وهل الناس لا يزالون يمارسون هذا الخطأ؟
الانتكاسة الثالثة: الملل من النعم ودعاء الله بزوالها
لقد حكى ربنا -عز وجل- في كتابه عن قوم سبأ وعن النعيم الذي كانوا يعيشونه، فقد جعل طرقاتهم وممراتهم التجارية بين اليمن والشام طرقا مأهولة، وكانت المسافة بين سبأ والشام قرابة أربعة أشهر، وكانت ممرا تجاريا جعله الله تعالى لأهل سبأ طريقا آمنا، فكانوا يسيرون فيه غير خائفين ولا جياع ولا ظمأ؛ لكثرة القرى التي يمرون عليها، وكانت تلك القرى مليئة بالأشجار المثمرة والمياه الطيبة، فكان المسافر لا يحتاج في سفره أن ينقل معه طعاما ولا ماء طيلة الأربعة أشهر، فكانوا لا يحسون أنهم في سفر ولا يعانون ما يعانيه بقية المسافرين، إذ جعل لهم تلك القرى على طول الطريق إلى الشام كمحطات يستريحون فيها بالقيلولة والمبيت، وكانت المسافات بيت تلك القرى منتظمة، إذ جعل بين كل قريتين نصف يوم، حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى، ولكنهم لم يشكروا هذه النعم، بل طلبوا التعب والكد، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا.
قال تعالى }لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ{15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ{17} وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ{18} فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{19}{.
فقوم سبأ كانوا يقطعون المسافات الطويلة في سفرهم فلا يحملون زادا، لأن الله قد هيأ لهم على طول طريقهم جميع ما يحتاجون إليه، فلم يحمدوا الله تعالى على تلك النعمة وإنما زاد بطرهم، وأشرهم وكأنهم سئموا الراحة ولم يصبروا على العافية، فطلبوا طول السفر حتى يشعروا أنهم مسافرين، فقالوا دعاءهم الأثيم: }رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا{، إنها انتكاسة صدرت من أغبياء لم يشكروا النعمة، وإنما طلبوا المشقة والشدة، قال تعالى في شأنهم مسجلا ما قالوه من دعاء أثيم، ليكون لنا درسا ولئلا نقولَ مثله: ]فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[ [سبأ: 19]، طلبوا أن يفصل بين قراهم مفاوز وصحاري حتى يحسوا بطعم السفر، وهذا إمعان في رفض الحضارة والتمدن والحياة الهادئة.
فبدلا من أن يقولوا: الحمد لله الذي سهل علينا السفر وزادنا من النعم، سألوه المشقة.
فمن الانتكاسة أن يسأم الإنسان النعمة التي يملكها ويطلب من الله الشدة، ولا يشكر الله على هذه النعمة. كحال بني اسرائيل حينما طلبوا البقل والثوم والبصل والعدس بعد أن رزقهم الطيبات من الطعام، قال تعالى } وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ{.
فقصة قوم سبأ تحذرنا من أمرين خطيرين:
فالأول هو: الملل من النعم.
و الثاني هو: الكفر بالنعمة وعدم شكرها وحمد الله عليها.
فالله تعالى نهى عن التشديد على النفس بما لم يشرع، ولماذا يحب تعالى أن تؤتى رخصه؟ لأنه يحب التيسير ولا يحب التشديد، والرخص في الشرع كلها تيسير.
فقد روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي قال: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد.
ألا ترون أن النبي نهى ذلك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس ولا يستظل؟
فقد روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ بَيْنَا: النَّبِيُّ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ : (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) رواه البخاري.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أن النبي لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال: (إن الله لغني عن نذرها، مرها فلتركب) رواه أبو داود.
فالذي يطلب من الله أن يشدد عليه قد يبتلى ويحرم النعم كما حصل لقوم سبأ. فالمسلم مطالب دائما أن يسأل الله العافية، قال (اسْأَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ) رواه الترمذي.
فتأملوا -يا عباد الله- إلى خطورة الكلمة التي تغضب الله وكيف يؤاخذُ اللهُ بها، عندما قال قوم سبأ: }رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا{.
فقد روى بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فبالشكر تدوم النعم، والكفر بها قد يزيلها.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، وأن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أحقُّ مَنْ شُكِر، وأوْلى مَنْ حُمِد، وأكرم مَنْ تفضَّل، وأرحم مَنْ قُصِد،، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صل الله عليه, وعلى آله وصحبه, والتابعين لهم أجمعين وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فإن الملل من النعم وسؤال الله تعالى أن يزيلها هو كفر بالنعم وعدم شركها، وهناك أمثلة عديدة لأمنيات منكوسة من بعض الناس تنم على عدم شكرهم لنعم الله عليهم، وطلبهم للشدة وعدم التيسير.
إننا نسمع أناسا يتطلعون إلى حياة الكافرين وما عندهم من عادات وأعراف واختلاط، وحرية مطلقة للمرأة، فيتمنون مثل حياتهم، ناسين كثرة الإنحلال الخلقي وجرائم الاغتصاب والقتل وتفكك الأسرة في تلك المجتمعات. َأتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟
والبعض حينما يرى الكثير من الفواكه الموسمية متوفرة طوال العام يمل منها ويقول: لقد مللنا من وجود البرتقال والموز والتفاح طوال السنة، ونحو ذلك من كلمات، تنم عن عدم حمد الله تعالى على هذه النعمة؟ فإذا مللت من بعضها فلا تقم بشرائها، وخير لك أن تصمت؛ لئلا تتفوه بكلمة تكفر بنعمة الله عليك، وتغضب الله عليك.
وإذا مللت من هذه النعمة فاتركها لفترة، أو قم بزيارة من فَقَدَ هذه النعمة لتعرف نعمة الله عليك.
والبعض يقول: لقد كسلتنا السيارات واعتمدنا عليها اعتمادا كليا، يا ليتنا نعيش على ما عاش عليه أجدادنا، فقد كانوا يركبون الدواب وكانوا أكثر صحة منا ونحو ذلك من كلمات تنم على عدم شكر النعمة، فهل تريد أن تسافر إلى بلد ما على دابة فتمضي أسبوعا أو شهرا في سفرك لكي تصل؟ ألا تشكر نعمة الله عليك؟ فإذا مللت هذه النعمة فلا تستخدمها ولكن لا تكفرها؛ لئلا يصيبك ما أصاب قوم سبأ.
وبعض النساء إذا أزعجها أولادها قالت: يا ليت ما عندي أولاد ولا عرفت الأولاد لكي أرتاح من هذا الإزعاج ومن هذه الكلفة، وكان الأجدر بها أن تشكر هذه النعمة التي يتمناها من ابتلاه الله بالعقم، فتراه يدفع الغالي والنفيس لعله يجد علاجا لعقمه، فلماذا تدعوا المرأة على نفسها أن يحرمها من الأولاد؟
وبعض الأزواج إذا حدثت له مشكلة زوجية قال: يا ليتني ما زلت أعزبا ولم أعرف الزواج، فينسى نعمة الزواج التي يتمناها آلاف الشباب لإكمال نصف دينه.
فالملل من النعم وتمني زوالها أمر خطير قد يزيل هذه النعمة.
إن الله تعالى يحب أن يحمده عباده على نعمه، بل ويحب أن يحمدوه في الضراء، والمصائب، فكيف بالسراء وتجدد النعم؟
ولكي لا نقع فيما وقع فيه قوم سبأ، أمرنا نبينا أن نكثر من حمد الله تعالى، فوضع لنا رسول الله جدولا يوميا حافلا بالحمد والثناء على الله تعالى على نعمه التي لا تحصى، منذ استيقاظنا حتى منامنا. فمنذ أن يستيقظ العبد من نومه يقول: دعاء الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحياني بعد أن أماتني وإليه النشور.
وإذا لبس ثيابه قال: الحمد لله الذي ألبسني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة. ويقول دعاء مماثلا إذا رأى رؤيا حسنة، وإذا رأى مبتلى، وإذا أكل طعاما أو شرب شرابا، وإذا ركب دابته، وهكذا في معظم شؤون حياته إلى أن يرجع إلى فراشه لينام فيختم يومه بثناء وحمد يعدل جميع محامد الخلق كلِّهم قائلا: ما رواه أنس بن مالك أن النبي قال: (من قال إذا أوى إلى فراشه: الحمدُ لله الذي كفاني وآواني، والحمدُ لله الذي أطعمني وسقاني، والحمد لله الذي منَّ علي فأفضلَ، فقد حمد الله بجميعِ محامدِ الخلقِ كلِّهم) رواه البيهقي والحاكم.
أرأيتم كيف يريد منا ربنا أن نحمده على نعمه؟
ومن عود نفسه على حمد الله تعالى في كل شؤون حياته كان من أفضل عباد الله يوم القيامة، حيث روى عمران بن حصين أن النبي قال: (إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون) رواه الطبراني.
فالله وعدنا إذا شكرناه على نعمه أن يزيدنا، وإذا كفرنا النعمة فسيعذبنا، قال سبحانه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحمدون الله تعالى في السراءِ والضراءِ.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
15/2/1434هـ