انتصف شهر رمضان ١٤٤٤/٩/١٦
أحمد المقبل
انتصف رمضان 16/9/1444هـ
الحمد لله ذي المنّ والعطاء، المتفرد بالألوهية والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يسمع النداء ويجيب الدعاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام ولبّى النداء صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة النجباء وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين واحمدوا الله على نعمة الإسلام وبلوغ مواسم الغفران.
في بداية هذا الشهر المبارك بدأت رحلة من السباق إلى الطاعات والمنافسة على جائزة رب الأرض والسماوات .
مِن الذين علت همتهم وأدركوا سرّ وجودهم .. علموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولن يتركوا سدى .. أدركوا أن رمضان منحة من الخالق ليستعتب المقصرون ويزداد العاملون .. يدخلون جنة رمضان بسلاح الإيمان والصبر والمجاهدة ليدركوا الفضل العظيم ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه )متفق عليه .
مسلمون كثير ولله الحمد يُظهرون الفرح الحقيقي والاستبشار الصادق بطاعة الله متذكرين ( قلْ بفضلِ اللهِ وبرحمتِه فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مِمَّا يجمعون ) تعبّر عن فرحها برمضان بالتسابق للخيرات والمسارعة إلى الصالحات مدركين أنه شهرٌ لرفع الرصيد الأخروي والتطهر من أدرانٍ وذنوبٍ سلفت .
أسرٌ مسلمة تخوض غمار المجاهدة في رمضان من المساجد والمعتكف وبيد تمسك مصحفا وبأخرى تنفق على مسكين .. أسر تتقلب مابين صيام وصلاة وذكر وقراءة قرآن وتزاور وصلة للأرحام وتتنقل من عبادة إلى أخرى لأنها تؤمن بقول خالقها ( فإذا فرَغتَ فانْصبْ وإلى ربِّك فارْغبْ) وتحقق قول بارئها( سارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتقين ...
أسر تتسامى بأسماعها وأبصارها من أن تتلوث بسماع الغناء وتتدنس برؤية الأفلام والمسلسلاتِ الخادشةِ للحياء الهادمةِ للفضيلة ، تعرضها قنوات مفسدة حوت منكراً من القول وزورا ..أخذت على عاتقها إفساد روحانيةِ رمضان وإشغالَ المسلمين عن القرآن، وحرمانهم من أسباب التوبة والغفران ، قنوات تبدّل المفاهيم وتلبس الحق بالباطل وتثير الشبهات وتزرع الشهوات فأي مسلم يرضى لنفسه وأهله هذا المصير ؟
الأسر المسلمة تدرك قيمة رمضان ونفاسته استثمارا لأوقاته واستغلالا للحظاته .. ترسم برنامجا يملأ شهرها بنتاجٍ يورث سعادة الدنيا والفوز والعتق في الآخرة .
الأسر المسلمة تحذَر من لصوص رمضان السارقين روحانيتهُ وفضله ،الهادمين منافعهُ وآثاره من قنواتٍ مفسدة وأسواقٍ نصَبَ الشيطان فيها رايته ’ تُهدَر فيها الأموال ، وتُضيّع فيها الساعات ، وتُعرض الفتن .. وسهرٌ يسرق الأوقات ويحرم من التهجدِ والاستغفار والتنافس في القربات ، وجوالاتٍ ووسائلَ تواصل تَضيع في تتبعها أغلى الأوقات بتفاهات وغثاء وقيل وقال وأخبار وتحليلات وأمور لاتعني المسلم بشيء ، ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه .
هكذا تكون الأسرة المسلمة في رمضان لأنها تنظر بعيدا إلى الحياة الآخرة .. ولأنها تعلم أن أمنيات المقصرين يوم يحتضرون ويوم يبعثون ليست لأجل تفاهات وأفلام ومسلسلات وإنما أمنياتهم ( فأصّدّق وأكن من الصالحين ) ( لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركت ) ( لو أن لي كرّةً فأكونَ من المحسنين ) أدركَوا ذلك فعملوا ماينفعهم ، أولئك الذين هدى الله وأولئك هم المتقون .
رمضان يامسلمون انتصف ، فكم من صحيح حُرم صيامُه، وكم من حيٍّ لن يكمله ، وكم من محروم بلَغه ولم يدرك فضله ، فسلوا الله أن يعينكم على استغلال لحظاته واستثمار ساعاته في عمل يرفعكم وينفعكم (يومَ تجدُ كلُّ نفسٍ ما عمِلت من خيرٍ محضراً )، و(مَن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلَّامٍ للعبيد )
.. أيها الصائم : إني أذكرك يامن ترجو الله وتخافه أِنَّ لَدَيكَ طَاقَةً هَائِلَةً، وَإِرَادَةً قَوِيَّةً، وَرَمَضَانُ هُوَ الوَقْتُ الـمُنَاسِبُ لِتَفْجِيرِ هَذِهِ الطَّاقَاتِ، وإطلاق هَذِهِ القُدُرَاتِ .
أَدركتَه حيا ً وَغَيْرُكَ فِي بُطُونِ القُبُورِ! وَمُعَافَىً وَغَيْرُكَ من الآلام يَئِنُّ ، وللصلاة والصيام يحن ، أدركتَه آمنا مطمئنا وغيرك أدركه وقد تخطّفه قريب يتجهمه أوعدوٌ يهاجمه فَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟
اجعل من رمضان مشروعاً لتوبةٍ خَالِصَةٍ للهِ تَعَالَى، تُقْبِلُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى إعلانِ عِزِّكَ بِالهِدَايَةِ، وَتَمَيُّزِكَ بِالاِسْتِقَامَةِ، وَتُعْلِنُ فِيهَا رُجُوعَكَ إِلَى رَبِّكَ ومولاك، وَسُلُوكَكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ الذِي أَوَّلُهُ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَآخِرُهُ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضِ، وَيَكْفِيْكَ مَحَبَّةُ اللهِ لَكَ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )
إن كنت من أهل اليسار فجُدْ في هذا الشهر الفضيلِ بما تستطيع ، فقد كان نبيك عليه الصلاة والسلام أجودَ الناس ، وكان أجود مايكون في رمضان .. الحديث متفق عليه .
اجعل من رمضانَ مشروعا للتخلص من العادات السيئة كالتدخين والإدمان على المحرمات والفوضوية في الأوقات والعلاقات . زد رصيدك في رمضان بكل عملٍ صالح تستطيعه .
ياأيه المسلم : ستمضي الأيام وستسمع تكبيرات المسلمين معلنة رحيل الشهر وحلول العيد وحينها سيحمد القوم السرى وسيحصد الزارعون مازرعوا .. وحينها كم من صحيفةِ عتقٍ من النار سينالها العاملون وكم من مفرّط ستناله دعوةُ المصطفى والممهورة بتأمين الروح الأمين ( رغِم أنفُ امريءٍ أدرك رمضان فلم يغفر له )
ماأجمل الهتاف النبوي ( إن في ايام الدهر نفحات فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلايشقى بعدها أبدا )
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وخذ بنواصينا للبر والتقوى .
أقول هذا القول ..
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي من يشاء الى صراط مستقيم وأشهد أن لاإله الا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام . أما بعد :
ايها المسلمون بعد أربعة أيام نستقبل أفضل ليالِ السنة ،هي العشر الأواخر من رمضان ولعِظَمِها كان عليه الصلاة والسلام يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها . وكان يعتكف فيها بمسجده يتحرّى ليلة القدر ، تقول عائشة رضي الله عنها كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ . متفق عليه . كان يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر، قال ابن رجب: "ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرةُ أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه".
وشد المئزر هو كناية عن ترك الجماع واعتزال النساء، والجد والاجتهاد في العبادة .و (وأحيا ليله) أي: أحياه بالطاعة ، بالصلاة، والقراءة، والدعاء، والاستغفار،.
وقد عظّم الله شأن هذه الليلة وسماها مباركة ، فقال تعالى :( إنَّا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركة) وقال تعالى :( إنَّا أنزلناهُ في ليلةِ القدر، وما أدراك ما ليلةُ القدرِ ، ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر) قال السعدي رحمه الله ﴿لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ﴾ أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر [خالية منها]، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث منّ تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفةِ القوةِ والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمْرُ رجلٍ معمرٍ عمرًا طويلًا، نيفًا وثمانين سنة. أهـ
في هذه الليلة تقدّر مقادير الخلائق على مدار العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، والآجال والأرزاق، قال تعالى: {فيها يفرقُ كلُّ أمرٍ حكيم}
فيها تفتح الأبواب، ويُسمع الخطاب، ويرفع الحجاب، ويستجاب فيها الدعاء ويتحقق الرجاء، {سلامٌ هي حتى مطلعِ الفجر}. وقد أخفى الله عز وجل علم تعييينها عن العباد، ليكثروا من العبادة، ويجتهدوا في العمل، فيظهر من كان جاداً في طلبها حريصاً عليها، ومن كان عاجزاً مفرطاً، فإن من حرص على شيء جدّ في طلبه، وهان عليه ما يلقاه من تعبٍ في سبيل الوصول إليه. هذه الليلة العظيمة يُستحب تحريها في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الأوتار أرجى وآكد، فقد ثبت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلةُ القدر في تاسعةٍ تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)
قال الحافظ في «الفتح»:(الأرجحُ: أنها في العَشْرِ الأخير، وأنها تَنْتَقِل( فاستدركوا في آخر شهركم ما فاتكم من أوله، وأحسنوا خاتمته فإنما الأعمال بالخواتيم. وأَرُوا الله من أنفسكم الجدّ في تحرّي الخيرِ في بقية الشهر، واغتنموا ما فيه من الخيرِ الوفير، وتعرضوا لنفحات الكريمِ الوهاب.. فإن المغبون حقا من صُرف عن طاعة ربه، والمحروم من حُرم العفو، والمأسوفُ عليه من فاتته نفحات الشهر، ومن خاب رجاؤه في ليلة القدر.
ومن الخسارة والحرمان إضاعة هذه الليالي الثمينة في الاستراحات أو الأسواق، وربما يا أخي أدركتَ رمضان هذه السنة فلا تدري هل تدركه مرة أخرى أم لا ؟
عباد الله: ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، يسمع الخطاب، ويُرد الجواب، ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غداً بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا سنودِعها، وبأي الأعمال نودّعها؟ أتراها ترحل حامدة لصنيعنا، أم ذامة تفريطنا ؟
قال عليه السلام : ( مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِم )رواه النسائي .هذا أوان السِّباق فأين المتسابقون؟ وهذا أوان القيام فأين القائمون؟.
سوف ينادي ربكم سبحانه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" أخرجه مسلم.
ألا فاتقوا الله عباد الله ، بيْنَا كان يبشر بعضنا بعضاً بقدومه إذ بنا نفقد شطْرَه ، وما بقي من الشطرِ الآخر لن يكون أبطأ مما مضى من شطره الأول ، وانما السابق اليوم من سبق به عمله وقادته تقواه إلى مولاه فلا النسبُ موصلٌ إليه ولا الجاهُ ولا المال . فالله جل وعلا يقول :( لن تنفعَكم أرحامُكم ولا أولادُكم يومَ القيامةِ يفصِلُ بينكم )فالبدار البدار فإن الشهر سريع الأفول ، وما فات منه لن يرجع وما بقي منه سينحسر ولاتَ ساعةَ ابتدار ، فسنّة الله أن كل اجتماع فإلى افتراق ، والتمام يعقُبه الزوال (والقمرَ قدَّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعُرْجونِ القديم ) ولا عجب فإن الله وصفها بأنها أيام معدودات دِلالةً على قِصرِها ، غير أنها مليئةٌ من الأجور والحسنات بما لا يحصي أضعافها الا الله ، فالكيّس من ندم على ما فات من الشهر، واغتنم ما بقي ، والعاجز من تمنى فلم يتهنى ، وكل الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها وإنما الفوز يوم الجوائز، والجذاذ يوم الحصاد والأعمال بالخواتيم .
اللهم بلغنا برحمتك رضاك، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، وإتمام صيام الشهر ، والاستكثار من الخيرات في بقيته وبقية العمر، يا ذا الجلال والإكرام.