املأ فراغك-13-8-1437ه-هلال الهاجري-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1437/08/13 - 2016/05/20 04:16AM
[align=justify]
أما بعد: ففي القرنِ الثالثِ الهجريِ بعثَ الوزيرُ عليُ بنُ عيسى طبيبًا نصرانيًا ليعالجَ الشيخَ، فدخلَ على شيخٍ كبيرٍ، تجاوزَ الثمانينَ من عُمُره، وقد أصابه المرضُ، فسألَه عن حالِه وعن برنامجِه اليومي؟
فأخبره الشيخُ-رحمَه اللهُ-تعالى-عن أوقاتِ يومِه: "كانَ إذا استيقظَ، صلى الفجرَ، ثم بقيَ في مصلاه حتى تطلعَ الشمسُ، ثم يبقى مع أهلِه في البيتِ، وينامُ القيلولةَ قبلَ الظهرِ، ثم يصلي الظهرَ، ثم يبقى يُصنِّفُ(يؤلفُ الكتبَ)إلى العصرِ، ثم يذهبُ فيصلي العصرَ، ثم يقعدُ للتدريسِ إلى المغربِ، ثم يصلي المغربَ، ثم يبدأُ في تدريسِ الفِقهِ واستقبالِ الطُّلابِ إلى صلاةِ العِشاءِ، ثم يصلي العشاءَ، ثم يدخل بيتَهُ، ويغلقُ بابَ دارِه فلا يدخلُ عليه أحدٌ إلا في أمرٍ ضروريٍ، وينقطعُ للتَّصنيفِ(لتأليفِ الكتبِ)، مع المحافظةِ على حزبِه من القرآنِ الكريمِ، برنامجٌ حافلٌ: حوى حقَ اللهِ-تعالى-، وحقَ النفسِ، وحقَ الأهلِ، وحقَ الناسِ، حوى العلمَ والعبادةَ ونفعَ غيرهِ.
فقالَ الطبيبُ النصرانيُ العبارةَ الخالدةَ: "واللهِ لو كنتَ في ملتِنا؛ لَعُدِدتَ من الحواريينِ الذين هم رسلُ المسيحِ عليه السلام".
إن هذا الشيخَ هو محمد بنُ جريرٍ الطبري-رحمَه اللهُ-تعالى-صاحبُ المؤلفاتِ العظيمةِ، الذي قال لتلاميذِه يومًا: أتنشطونَ لتفسيرِ القرآنِ؟-يعني: تريدونَ أنَّ أكتبَ لكم تفسيرًا للقرآنِ- قالوا: كم يكونُ قدرُه؟-يعنونَ كم عددُ أوراقهِ؟-قال: ثلاثونَ ألفَ ورقةٍ، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمارُ قبلَ تمامِه!، فقال: إنّا للهِ! ماتتْ الهممُ! فاختصرَه في ثلاثةِ آلافِ ورقةٍ، وأملاه في سبعِ سنين.
ثم قالَ لهم: أتنشطونَ لتاريخِ العالمِ من آدمَ إلى وقتِنا هذا؟ قالوا: كم قدرُه؟ قال: ثلاثونَ ألفَ ورقةٍ، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمارُ قبلَ تمامِه!، فقال: إنّا للهِ! ماتتْ الهممُ! فاختصرَه في ثلاثةِ آلافِ ورقةٍ.
قالَ الخطيبُ: وسمعتُ السِّمْسِميَ يحكي أن ابنَ جريرٍ مكثَ أربعينَ سنةٍ، يكتبُ في كلِ يومٍ منها أربعينَ ورقة-يعني كتبَ أكثر من نصفِ مليونِ ورقةٍ.
هذا مثالٌ من سلفِكم وكيفيةِ استغلالِهم لأوقاتِهم، فكيف بكم أيها الأحفادُ؟
أخي الكريمُ: أليس الوقتُ هو الحياةُ، ألستَ مسئولًا عنه؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عنْ أربعٍ،-وذكرَ منها: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟، وعنْ شبابهِ فيم أبلاه؟).
ألم تقرأْ في كتابِ اللهِ-تعالى-: وَالْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ،...يقسم الجبارُ-جلَ جلالُه-بالأوقاتِ تعظيمًا لشأنِها، وإنها واللهِ لعظيمةٌ.
إن المؤمنَ لا يمكنُ أن يفرطَ بأي ساعةٍ من ساعاتِه، وهو يعلمُ أنَّ هذا اليومَ إذا ذهبَ فلن يعودَ إلى يومِ القيامةِ، جاء معاويةُ بنُ خَديجٍ-رحمه الله-يبشِّرُ أميرَ المؤمنينَ عمرَ بنَ الخطابِ-رضي اللهُ –تعالى-عنه-بفتْحِ الإسكندريَّة، فوصلَ المدينةَ وقتَ القيلولةِ، فظنَّ أنَّ عمرَ نائمٌ يستريحُ، فمالَ إلى المسجدِ، ثم عَلِمَ أنَّه لا ينامُ في ذلك الوقتِ، فقال عمرُ-رضيَ اللهُ عنه-: ماذا ظننتَ يا معاويةُ؟، قال: ظننتُك قائِلا–يعني نائمًا القيلولةَ-فقالَ عمرُ لمعاويةَ: "لئن نِمتُ النَّهارَ، لأضيعنَّ حقَّ الرَّعيةِ، ولئن نمتُ الليلَ، لأضيعنَّ حقَ اللهِ، فكيف بالنَّومِ بين هذينِ الحقَّينِ يا معاويةُ"، اللهُ أكبرُ يا عمر، ليتكَ ترى المقاهيَ والاستراحاتِ التي بُنيتْ، والأجهزةَ التي صُنعتْ لتضييعِ الأوقاتِ.
يُذكر أن الشيخَ جمالَ الدينِ القاسمي-رحمه اللهُ-وهو من علماء الشامِ في القرنِ الماضي-مَرّ بمقهى، فرأى روادَ المقهى وهم منهمكونَ في لِعبِ الورقِ والطاولةِ وشربِ المشروباتِ ويمضون في ذلك وقتًا طويلًا، فقال رحمَه الله: "لو كان الوقتُ يُشترى لاشتريتُ من هؤلاءِ أوقاتِهم".
أخي المبارك: لتغتنمْ أوقاتَك كما وصاكَ نبيُك-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلم-: "اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حياتَكَ قبلَ موتِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ"، وكانَ ابنُ عمرَ-رضي الله-تعالى-عنهما-يقولُ: "إِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".
إننا في هذه الحياةِ نحتاجُ إلى قُدُواتٍ في اغتنامِ الأوقاتِ، فابحثْ عن حريصٍ على وقتِه، وتعلمْ منه، فإنه أنفعُ لقلبِك، هذا حمادُ بنُ سلمةَ يقولُ: "ما أتينا سليمانَ التيميَّ في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ-عزَّ وجلَ-فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعةَ صلاةٍ وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا مريضًا، أو مشيعًا جنازةً، أو قاعدًا في المسجدِ، قالَ: فكنا نرى أنه لا يَعصي اللهَ-عز وجل-"
فماذا كانَ أثرُ هذه القدوةِ الحسنةِ على حمادِ بنِ سلمةَ-رحمه اللهُ-تعالى-؟، قال عنه تلميذُه-الإمامُ عبدُالرحمنِ بنُ مهدي-رحمه اللهُ-تعالى-: "لو قيلَ لحمـادِ بنِ سلمة: إنك تموتُ غدًا ما قَدِرَ أن يزيدَ في عملهِ الصالحِ شيئًا"؛ لأنه ملأَ وقتَه كلَّه بطاعةِ اللهِ.
إياكَ أنْ تخسرَ أوقاتَ فراغِك، قالَ-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"، فلا تكنْ من الكثيرِ الخاسرينَ، وكن من القليلِ الرابحينَ، كن شحيحًا على وقتك، بخيلًا به، قالَ أبو بكرٍ بنُ عياشٍ: "أحدُهم لو سقطَ منه درهمٌ لظلَّ يقولُ: إنا للهِ وإنا إليه راجعون ذهبَ درهمي!، وهو ذهبَ يومُه ولا يقولُ: ذهبَ يومي ما عملتُ فيه؟!).
ألبرتْ أنشتاين-الفيزيائيُ الألمانيُ المشهورُ-من شدّةِ حرصِه على الوقتِ، كان لا يلبسُ الأقمصةَ بأكمامٍ فيها أزرارٌ، لأنّ غلقَها وفتحَها يُضَيِّعُ عليه وقتًا ثمينًا، هذا وهو لا يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ، ولكن عندنا في الإسلام أمثلةٌ أعظمُ.
يقول أبو الوفاءِ بنُ عَقيلٍ-رحمه اللهُ-تعالى-: "إني لا يحلُ لي أن أضيعَ ساعةً من عُمُري، حتى إذا تعطّلَ لساني عن مذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حالِ راحتي وأنا مُستطرحٌ-مستلقٍ-، فلا أنهضُ إلاّ وقد خطرَ لي ما أسطرُه، وأنا أُقَصِّرُ بغايةِ جَهدي أوقاتَ أكلي، فأختارُ سَفَّ الكعكِ اليابسِ مع الماءِ؛ لأنهُ أسرعُ من أكلِ الخبزِ اللينِ؛ لأوفرَ وقتًا لمطالعةٍ أو تسطيرِ فائدةٍ لم أدركها فيه". انتهى كلامُه بتصرف يسيرٍ.
فلقد أقبلتِ الإجازةُ الصيفيةُ فماذا أعددتَ لها من أمرِ الدنيا أو الآخرةِ.
كانَ ابنُ مسعودٍ-رضي اللهُ عنه-يقولُ: "إني لأكره أن أرى الرجلَ فارغًا، لا في عملِ الدنيا، ولا في عملِ الآخرةِ".
إن هذه الإجازةَ عُمُرٌ طويلٌ من حياتِك طويلٌ فاستثمره بعملِ الصالحاتِ التي تقربُك من اللهِ والجنةِ: ذكرِ اللهِ، قراءةِ القرآنِ، حفظِ آيةٍ ومراجعتِها مع تفسيرِها، قراءةِ حديثٍ مع شرحِه، قراءةِ كتابٍ نافعٍ، برِ الوالدين بمساعدِتهما في بعضِ الأعمالِ، صلةِ الأرحامِ، مساعدةِ المحتاجينَ، إطعامِ المساكينِ والطيورِ والحيواناتِ، كفالةِ اليتيمِ، إكرامِ الضيفِ، زيارةِ أحدِ الجيرانِ، العمرةِ، الصيامِ، صلاةِ النافلةِ-الزائدةِ عن الفرائضِ-، حضورِ درسٍ، تشييعِ جنازةٍ، تعزيةِ مصابٍ، سقايةِ عطشانٍ، إماطةِ الأذى عن الطريقِ، البحثِ عن عملٍ في الصيفِ، إتقانِ حرفةٍ، حضورِ دورةٍ، تعلمِ لغةٍ، تحسينِ خطٍ، ممارسةِ رياضةٍ...
وهكذا تقلبْ في طاعةِ اللهِ-تعالى-، ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا، وتذكر قولَ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ".
[/align]
أما بعد: ففي القرنِ الثالثِ الهجريِ بعثَ الوزيرُ عليُ بنُ عيسى طبيبًا نصرانيًا ليعالجَ الشيخَ، فدخلَ على شيخٍ كبيرٍ، تجاوزَ الثمانينَ من عُمُره، وقد أصابه المرضُ، فسألَه عن حالِه وعن برنامجِه اليومي؟
فأخبره الشيخُ-رحمَه اللهُ-تعالى-عن أوقاتِ يومِه: "كانَ إذا استيقظَ، صلى الفجرَ، ثم بقيَ في مصلاه حتى تطلعَ الشمسُ، ثم يبقى مع أهلِه في البيتِ، وينامُ القيلولةَ قبلَ الظهرِ، ثم يصلي الظهرَ، ثم يبقى يُصنِّفُ(يؤلفُ الكتبَ)إلى العصرِ، ثم يذهبُ فيصلي العصرَ، ثم يقعدُ للتدريسِ إلى المغربِ، ثم يصلي المغربَ، ثم يبدأُ في تدريسِ الفِقهِ واستقبالِ الطُّلابِ إلى صلاةِ العِشاءِ، ثم يصلي العشاءَ، ثم يدخل بيتَهُ، ويغلقُ بابَ دارِه فلا يدخلُ عليه أحدٌ إلا في أمرٍ ضروريٍ، وينقطعُ للتَّصنيفِ(لتأليفِ الكتبِ)، مع المحافظةِ على حزبِه من القرآنِ الكريمِ، برنامجٌ حافلٌ: حوى حقَ اللهِ-تعالى-، وحقَ النفسِ، وحقَ الأهلِ، وحقَ الناسِ، حوى العلمَ والعبادةَ ونفعَ غيرهِ.
فقالَ الطبيبُ النصرانيُ العبارةَ الخالدةَ: "واللهِ لو كنتَ في ملتِنا؛ لَعُدِدتَ من الحواريينِ الذين هم رسلُ المسيحِ عليه السلام".
إن هذا الشيخَ هو محمد بنُ جريرٍ الطبري-رحمَه اللهُ-تعالى-صاحبُ المؤلفاتِ العظيمةِ، الذي قال لتلاميذِه يومًا: أتنشطونَ لتفسيرِ القرآنِ؟-يعني: تريدونَ أنَّ أكتبَ لكم تفسيرًا للقرآنِ- قالوا: كم يكونُ قدرُه؟-يعنونَ كم عددُ أوراقهِ؟-قال: ثلاثونَ ألفَ ورقةٍ، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمارُ قبلَ تمامِه!، فقال: إنّا للهِ! ماتتْ الهممُ! فاختصرَه في ثلاثةِ آلافِ ورقةٍ، وأملاه في سبعِ سنين.
ثم قالَ لهم: أتنشطونَ لتاريخِ العالمِ من آدمَ إلى وقتِنا هذا؟ قالوا: كم قدرُه؟ قال: ثلاثونَ ألفَ ورقةٍ، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمارُ قبلَ تمامِه!، فقال: إنّا للهِ! ماتتْ الهممُ! فاختصرَه في ثلاثةِ آلافِ ورقةٍ.
قالَ الخطيبُ: وسمعتُ السِّمْسِميَ يحكي أن ابنَ جريرٍ مكثَ أربعينَ سنةٍ، يكتبُ في كلِ يومٍ منها أربعينَ ورقة-يعني كتبَ أكثر من نصفِ مليونِ ورقةٍ.
هذا مثالٌ من سلفِكم وكيفيةِ استغلالِهم لأوقاتِهم، فكيف بكم أيها الأحفادُ؟
أخي الكريمُ: أليس الوقتُ هو الحياةُ، ألستَ مسئولًا عنه؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عنْ أربعٍ،-وذكرَ منها: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟، وعنْ شبابهِ فيم أبلاه؟).
ألم تقرأْ في كتابِ اللهِ-تعالى-: وَالْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ،...يقسم الجبارُ-جلَ جلالُه-بالأوقاتِ تعظيمًا لشأنِها، وإنها واللهِ لعظيمةٌ.
إن المؤمنَ لا يمكنُ أن يفرطَ بأي ساعةٍ من ساعاتِه، وهو يعلمُ أنَّ هذا اليومَ إذا ذهبَ فلن يعودَ إلى يومِ القيامةِ، جاء معاويةُ بنُ خَديجٍ-رحمه الله-يبشِّرُ أميرَ المؤمنينَ عمرَ بنَ الخطابِ-رضي اللهُ –تعالى-عنه-بفتْحِ الإسكندريَّة، فوصلَ المدينةَ وقتَ القيلولةِ، فظنَّ أنَّ عمرَ نائمٌ يستريحُ، فمالَ إلى المسجدِ، ثم عَلِمَ أنَّه لا ينامُ في ذلك الوقتِ، فقال عمرُ-رضيَ اللهُ عنه-: ماذا ظننتَ يا معاويةُ؟، قال: ظننتُك قائِلا–يعني نائمًا القيلولةَ-فقالَ عمرُ لمعاويةَ: "لئن نِمتُ النَّهارَ، لأضيعنَّ حقَّ الرَّعيةِ، ولئن نمتُ الليلَ، لأضيعنَّ حقَ اللهِ، فكيف بالنَّومِ بين هذينِ الحقَّينِ يا معاويةُ"، اللهُ أكبرُ يا عمر، ليتكَ ترى المقاهيَ والاستراحاتِ التي بُنيتْ، والأجهزةَ التي صُنعتْ لتضييعِ الأوقاتِ.
يُذكر أن الشيخَ جمالَ الدينِ القاسمي-رحمه اللهُ-وهو من علماء الشامِ في القرنِ الماضي-مَرّ بمقهى، فرأى روادَ المقهى وهم منهمكونَ في لِعبِ الورقِ والطاولةِ وشربِ المشروباتِ ويمضون في ذلك وقتًا طويلًا، فقال رحمَه الله: "لو كان الوقتُ يُشترى لاشتريتُ من هؤلاءِ أوقاتِهم".
أخي المبارك: لتغتنمْ أوقاتَك كما وصاكَ نبيُك-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلم-: "اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حياتَكَ قبلَ موتِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ"، وكانَ ابنُ عمرَ-رضي الله-تعالى-عنهما-يقولُ: "إِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ***إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِ
فماذا كانَ أثرُ هذه القدوةِ الحسنةِ على حمادِ بنِ سلمةَ-رحمه اللهُ-تعالى-؟، قال عنه تلميذُه-الإمامُ عبدُالرحمنِ بنُ مهدي-رحمه اللهُ-تعالى-: "لو قيلَ لحمـادِ بنِ سلمة: إنك تموتُ غدًا ما قَدِرَ أن يزيدَ في عملهِ الصالحِ شيئًا"؛ لأنه ملأَ وقتَه كلَّه بطاعةِ اللهِ.
إياكَ أنْ تخسرَ أوقاتَ فراغِك، قالَ-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"، فلا تكنْ من الكثيرِ الخاسرينَ، وكن من القليلِ الرابحينَ، كن شحيحًا على وقتك، بخيلًا به، قالَ أبو بكرٍ بنُ عياشٍ: "أحدُهم لو سقطَ منه درهمٌ لظلَّ يقولُ: إنا للهِ وإنا إليه راجعون ذهبَ درهمي!، وهو ذهبَ يومُه ولا يقولُ: ذهبَ يومي ما عملتُ فيه؟!).
ألبرتْ أنشتاين-الفيزيائيُ الألمانيُ المشهورُ-من شدّةِ حرصِه على الوقتِ، كان لا يلبسُ الأقمصةَ بأكمامٍ فيها أزرارٌ، لأنّ غلقَها وفتحَها يُضَيِّعُ عليه وقتًا ثمينًا، هذا وهو لا يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ، ولكن عندنا في الإسلام أمثلةٌ أعظمُ.
يقول أبو الوفاءِ بنُ عَقيلٍ-رحمه اللهُ-تعالى-: "إني لا يحلُ لي أن أضيعَ ساعةً من عُمُري، حتى إذا تعطّلَ لساني عن مذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حالِ راحتي وأنا مُستطرحٌ-مستلقٍ-، فلا أنهضُ إلاّ وقد خطرَ لي ما أسطرُه، وأنا أُقَصِّرُ بغايةِ جَهدي أوقاتَ أكلي، فأختارُ سَفَّ الكعكِ اليابسِ مع الماءِ؛ لأنهُ أسرعُ من أكلِ الخبزِ اللينِ؛ لأوفرَ وقتًا لمطالعةٍ أو تسطيرِ فائدةٍ لم أدركها فيه". انتهى كلامُه بتصرف يسيرٍ.
الخطبة الثانية
كانَ ابنُ مسعودٍ-رضي اللهُ عنه-يقولُ: "إني لأكره أن أرى الرجلَ فارغًا، لا في عملِ الدنيا، ولا في عملِ الآخرةِ".
إن هذه الإجازةَ عُمُرٌ طويلٌ من حياتِك طويلٌ فاستثمره بعملِ الصالحاتِ التي تقربُك من اللهِ والجنةِ: ذكرِ اللهِ، قراءةِ القرآنِ، حفظِ آيةٍ ومراجعتِها مع تفسيرِها، قراءةِ حديثٍ مع شرحِه، قراءةِ كتابٍ نافعٍ، برِ الوالدين بمساعدِتهما في بعضِ الأعمالِ، صلةِ الأرحامِ، مساعدةِ المحتاجينَ، إطعامِ المساكينِ والطيورِ والحيواناتِ، كفالةِ اليتيمِ، إكرامِ الضيفِ، زيارةِ أحدِ الجيرانِ، العمرةِ، الصيامِ، صلاةِ النافلةِ-الزائدةِ عن الفرائضِ-، حضورِ درسٍ، تشييعِ جنازةٍ، تعزيةِ مصابٍ، سقايةِ عطشانٍ، إماطةِ الأذى عن الطريقِ، البحثِ عن عملٍ في الصيفِ، إتقانِ حرفةٍ، حضورِ دورةٍ، تعلمِ لغةٍ، تحسينِ خطٍ، ممارسةِ رياضةٍ...
وهكذا تقلبْ في طاعةِ اللهِ-تعالى-، ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا، وتذكر قولَ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ".
[/align]
المرفقات
املأ فراغك-13-8-1437ه-هلال الهاجري-الملتقى-بتصرف.docx
املأ فراغك-13-8-1437ه-هلال الهاجري-الملتقى-بتصرف.docx