اليقين معراج المتقين
محجوب كوري
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة منزلة اليقين
الحمد لله الرحيم التواب ,الحمد لله الغفور الوهاب ,الحمد لله الذي يكشف عن عباده المصاب ,الحمد لله فارج الهم وكاشف الغم ,مجيب دعوة المضطر فما سأله سائل فخاب ,يسمع جهر القول وخفي الخطاب ,أخذ بنواصي جميع الدواب ,سبحانه من إله عظيم لا يماثل ولا يضاهى ولا يرام له جناب …
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ,وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ,وصفيه وخليله ,وخيرته من خلقه ,وأمينه على وحيه ,أرسله ربه رحمةً للعالمين ,وحجةً على العباد أجمعين ,فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين ,وأصحابه الغر الميامين ,ما اتصلت عينٌ بنظر ,ووعت أذنٌ بخبر ,وسلّم تسليماً كثيراً …
أما بعد عباد الله …
قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد واتقوا الله إن خبيرٌ بما تعملون )
فإن من أعلى المنازل ,التي تنافس فيها المتنافسون ,وبها تفاضل المتفاضلون ,وإليها شمّر العاملون ,منزلة هي من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ,منزلة اليقين ,جعلها -سبحانه- وصفاً لأهل الإيمان (وبالآخرة هم يوقنون) ,وخصّ أهلها بالإنتفاع بالقرآن (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) ,وجعلها -سبحانه- مرتبةً عُليا ,يصطفي إليها من يشاء من عباده (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) ,وجعلها غاية تدبير الأمر وتفصيل الآيات (يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) ,وبها وبالصبر تنال الإمامة في الدين (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) ,وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليقين بقوله لأبي هريرة رضي الله عنه : (اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) .
عباد الله …
روى الترمذي وحسنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال :قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ,ثم بكى ,فقال : (اسألوا الله العفو والعافية ,فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية ) .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (اليقين الإيمان كله) ,وقال أبوبكر الورّاق رحمه الله : (اليقين مِلاك القلب) ,وقال الحسن البصري : (باليقين طُلِبت الجنة ,وباليقين هُرب من النار ,وباليقين أُدّيت الفرائض ,وباليقين صٌبر على الحق) .
قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- : (لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية ,فاليقين يرفع عنه عقوبات الآخرة ,وبالعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه) .
عباد الله ...
اليقين على ثلاث مراتب ,أولها (علم اليقين) ,وهو العلم الجازم الذي لا شك فيه ,كإيماننا باليوم الآخر ,وبالجنة والنار ,فإذا كان يوم القيامة ,ورأينا الجنة دار المتقين بأعيننا فهو (عين اليقين) ,قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليس الخبر كالمعاينة ,إن الله عزوجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح ,فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) ,وهي المنزلة التي سألها إبراهيم عليه السلام ربه في قوله : (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك فاجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) ,و(حق اليقين) مباشرة الشئ بالحواس ,كدخول الجنة ,أو ذوق العسل .
عباد الله …
اليقين إذا رسخ في القلب أورث نوراً وإشراقاً ,فالشك يورث القلق والضجر ويلهب في القلب حرارة ًلا يطفئها إلا برد اليقين ,لذلك يقال : (ثلج صدره ,وحصل له برد اليقين) ,ولم يأت الشك ممدوحاً أبداً في كتاب الله ,لا كما يروّج المبطلون ,بل جاء المدح للمتقين ,قال ابن القيم رحمه الله : (وسمعت شيخ الإسلام رحمه الله يقول : إن في الدنيا جنّة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ,وقال لي مرةً : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ,أين رحت فهي معي لا تفارقني ,إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة ,وكان يقول في محبسه في القلعة :لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة ,وقال لي مرة :المحبوس من حُبس قلبه ,والمأسور من أسره هواه ,ولما دخل القلعة وصار داخل سوارها نظر إليه وقال :(فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) ,ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق ,وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً ,وأسرّهم نفساً ,تلوح نضرة النعيم في وجهه ,وكنا إذا اشتدّ بنا الخوف وساءت منّا الظنون ,وضاقت بنا الأرض ,أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه ,فيذهب ذلك كلّه ,وينقلب إنشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينةً ,فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ,وفتح لهم من أبوابها في دار العمل ,فأتاهم من رَوحها ونسيمها ونعيمها وطيبها ,ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها .اه
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
- الحمد لله رب العالمين ,الرحمن الرحيم ,مالك يوم الدين ,لا عز إلا بطاعته ,ولا سعادة إلا بمرضاته ,ولا نعيم إلا بذكره …
وصلى الله على رسوله محمد ,وسلم تسليماً كثيراً …
أما بعد ,عباد الله …
فكيف نسموا بأنفسنا إلى اليقين ؟ وكيف نربي أنفسنا عليه ؟ونرتقي بإيماننا إلى هذه المرتبة الشريفة؟ والمنزلة الرفيعة المنيفة ؟
-أول هذه الأسباب :
١- دعاء الله تعالى بصدق أن يرزق عبده اليقين الذي لا شك بعده .
٢- دفع الواردات والخواطر التي ترد على يقينه ,فلا يقرأ في كتب الضلال ,ولا يسمع للملحدين ولا الضالين ,لأن القلوب ضعيفة والشبه خطافة ,أما الحق فراسخ بأدلته رسوخ الجبال .
قال تعالى :
(وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً)
٣- طلب الحق من القرآن ,فإن فيه شفاء القلب من أمراض الشك والريب ,قال تعالى :( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)
ومن طلب الهدى بما خالفه من كلام البشر ,وقع في الحيرة والإضطراب .
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال .
٤- التصديق الجازم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ,قال تعالى : (وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحيٌ يوحى) .
عباد الله …
ثمرات اليقين عظيمة ومنها :
-أنه سبب الهدى والفلاح في الدنيا والآخرة (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)
-يورث الزهد في الدنيا وقصر الأمل ,ولا تتعلق نفسه بها ,لعلمه أنه دار ابتلاء وليست وطناً ,وكالزاد للمسافر ,فإن التكالب على الدنيا ثمرةٌ للغفلة .
-يولد الصبر ,قال تعالى : (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ,روى البخاري في صحيحه ,أن أم حارثة رضي الله عنها ,لما قتل ولدها حارثة -رضي الله عنه- في بدر ,جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,فقالت :يا رسول الله ,قد عرفت منزلة حارثة مني, فإن يكن في الجنه أصبر وأحتسب ,وإن تكن الاخرى ترى ما أصنع ,فقال: (ويحك! أوهبلتِ أو جنةٌ واحدةٌ هي انها جنانٌ كثيرةٌ وإنه لفي جنةِ الفردوس )
-يورث الرضا بقضاء الله وقدره ,قال تعالى :( ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدي قلبه ) ,قال سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه :مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامراةٍ من بني دينار وقد اصيب زوجها واخوها وابوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد ,فلما نعوا لها قالت :ما فعل رسول الله؟ قالوا :خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين ,قالت :أرونيه أنظر إليه فأُشير لها اليه ,فقالت :(كل مصيبةٍ بعدك جلل) .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات اللهم كن لعبادك المستضعفين في مشارق الارض ومغاربها يا رب العالمين ربنا اتنا في الدنيا حسنه وفي الاخره حسنه وقنا عذاب النار وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى اله وصحبه وسلم
المرفقات